هكذا تبنى الحضارات

من أروع الاجابات العميقة التي ترسم دور الفرد في البناء الحضاري تلك التي أجابها المفكر السوري الشركسي جودت السعيد حين سئل كيف تبنى الحضارات؟ قال: "بأداء الواجبات الصغيرة." الواجبات الصغيرة تشكل الصورةَ النهائية، والمنتج الختامي. الفلاح يصنع من البذور الصغيرة حقلا كاملا. أغلب أحاديثنا تتجه لرسم الصورة الكاملة ولذا عجزنا عن إيجاد الرسام الذي يحمل القلم الكبير لرسمها. الصورة الكاملة للحضارة لا ترسمها إلا أقلام صغيرة كل واحد يرسم جزاء صغيرا. نحن نتحدث عن انجازات الآخرين كـ(اليابان، كوريا، ألمانيا) في صورتها النهائية لكنا لا نتحدث عن تفاصيلها اليومية. واحدةٌ من أكبر إشكالياتنا إشكالية «الكلام الكبير» نتقنُ فنّ الكلام الكبير الذى يستخدم العبارات الطنّانةِ والجملِ الرنّانة، لكن الكلام العظيم لا ينجز إلا بتفتيته إلى «واجبات صغيرة»..! مأزق فكري مرسوم في تصوراتنا يستحضر الصورة النهائية للحضارة ويراها مستحيلة البلوغ. بينما هي قابعة في تفاصيل أعمالنا وانجازاتنا اليومية المتقنة، تكمن في الانشغال المركز في أداء كل شخص لواجباته بمسئولية وبرؤية واضحة. ركز على العمل الذي بين يديك فقط، قم بتجويده وتحسينه وأدائه على النحو الممتاز. حين يتقن النجار أداء عمله، ويتقن الحداد، ويتقن الخياط، ويتقن الموظف، ويتقن السائق، تكون الصورة النهائية حياةً متقنة. على جلسة قهوة تجلس تنتقدُ صاحب القهوة الذي لم يتقن صناعة قهوتك، وتتوعدُه في نفسك بعدم العودة إليه ثانية، وتنتقدُ الخياط الذي عبث بخياط ملبسك بينما آخررون ينتقدون تقصيرك أنت في أداء واجباتك. وهكذا مجتمع يدين بعضه بعضا ويتهمه بالتقصير. سرق مصحف الإمام أبو حنيفة فضج المسجد بالبكاء قال جميعكم يبكي فمن سرق المصحف؟ كلنا نشتكي !! لكن من هو المتهم؟ من الأفضل أن تنشغل بتجويد عملك وتنهمك فيه وتعتقدَ جازما أن هذا هو الموقع الذي ترفد الحضارة من خلاله. فى كتابه «مشكلة الثقافة» يقول مالك بن نبي: « الذى ينقص المسلمُ ليس منطقُ الفكرة، وإنما منطقُ العملِ والحركة" تراكمية الواجبات الصغيرة، تصنع المنتج النهائي لصورة الحضارة الكاملة. ذكرَ مقال منشور فى مجلة Forbes «أنه قبل أكثر من ثلاثين عاما قررت الخطوط الأمريكية «أمريكان إيرلانز» خصم حبةً زيتون من كل طبق ، فاكتشفت أنّها وفّرت أكثر من 40 ألف دولار..! لقد آن الأوان أن تكف عن نقد الآخرين وتركز فيما بين يديك من مهام. وهكذا تبنى الحضارات.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص