عندما تحدث الأديب علي أحمد باكثير في سيئون

حضرموت اليوم / سيئون / محمد علي باحميد

 

وصول باكثير إلى سيئون

في شهر محرم من عام 1388هـ  الموافق شهر ابريل من عام 1968م ، قدم إلى أرض وطنه وبعد اغتراب طويل الشاعر والكاتب المسرحي الكبير الأستاذ علي أحمد باكثير ليرى ويهنئ أبناء وطنه وقد انتزعوا استقلالهم وحريتهم من الاستعمار البريطاني ، وليرَ في مدينة سيئون موطن أهله مغاني صباه والوجوه التي كان يحلم برؤيتها .

 

إن قدوم الأستاذ باكثير إلى سيئون بعد سنوات طويلة من البعد عن الوطن أكد حقيقة مفادها أن البدن يمكن أن يغترب ، أما المشاعر والروح والذكريات تظل دائماً لصيقة بتراب وطنها :

 

أنا المهاجر ذو نفسين واحدة

تسير سيري وأخرى رهن أوطاني

 

يقول الشيخ عمر بن محمد باكثير ابن عم الأستاذ علي باكثير الذي أرّخ لهذه الزيارة في كتابه المطبوع على ورق الشمع ( الاستنسل ) بعنوان : ( مع علي أحمد باكثير ) الصادر عن شعبة سيئون لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في أكتوبر 1985م :

                                            أول وثيقة سفر يحصل عليها صادرة عن حكومة الشحر والمكلا 20 يونيو 1932م

                                             أول وثيقة سفر يحصل عليها صادرة عن حكومة الشحر والمكلا 20 يونيو 1932م

( كان وصوله إلى سيئون يوم الثلاثاء 11محرم 1388هـ فخرجنا إلى المطار لاستقباله ، وكان يوم وصوله يوماً لم تشهد سيئون بمثله من أيام الفرح والسرور هرع إلى مقره الناس من كل حدب وصوب زرافات ووحدانا ، وكلهم كانت تلهج ألسنتهم بالبشرى والهناء ، والكل كان يتطلع إلى رؤيته حتى ضاق المحل بالمرحبين ، ولما استقر المحتفل به والزائرون ، وهدأت ألسن المهنئين قمت بتهنئتي قائلاً فيها :

 

حي حرا أقام في مصر دهرا

يا لدهر يزري بكل الدهور

جاءنا ساحباً ذيول المعالي

حلل الفخر والفعال الخطير

ما رأت مصر منه إلا مثالاً

لكمال الآداب والتشمير

زاد فيها على الثلاثين عاماً

يتلقى من علمها المأثور

عدت يا نجل أحمد فتهنّا

بين أهليك والحمى والدور

طبت يا فخر الحضارم فانزل

في قصور القلب لا في القصور

 

ثم قام الأديب الشاعر عبدالرحمن بن أحمد باكثير وألقى قصيدة طويلة ، ثم قام الولد عبدالكريم بن عمر بن محمد باكثير وألقى كلمة طويلة ، ثم ارتأى الحاضرون أن تكون قراءة باقي القصائد والكلمات بعد صلاة العصر ) .

واستطرد الشيخ عمر بن محمد باكثير في كتابه قائلاً : ( ولما كانت الساعة العاشرة – أي الرابعة – من عصر ذلك اليوم حضر كثير من الناس جاءوا مهنئين ومرحبين بقدوم الضيف الكريم . ولما احتشد المحل قام الشعراء والخطباء ومنهم الأساتذة : عبدالقادر محمد الصبان ، والشاعر سالم زين باحميد والأديب جعفر محمد السقاف وغيرهم ، كما حضر هذه الجلسة السيد العلامة علوي بن عبدالله السقاف ) .

عندما قدم الأستاذ علي أحمد باكثير إلى سيئون كنت طالباً بالمرحلة الثانوية يومها ، وكنت أتمتع بميول أدبية ، وأقرأ كثيراً في الأدب والشعر وأتذوقهما حتى اليوم ، ولهذا فقد حرصت كل الحرص على حضور كل اللقاءات والمحاضرات التي نُظمت للأستاذ باكثير في سيئون .

 

باكثير في ساحة القصر السلطاني

ففي ساحة القصر السلطاني الداخلية أقام مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل بسيئون يوم 8 مايو 1968م حفلاً ترحيبياً تكريمياً حاشداً للأستاذ علي أحمد باكثير الذي ألقى فيه خطاباً شاملاً استهله بالشكر لكل المواطنين الذين ضاقت بهم ساحة القصر قائلاً لهم : ( إني لأتمنى لو أستطيع أن أسرّ إلى أذن كل واحد منكم كلمة شكر ، حتى يشعر أنه هو وحده المشكور ، إنني آسف على كثير مما مضى من عمري ، وجعلني أخجل من التقصير الذي كان مني في ماضي أيامي في حق هذا الوطن الحبيب ، إني أسميه تقصيراً لأنه شغلني عن هذا الوطن الحبيب مدة من الزمن ، مدة طويلة (1) ، جعلت كثيراً ممن كنت أعرفهم غير موجودين في الأحياء اليوم ، أجل .. إني لأعد ذلك تقصيراً مني ، لكني أحب أن تلتمسوا لي المعذرة ) (2) .

 

ثم تحدث عن الاستعمار وأعوان الاستعمار ، ومآسي الاستعمار في البلدان التي حكمها وشن هجومه على أولئك الذين يعتقدون أن الأمة العربية لا تستطيع أن تعيش في غير ظل المستعمرين .

 

ثم وجه خطابه إلى مواطني هذا الوادي الفسيح قائلاً لهم : ( إني أريد منكم أن تفخروا اليوم بما تحقق لكم من الاستقلال ، إني أريد منكم أن ترفعوا رؤوسكم فخراً بهذه الجمهورية الفتية جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية وبرجالها الأبطال أولئك الشهداء الذين أراقوا دماءهم على مذبح الوطنية حتى استطاعوا أن يقيموا لكم هذا الوطن الحر الآمن ) (3) .

 

ثم ربط بين اليوم الذي تحقق فيه الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م قائلاً : ( لقد كان العرب منكسي الرؤوس حينما رفعتم أنتم علم الحرية والاستقلال لقد كنتم النور الوحيد الذي كان يلمع في سماء العروبة وهي تعيش في ظلام دامس من تلك المحنة العصيبة ، فيحق لكم أن ترفعوا رؤوسكم فخراً وتيها ويحق للعرب جميعاً أن يفخروا بكم ، لقد كنتم التعويذة السحرية التي مرت على قلوب العرب فكانت برداً وسلاماً ) (4) .

 

كما دعا في ختام خطابه ذلك المواطنين إلى العمل وتشمير السواعد ، وأن العمل يسبق القول ، وخاصة أن الجمهورية الفتية قد انتهت من مرحلة الكفاح منذ الاستعمار وانتقلت إلى المرحلة الأصعب وهي مرحلة البناء والكفاح الاجتماعي حتى تلحق بركب التقدم العربي .

 

محاضرته في الاتحاد الوطني لطلبة اليمن

وفي يوم 16 مايو 1968م ألقى الأستاذ باكثير محاضرة قيمة في مقر الاتحاد الوطني لطلبة اليمن بسيئون ، بدأها بلفت نظر الحاضرين إلى التمعن واستيعاب معنى اسم هذا الاتحاد ودلالاته ، وما يرمي إليه واضعوه من أبعاد مستقبلية قائلاً : ( الاتحاد الوطني لطلبة اليمن ، هذا اللقب ذاته ، هذا الاسم ذاته ، يبعث في النفوس النشوة ، يبعث في نفسي أنا نشوة كبيرة غامرة ، لأنه يدل دلالة واضحة على ما بلغناه من الوعي في الوحدة اليمنية ثم الوحدة العربية العظمى ، الاتحاد الوطني لطلبة اليمن وليس الاتحاد الوطني لطلبة حضرموت ، وليس الاتحاد الوطني لطلبة اليمن الجنوبية ، ولكنها اليمن على الإطلاق ، أي اليمن كلها شمالها وجنوبها ، إن الذين وضعوا هذا الاسم لا بد أنهم قد وعوا ثمرة الوحدة العربية وعياً تاماً شاملاً ) (5) .

 

باكثير ينتقد المجتمع السيئوني

ثم كشف عن ملاحظة أمينة ومخلصة على سلوك المواطنين أثناء إلقاء خطابه في ساحة القصر السلطاني حيث أدان من خلالها الحال الذي كان عليه المجتمع السيئوني في الاجتماعات واللقاءات الجادة والمحاضرات ، فقد كان الناس أثناء حديثه لهم في ذلك اليوم يتعاطون ( الحنضل ) فيما بينهم ويقرّشونها وهم جالسين أمامه وسيقانهم مرفوعة ومتعارضة تحيط بها أرديتهم – الحبوة – بينما باعة الحنضل كانوا يتجولون بين تلك الجموع حاملين سلالهم صائحين ( حنضل يا شعب ) دون اعتبار لمن يتحدث أمامهم .

لقد طرح الأستاذ باكثير تلك الملاحظة حتى لا تتوارث الأجيال هذه القاعدة أو العادة خلفاً عن سلف – فالناس عبيد ما ألفوا – إنها نصيحة منه جاءت للتنبيه على فعل وقع في غير محله .

قال الأستاذ باكثير : ( إنك تستطيع أن تعرف المجتمعات من سلوكها في اجتماعاتها إذا رأيت مجتمعاً يستطيع أفراده المجتمعون في مكان ما أن ينصتوا إنصاتاً كاملاً ، وأن يتخلوا عن بعض الحركات التي لا تنم عن سلوك طيب . قيل على التعبير المصري " قزقزة اللب " هل تعرفون ما معنى " قزقزة اللب " اللب هو – الحنضل – المصريون يسمون الحنضل " لب " إنني لا أحب لكم أن تجتمعوا في مكان ما للاستماع إلى خطبة أو إلى محاضرة أو لأي شأن من الشئون ويـجمع أفراده بين الاستماع وبين شغل شفاههم بمثل " قزقزة اللب " أو أكل الحنضل ، وان هذا لا أريد أن أراه في المرة الثانية إن شاء الله حين أعود إلى حضرموت ، فإنه لا ينم عن شيء يصح لنا أن نباهي به ، ما أنا إلا واحد منكم فلا بأس أن " تقزقزوا اللب " أمامي ، ولكنكم لو فعلتم هذا أمام رجل غريب فسيكتب عنكم ما لا تحبون أن تسمعوه . إننا نريد أن نعوِّد أنفسنا عادات طيبة خصوصاً في الاجتماعات الجادة ، أما حين نلهو وحين نلعب فلا بأس بشيء من كل هذا ، كما أن لكل مكان سلوكا يناسب معه ، وإني أخشى أن تنتشر هذه العدوى وتجمعوا بينها وبين الصلاة إنه لم يبقَ إلا المسجد أن يتسلل إليه الحنضل ، إن الحنضل يـجب أن يؤكل في المكان الذي يليق به وليس في كل مكان ) (6) .

 

باكثير وقضية فلسطين

ثم اختتم محاضرته بإسهاب في قضية العرب الكبرى " قضية فلسطين " وأفصح من خلال الحديث عنها عن رأيه في حل هذه القضية ، والأستاذ باكثير معروف بألمعيته في الكثير من آرائه صادق الحدس فيها بعيد النظر ، فهو يرى أن العمل الفدائي داخل الأرض المحتلة وليس غيره هو طوق النجاة للفلسطينيين وللأمة كلها .

لقد قال في محاضرته : ( إن قضية فلسطين لا يحلها إلا العربي الفدائي الذي يبيع روحه لله وفلسطين ، إنها قضية تختلف عن القضايا كلها ، إن العرب فيها يحاربون العالم كله دون مبالغة ، إن صوتاً واحداً يستطيع أن يسمعه العالم ، صوتاً واحداً يستطيع أن يعيره العالم سمعه هو صوت الفداء الوطني في فلسطين ، إن الفدائيين يستطيعون وحدهم أن يخنقوا إسرائيل عندئذٍ فإن أمريكا لا تستطيع بقنابلها الذرية والهيدروجينية أن تصنع شيئاً ، إنها تستطيع أن تضرب مصر أو تضرب الشام أو تضرب أي بلد عربي ، لكنها لا تستطيع أن تضرب الفدائيين ، إن الأسطول السادس ييأس ويقنط ويبكي دماً حين يرى الفدائيين يعيثون في إسرائيل تحطيماً وتقتيلاً وهو لا يستطيع أن يعمل شيئاً . إن قضية فلسطين ستُحل على أيدي الفدائيين كما حُلّت قضية الجزائر ، وكما حُلّت قضية اليمن الجنوبية ) (7) .

 

يقول الشيخ عمر بن محمد باكثير في كتابه الآنف الذكر : ( في 18 صفر 1388هـ الموافق يونيو 1968م غادر الأستاذ علي أحمد باكثير سيئون إلى عدن ومنها إلى القاهرة ، وخرجنا بمعيته إلى مطار الغرف فودعناه ولم ندر أنه الوداع الأخير(*) فهذه كانت آخر نظرة إليه رحمه الله تعالى وأسبغ عليه كنف فضله ورحمته ورضوانه ) (8) .

 

الهوامش :

 

1- غادر الأستاذ باكثير سيئون عام 1932م طاف بأطراف اليمن والصومال وأقام مدة بالحجاز ، ثم انتقل إلى مصر عام 1933م وحط فيها عصا الترحال واستقر بها .

2- من كتيب ( حديثان لعلي أحمد باكثير في سيئون ) جمعها الأستاذ سالم زين باحميد ، صادر عن شعبة سيئون لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين عام 1985م . 

3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7 -المصدر السابق ( حديثان لعلي أحمد باكثير في سيئون ) .

8- المصدر السابق كتاب ( مع علي أحمد باكثير ) .

(*) توفي الأستاذ علي أحمد باكثير في القاهرة غرة رمضان 1389هـ الموافق 10 نوفمبر 1969م على أثر نوبة قلبية حادة .

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص