الدين المعاملة – سالم خندور (تسجيل صوتي)

الحمد لله ...

أيها الأخوة المؤمنون:

الإسلام دين كامل شامل ، فكما هو عقيدة سليمة ، فهوا أيضاً عبادة صحيحة وهو تشريع يحتكم إليه المسلمون في جميع شئون حياتهم ، وهو كذلك أخلاق ومعاملات ، هذا هو الإسلام دين متكامل لا يتجزأ قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) وسنقف اليوم مع احد أعمدة هذا الدين القويم التي لا تنفصل عن الأجزاء الأخرى ، وسيكون موضوعنا اليوم إن شاء الله تعالى ( الدين المعاملة ) وهي عبارة كثيراً ما نسمعها ونرددها ، ويحسبها كثير من الناس حديثاُ نبوياً ، وما هي بحديث ، ولكن معناها صحيح تشهد له مقاصد الدين في كثير من آيات القران الكريم والأحاديث النبوية ، بما تنص عليه من أهمية السلوك والمعاملة في حقيقة التحلي بالإسلام وتطبيقه ، فالمعاملة هي معيار التزام المسلم بدينه ، وبرهان إيمانه وتقواه ، فلا يجدي تدين لا يستقيم على إحسان المعاملة ، لذا فالالتزام بالإسلام لا يقتصر على الإيمان وأداء الشعائر التعبدية الظاهرة وحدها كالصلاة والزكاة الصيام والحج ، وإن كنا لا نقلل من أهمية هذه العبادات التي تمثل أركان الإسلام وأعمدته ولا يصح إسلام شخص إلا بأدائها ، ولكن لا بد أن يكون لهذا الإعمال أثار طيبة على سلوك المسلم وتجعله متميزا في جوانب حياته كلها أقولاً ، وأفعالاً ، وأحوالاً  ..

 

أيها الاخوة المؤمنون :

لقد مر بالمسلمين زمن شغلوا فيه بالدنيا عن التفقه في الدين فتسربت إليهم أوهام في فهم الإسلام فأصبح من يتوهم الإيمان مجرد شعور قلبي لا حاجة معه إلى أفعال تعبدية ولا خلقية ، ويزعمون أن الله غني عن طاعاتهم ما دام يطلع على ما في قلوبهم من حسن الظن به "وكذبوا ، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل "كما قال الحسن البصري . ومنهم من توقفوا بدينهم وتدينهم عند الشعائر التعبدية وحدها ، ولا يعنيهم منه مقاصده وأحكامه وضوابطه في الأخلاق والمعاملات ، فإذا هم على تصرفات تناقضه كليا أو جزئيا ، يفرقون بين الدين والدنيا ،وبين الدنيا والآخرة ، فإذا فرغوا من هذه العبادة أو تلك ، قد لا تجد للإسلام دوراً أو أثرا في حياتهم العملية ،وقد يتساهلون أو يترخصون في المحرمات والمنكرات القولية والفعلية ، ويحسبون عباداتهم وحدها تغنيهم أو تشفع لهم، { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }. 

لكن المؤمنين الصادقين ، الذين يأخذون دينهم عن علم ويقين وبصيرة ، يستجيبون لشريعته ويلتزمون به إيمانا وعبادة وأخلاقا ومعاملات ، على قدر استطاعتهم ، لا يفرقون بين أركانه وأحكامه وآدابه ولا ينتقون ولا يعطلون .

 

أيها الاخوة المؤمنون :

 لقد جعل الإسلام حسن المعاملة والعلاقة مع الآخرين من كمال الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم:( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ) (رواه البخاري).

وكذلك فان أخفاق المسلم في مجال المعاملات بالتهاون والتفريط ، له عواقب وخيمة على عباداته نفسها ،التي قد يكون مصيرها الإحباط  :(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورً ) أو ضياع ثوابها بسبب إساءته في معاملة الناس ، كما هو حال المفلس الذي أخبر عنه النبي الكريم وحذر فقال :( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ" قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) ( أَخْرَجَه مُسْلِم). فَهذَا الْمُفْلِس جَاء بِالإِسْلَام الْظَّاهِر في العبادات مِن صَلاة وَصِيَام وزكَاة وَلَكِنه أساء  فِي مُعَامَلَة الْخَلْق ،وفرق في تدينه بين العبادة والسلوك ،اجتهد في أداء حقوق الله بالعبادة ، وتنكر لواجب حقوق العباد ، فَدَل ذلك عَلَى ضَعْف إِيْمَانه وَتقواه ، فَرَسَب فِي موازين العدل يَوم الْقِيَامَة .

 

 أيها الاخوة الأفاضل :

قد تكون المعاملة السيئة مع الناس سبباً لدخول النار حتى ولو مع الاجتهاد في العبادات، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:( قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي النَّارِ. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ – القطع من الجبن- وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي الْجَنَّةِ) (رواه أحمد). بل إن الإسلام يسمو بالمسلم في علاقاته مع الخلق أجمعين، حتى مع الحيوان، فكانت الجنة جزاء امرأة بغي من بني إسرائيل رق قلبها رحمة ،فسقت كلبا أوشك على الموت عطشا ، بينما كانت النار مصير امرأة أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها:( دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ) ( رواه الشيخان).

 إن الإسلام الذي انتشر في بلدان آسيا كالصين واندونيسيا وماليزيا وفي أفريقيا وغيرها ، لم يكن برايات الفتوحات الجهادية ، وإنما كان بأخلاق المهاجرين والتجار المسلمين الذين ما كانوا فقهاء ولا علماء ولا متخرجين من معاهد إعداد الدعاة  ،إنما كانوا على الإسلام الصحيح الذي تشهد به أخلاقهم في معاملاتهم للناس بالحق والعدل والإحسان ، فكانوا بها قدوات طيبة مقنعة وفاعلة ، ترغب في الإسلام و الإقبال عليه . ذلك الذي نفتقده اليوم وقد اضطربت أخلاقنا وساءت معاملاتنا فأضحى تديننا شكليا  فاقد الروح ، عديم الثمار السلوكية الطيبة ، بل صارت الكثير من أحوالنا وتصرفاتنا منفرة من الدين من حيث لا ندري . يتخذها الأعداء حجة لاتهامه والدعاية المضادة له .  وفي ذلك قصة الرجل الغربي الذي شرح الله صدره فأسلم وتعلق شوقه بالعيش بين المسلمين ، فلما أتيح له ذلك ، أصبح يقول : احمد الله أني اقتنعت بالإسلام  وأسلمت قبل أن أعيش بين المسلمين ، ولو عاشرتهم قبل ذلك ربما لم أكن أسلمت .

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله  ..

أيها الاخوة المسلمون :

إن أكثر المعاملات التي يفشل فيها كثير من المسلمين هي التعامل مع المال ، فتجد مسلماً ربما يجتاز كل العقبات ويتعامل مع الناس معاملة حسنة مع أهله وجيرانه وأصحابه ولكنه إذا واجهه امتحانا في المعاملات المالية فإنه يرسب .. لهذا تجد كثيراً من المسلمين اليوم يصلون ويصومون ولكنهم يرتشون ، وربما ينهبون من المال العام إذا تمكنوا من ذلك ، وقد يتعاملون بالربا ، ولهذا أعطى الإسلام هذا الجانب أهمية كبيرة ، فهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم عرف بين قومه بالصادق الأمين فنال بذلك الخلق ثقة الجميع وتقديرهم حتى من أعدائه فقد كان بعض كفار قريش يودعون أماناتهم عنده صلى الله عليه وسلم ، وها هو فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجعل التعامل بالمال ركناً أساسياً في معرفة الرجال وتزكيتهم فلقد طَلَب الْفَارُوْق مِن رَجُل أَن يَأْتِيَه بِمَن يَعْرِفه حَق الْمَعْرِفَة لِيِضمنه فِي مَسْأَلَة، فَلَمَّا جَاءَه بِالْرَّجُل ابْتَدَرَه الْفَارُوْق سَائِلاً: أَنْت جَارُه الأَدْنَى؟ قَال: لا، قَال: إِذَن فَقَد رَافَقَتْه فِي سَفَر؟ قَال: لا ؟ قَال: فَلَعَلَّك عَامَلْتَه بِالْدُّرهْم وَالْدِّيْنَار؟ قَال: لا، قَال: إِذَن فَلَعَلَّك أَبْصَرْتُه فِي الْمَسْجِد يَرْفَع رَأْسَه تَارَة وَيَخْفِضُه تَارَة ؛ قَال: نَعَم، قَال: اذْهَب فَإِنَّك لا تَعْرِفُه ).  

 أيها المؤمنون :

ينبغي للمسلم أن يكون ورعاً في جانب المعاملات المالية ، وأن يبتعد عن المحرمات فيها كالربا ، والرشوة ، وتطفيف الميزان ، وان يحرص على الصدق في البيع والشراء ، وأداء الديون في أوقاتها فان هذا الأمر يشكوا منه كثيرا من التجار واصحاب الدكاكين ، وهو المماطلة في أداء وتسديد الديون ، فإن كثير من الناس يضطرون إلى الاستدانة بسبب الظروف الاقتصادية والمعيشية ، ولكن ينبغي لمن استدان أن يسدد ما عليه من ديون حسب الوقت المتفق عليه ، ولا يماطل في أدائه ، وينبغي للمسلم أن لا يلجأ إلى الإستدانة إلا إذا اضطرته الظروف إلى ذلك وأن لا يجعل الاستدانة عادة لديه ، كلما رغب ، في شيئ استدان واشتراه فإن الديون إذا كثرت تصبح هماً كبيراً ولقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين فقال : ( اللهم أني أعوذ بك من الهم والحزن واعوذ بك من العجز والكسل واعوذ بك من الجبن والبخل ومن غلبة الدين وقهر الرجال ) .. فإن الدين ( هم بالليل مذلة بالنهار ) فليبادر المسلم إلى أداء ديونه أولاً بأول وهؤلاء التجار الذين يدينون الناس يقدمون خدمة لإخوانهم يحتسبون أجرها عند الله عز وجل ، فلا نقابل إحسانهم هذا وتيسيرهم بالمماطلة وعدم أداء الديون .

وصلوا وسلموا ..

خطبة 20 جمادى الآخرة 1433هـ الموافق 11 مايو 2012 م بمسجد عمر حيمد بسيئون / القرن

(تسجيل صوتي)

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص