صالح .. رحيل مأساوي وتركة ضائعة..

لا أسوأ من النهاية المأساوية للرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، إلا السيناريوهات التي يعاد رسمها بعد قوع الحدث، في محاولة لتصوير صالح على أنه الجندي الأخير الذي كان يقاتل في خندق الجمهورية. إنها محاولة مكشوفة ويائسة لاستثمار مقتله في إعادة لململة التركة السياسية الضائعة وإنتاج زعامات وأدوار لا علاقة لها بالدولة التي ينشدها اليمنيون المقاتلون في الصفوف ضد مشروع الإمامة الذي سلمه صالح كل أدوات ومقدرات الدولة ونظامها الجمهوري. شغل علي عبد الله صالح الجزء الأكبر من العهد الجمهوري وكان بإمكانه أن يجعل الثورة ونظامها الجمهوري راسخين رسوخ الجبال، لكنه تحصن بكل الأدوات الهدامة والتي عملت على تآكل النظام الجمهوري وتهديمه لبنة لبنة، ومنها إبقاء القبائل الزيدية عمود حكمه ومورده الأساس في بناء الجيش والأمن، مع حرص شديد على إبقائها بعيداً عن نور المعرفة، وعن التنظيمات والروابط الحديثة التي تشكل أساس المجتمع المدني، بما هو رهان الدولة الحديثة والديمقراطية، دولة المواطنة والنظام والقانون. تبددت تركة صالح وتلاشت سريعاً، قبل أن يغادر الحياة بهذه الصورة المأساوية، إلى حد يمكن معه القول إن الدولة التي استحوذ عليها لأكثر من ثلاثين عاماً وأعاد تشكيلها وفق أولوياته وطموحاته ونزعاته، لم تعد موجودة الآن، بكل مؤسساتها ورجالها وحزبها ومنظومتها الأمنية والعسكرية، كل شيء تحول كل شيء تغير، كل شيء أصبح إمامياً صارخاً وينهق بالصرخات المقززة في شوارع صنعاء وفي المعسكرات والجبهات، كل شيء يدل على بدء مرحلة شديدة السوء من تاريخ اليمن، لا يمكن أن تنزاح إلا بالقوة القهرية في معركة يجب أن تستهدف كل المحاولات التي تبرر لعهد صالح وممارساته. تلاشى نفوذ لقبائل المحيطة بصنعاء، التي ظلت ترضع من الدولة، وتعيش وضعاً خاصاً خارج منظومة القانون، تقتل وتتقطع وتنهب، وتخالف النظام والقانون، تحت غطاء واضح من صالح، لم يتبق معه في ساعة المواجهة الحقيقية سوى “صاحب شبوة”، الذي يسكن غير بعيد من “صاحب أبين”، وصاحب تعز وصاحب عدن، وصاحب حضرموت، وصاحب ردفان. سيقت رؤوس قبائل طوق صنعاء، كالنعاج إلى ساحة القصر الجمهوري بصنعاء لتستمع إلى تعليمات أبو علي الحاكم، في الوقت الذي كانت فيه كتائب الحوثي تطبق الحصار على منزل المخلوع صالح وتضيق عليه الخيارات، وما أن انفض الاجتماع حتى تسارعت المعارك ليلقى صالح مصيراً مأساوياً يشبه إلى حد ما مصير تشاو سيسكو ديكتاتور رومانيا، الذي ظل ممسكاً بقبضة أمنية قوية سرعان مع تخلت عنه ليواجه مصيره وحيداً في لحظة شهدها العالم بدهشة كبيرة. ظل صالح طيلة فترة خضوعه المذل لنفوذ الحوثيين يسوق أكذوبة أنه الممسك بزمام الأمور أو أنه على الأقل لا يزال يستطيع قلب الطاولة عليهم في اللحظة المناسبة. تصدر المشهد الإعلامي والسياسي مهاجماً “دول العدوان” وعارضاً الشروط غير الواقعية عليها لإيقاف الحرب. وفيما كان يستميت في إبقاء دوره الدعائي في ساحة لم يعد يسيطر عليها أبداً، كان الحوثيون يواصلون الإمساك بزمام الأمور وفرض الولاءات وليس شراءها كما قد يظن البعض، لأن العشائر والقادة العسكريين خضعوا بقوة السلاح وتحت وقع العنف المذل والمفزع المتمثل في “تفجير المنازل”. جبروت الحوثي لا يزال ينفذ حتى الآن بواسطة القبائل نفسها التي تذل على يد أبنائها بعد أن تحولوا إلى مسوخ حوثية لا تعرف سوى تعليمات “السيد”، ولتبرهن هذه القبيلة أنها عبء سياسي وأخلاقي واقتصادي على اليمن. بقي الجميع على ثقة بأن الزعيم صالح “الراقص على رؤوس الثعابين”، سيتدبر الأمر وسيسلك الطريق المناسب، ولكن ذلك لم يحدث ليستفيق الجميع على الحقيقة المرة وهي أن زعيمهم في وضع بائس وأن منزله الحصين في قلب صنعاء أوهى من بيت العنكبوت. لا أسوأ من عهد المخلوع صالح، إلا هذه المرحلة التي يهيمن فيها الحوثيون الطائفيون في صنعاء، الذين يفرضون نفوذهم بالحديد والنار والقتل العبثي الذي لا يردعه رادع. ويا للمفارقة فأتباع صالح الذين تخلوا عنه في اللحظات العصيبة، لا يزالون يوفرون الغطاء الكامل لهذه الميلشيا عبر إظهار أن المعركة لا تزال بذات الأولويات بالنسبة لهم، وهي استهداف ثوار فبراير وحواملها السياسية من أحزاب وشخصيات عامة وناشطين ومنظومة إعلامية. لا تزال حملة كهذه تنال من سمعة المقاتلين في جبهة الشرعية لدحر هذه العصابة، في حلمة منسقة وموجهة بإتقان نحو سحب البساط من تحت أقدام هؤلاء المقاتلين والتنكر لتضحياتهم الغالية، وتحميلهم فوق ما يحتملون من الانتماءات والولاءات والأهداف والغايات. لا يزال معسكر الشرعية يخضع لمعايير التمييز بين مكوناته، ويجري على الصعيد العسكري الإحاطة بالجيش الوطني من كل جانب، والعمل الحثيث على تحييده عبر إحلال مكونات لا تخدم المشروع الوطني: المقاومة الجنوبية المقاومة التهامية، “كتائب صالح المنضمة إلى الجيش”، وهذه الأخيرة هي الكذبة الكبرى إذ لا كتائب مقاتلة مع صالح، ولم يعد هناك حرس جمهوري، إنها مغامرة خطيرة لن تستفيد منها سوى الميلشيا الطائفية. علينا أن نتجاوز مرحلة صالح فقد مات منذ أن وضع يده بيد الحوثيين وقرر الانتقام من المرحلة المشرقة الوحيدة التي شهدت ثورة فبراير 2011، والإجماع الوطني الذي تحقق حول مستقبل الدولة والوطن في مؤتمر الحوار الوطني.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص