الهشيم ( قصة قصيرة )

تذكّر كيف كان يحكي لأبنائه كل ليلة وهم صغار حكايات جميلة ، حكاياته تمحورت حول دروس الحياة، كم قاسى الكثير فيها حتى جاءه الملاك الذي خفف عنه كل همٍّ، بعد أن تزوج ذاق طعم الطمأنينة والراحة، ندم ألا يكون قد تزوج منذ سنوات، وندم أنه صدقهم ! ، أوحوا إليه بالترهات حتى رأى الزواج بلون رمادي مغبّش، تفجّر قلبه بينابيع الحزن ندماً على أفكاره تلك، أما اليوم فهو أشد ندماً أن لم يكمل سبيل تربية أبنائه وتركهم نهباً لمدرسة الشوارع وأصحاب السوء. حيّره أبناؤه فلم يعرف إلى أي طريق يسلك في تربيتهم، هم الآن قد كبروا وشبوا عن الطوق، عصوه وتمردوا عليه، استقووا بشبابهم وفتوتهم وعليه ونسوا أنه أبوهم، كانوا يوماً صغاراً فرباهم، تربية بالطعام والشراب لا تربية بالسلوك والاقتداء، وها هو المسكين يدفع اليوم ثمن ما جنته يداه، أو بالأصح ثمن تقصيره الطويل. أكبر أبنائه الذكور قد زوجّه رغم الظروف لكنه تجاه زوجته صار أرعناً، ضاق بها ذرعاً ولعب بذيله، تعرّف على أخريات، ثم عربد ! تفاجأ بها تفعل مثلما يفعل؛ وزيادة، والمفاجأة مع أصحابٍ قدامى يكن لهم الإخلاص، وفي النهاية سمع صوت الخيانة دقة بدقة. تخربت قصور حياته وانتهى المطاف بالطلاق والمفارقة، فعاد الابن إلى أبيه يحمل جريرة الفشل والخيانة. ابنه الآخر عنيد رعديد، كان في طور المراهقة، وكما يقولون هو آخر العنقود، أضرب عن الطعام، ضرب الأرض برجليه وقدميه، تحكّم، لم يكنْ له من همٍّ إلا شراء دراجة نارية، وبعد صبرٍ ثارت الأمُّ مع الابن، أخيراً خضع الأب. دارَ الابن مع دراجته بين الشوارع، في الأزقة والمنعطفات، سلك منعرجات الدروب، طاف الأرجاء، وبين صرخات الشباب وتشجيعاتهم، فحّط ثمّ فحّط، سيارة مسرعة، تجاوزٌ خاطئ، وقع الحادث، تأسف الأب، وبحرقة بكت الأمّ، وبين الألم والبكاء لم يعلما أنهما ألقيا به إلى فوّهة المجهـول. نقص عدد أبنائه واحداً بينما ضاع البقية وهم أحياء. ابنته الكبرى التي زوجها لسكير معربد، تركها مع أبنائها وهرب، وها هي تجلس مقرفصة وسط كومة من الأجساد الصغيرة النائمة، كان الإعياء قد نال منهم، بدت أصواتهم ضعيفة لقلة الاستخدام تساقطت أجفانهم من الجوع، وها هم صرعى لأحلام لا ترحم. خافت أن يستقيظوا ولا يجدوا بين يديها شيئاً ليأكلوه، تناولت خمارها وتدثرت، انطلقت لأكوام القمامة وبراميلها ، بحثت في كل شبر منها، أخيراً وجدت ما يسدّ الرمق، كان الوقت فجراً، صادفها أحد المارة أثناء خروجه لصلاة الفجر في المسجد، آلمه صراخها الصامت، بدأت الريح تثور، تساقطت الأمطار بكثافة، بينما الأب يغط في نعاس عميق. أما الابن الأوسط المتعلم الذي كان الأمل الأخير لأبيه، فقد خاب فيه الأمل، انهى الثانوية، وسجل في الجامعة، بدا سعيداً وهو يحمل لقب ( جامعي )، تفاخر وانتفش، " أخيراً سأتحرر من ربقة التعليم التقليدي إلى حرية الطلَب " خاطب ذاته "سأريهم كيف أصنع مستقبلي وأستمتع في نفس الحين بشبابي المكبوت". اختار كلية الآداب، كانت تغصّ بالجنس الآخر اللطيف!! ومن السنة الأولى وقع في حبّ زميلة له، أسرتْهُ بطرْفِها، أُغرم بعينيها النجلاوين وجمالها الأخّاذ، وفي القاعة كان يقتعد كرسياً معيناً كي يكون بقربها قدر ما يستطيع، وبين المحاضرات كان يجول في ساحة الجامعة، يحوم حول المكان الذي تحوم فيه، يقوم بجولة ثاقبة، يدنو منها باحتراس ليتمتع برؤيتها ويمطرها بسيل من الغَزَل. كانت سعيدة بذلك بالرغم من أنها لم تظهر رضاها عنه بشكل سافر، ألهاه العشق عن دراسته تأخر ثم تأخر إلى أن صار فاشلاً، تركتْه لأنها لا تريد شخصاً فاشلاً، هجرتْه ثم تجاوزته إلى غيره، وبات المسكين يبكي على الأطلال، وتبخرت آمال الأب وصار مستقبل الابن كسراب بلقع. وأخيراً ابنته الصغرى، كانت في الحقيقة مطلّقة، أطلق عليها الجميع رصاص التوجّس، نظر المجتمع إليها كآثمة، لكنها كانت بريئة مما يفترون، تغيرت نبرات تعاملهم معها، حتى أفسدوا نفسيتها، هم لم يفهموها لم يستمعوا لشجونها وأحزانها، كرهت كل شيء، وفي ظلمة الليل جلست تبكي، كانت تهزّ رأسها مغضبة من فرط البكاء والألم، تلاشى جمالها الأخّاذ، ذلك الجسد البضّ الرشيق، بدى كهيكل الموت يلوذ خوفاً من الناس خلف عباءة سوداء . وبعد رحلة أليمة بين ثنايا أسرة فاشلة، تفكر الأب فيما آل إليه حاله، تحطمت نفسه وتفتّت فيها الأمل، واندثر في زواياها، لم يعُدْ أحد يراه في أيّ مكان، وفي ذات يوم ودّع الحياة بأجفانٍ ملؤها الحزن والأنين. بقلم / أحمد باحمادي

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص