مقاومة بن عبدات في الشعر الشعبي

بقلم : مناف عبدالرحمن عبود

      لم يكن الشاعر الشعبي في حضرموت بمعزل عن ما يدور حوله من أحداث سياسية أو اجتماعية أو ما كان يكابده المواطنون  آنذاك من أزمات ( في حياتهم المعيشية ) اكتوت بها كل فئات المجتمع الفقيرة ومن بينهم الشعراء الشعبيون . فقد عانوا كما عانى غيرهم وأحسوا بكل آلام الناس وهمومهم كما أحس غيرهم إلا أنهم تميزوا عن غيرهم بأنهم استطاعوا أن يصوغوا معاناتهم أبياتا وهمومهم قوافي جاءت معبرة عن تلك الحقبة من الزمن و موثقة ما بها من أحداث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية .

 

     فكثير منا لا يعرف عن حرب الإنجليز لمنطقة الغرفة ولا رميها بالقنابل إلا من قول كندي :

ردوش يالغرفة كما برلين

مستر جرامس هو وشمبرلين

بن صالح مبارك لقالش رسم عاند بش قرانه

هم قايسوش العبر من رج القنابل باتقدين

أو مما دار على ألسن الناس :

قال بن عبدات رأسي ما يـجي بالقاديه

يومنا من قمت فال

جابوا الرشاش والمدفع وعينه ثانية

لي يهزين الجبال

ومن هنا فقد سبق الشعراءُ المؤرخين في تدوين الأحداث السياسية المحلية التي مرت بها البلاد .

فقد سقطت  منطقة الغرفة في يد القوات البريطانية بعد معارك برية وجوية أمطرت خلالها القوات البريطانية ما يربو على (*) 1280 قنبلة وهجًرت أهلها أثناء الحرب إلى المناطق والقرى المجاورة فقد آثرتُ الكتابة عن دور الشعر الشعبي في حضرموت في توثيق تلك الأحداث  والتعبير عن رأي المواطن البسيط في كل ما يدور حوله .


كانت الغرفة كأي  منطقة من مناطق حضرموت مسرحا للنزاعات القبلية وفي عام 1924 سيطر عليها عمر عبيد بن عبدات واتخذها مقرا لحكمه  من بعد أن كانت  هملا لا حكومة فيها ولا سلطان .

وقد سجل ذلك الشاعر خميس سالم كندي بقوله :

ذا فصل تذكر بنت لي تتنشّر (1)

خَذها(2) ولد بالعقد والمظهارة

لقى عرس ظاهر وقذك انت اخبر

في كل بلدة شيعوا باخباره

والكوبره  (3) بدخونها تتعــــــــكر

كلين ينصت يسمع الحيّاره (4)

بن عمها ساكت ولا يتخبر

وقت العرس قط ما خذته الغاره

من بعد ما هي بينهم تتمخطر

إبليس ينفخ بينهم مزماره

وتحجبت ما اليوم ما باتظهر

الزوج حجبها بداخل داره

وبالفعل فقد جعل بن عبدات للغرفة سورا محكما له منفذان لا يفتحان إلا بإذن منه ، ودخل بن عبدات في حروب طاحنة (لست بصددها  هنا إلا بقدر ما يتطلبه الاستدلال الشعري ) .

في صباح يوم الأربعاء  24 ابريل 1940م قامت تسع من طائرات ( الفنسنت ) القاذفة للقنابل بغارات جوية على مدينة الغرفة وقصف عشوائي بالقنابل ليلا ونهارا لمدة تسعة وعشرين يوما . وعلى الصعيد البري فقد شنت فرق من جيش المكلا النظامي هجوما عسكريا بريا على الغرفة إلا أنها فشلت في اقتحامها واضطرت إلى الانسحاب تحت ضربات رجال المقاومة التابعين لابن عبدات (**) .

وبالرغم من هذه الهجمة البرية والجوية الضاربة التي شنتها الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس على هذه القرية الصغيرة والتي استمرت تسعة وعشرين يوما وبالرغم من هزيمتها في تحقيق أهدافها إلا أن بن عبدات لم يكتف بهزيمتهم العسكرية وتقهقرهم بل أراد أن يسخر من هجماتهم الجوية التي لم تعرف لها المنطقة مثيل فقام بوضع شظايا قنابلهم على بوابات الغرفة تعبيرا عن صمود هذه القرية الصغيرة الباسلة واستخفافا بتلك القوة الضاربة ، وقد صور الشاعر السيد  سالم عبد القادر العيدروس ذلك في قصيدة مطولة –  اقتبس منها بتصرف هذه الأبيات التي يسميها الشاعر العيدروس النبأ الواضح في نعت الأمير عبيد صالح – حيث قدم قصيدته بقوله :

(قلناها في الأمير عبيد بن  صالح عبيد عبدات بن خالد بن عمر بن عامر الكثيري أمير الغرفة لما حاربته الحكومة البريطانية بالطيارات والقنابل والرشاشات من فوق والمدافع والعساكر من تحت ولم يذعن ولم يخضع لذلك ودام الحرب المذكور على الأمير المذكور وعساكره ورعيته شهرا كاملا وقلنا هذه المنظومة ولم نقدمها إليه إلا انه لما سمعها طلبها وأرسلناها له ) (***) .

توك إلى الغرفة ونعم القاهرة خيرة بلد

لي قهرت أعداها ومن جاها رجع خائب شرود

إجزع ولا تفزع إذا شفت القنابل عالسدد

ذلا خلا قذهن كما البودي وسط  ديم القعود

قد كابدوهن لي لقوهن عالسواري بالعمد

صورة خيالية تغيض الخصم وتغيض الحسود

يا بوحمد يهناك من مولاك ربك قد سعد

والنصر حالفته رقا طالعك في سعد السعود

لو في الجهة مثلك ومثل اهلك ثلاثة بالعدد

إن كان من جا لأرضنا يرجع ويحلف لا يعود

وفي موقع آخر من نفس القصيدة يقول :

لما رأوا طيار يقدف نار يمطر كالبرد

شي منها راكت وشي يشبه من أصوات الرعود

ما زعزعت قلبك وكلما زيدوا روحك تشد

أوتارها وتخايل انك بين طنبورٍ (5) وعود

 وتمر المنطقة بمرحلة من الخوف وعدم الاستقرار وتتوالى التهديدات البريطانية على أمير الغرفة ( كما كانوا يسمونه ) وتتحالف العديد من قبائل المنطقة مع بريطانيا على حربه ، ويبقى الأفق ملبد بغيوم تنذر بالحرب والدمار ويمتد هذا الخوف والتوجس إلى كل شعراء الوادي وفي سيئون تعقد مساجلة شعرية بين كل من الشاعر الشعبي قفزان و الشاعر مستور حمادي والشاعر محفوظ النجار يتبادلون فيما بينهم الأبيات التي اتسمت بالرمزية خوفا من عاقبتها عليهم وفي هذه الأبيات يستنكر الشعراء الحلف الظالم والحرب الغير متكافئة التي تدبر لهذه المنطقة إلا أن شعرهم ذاع ورمزيتهم في الشعر لم تنطل على السلطة فزُج بهم في السجن وإليك بعضا من أبيات المساجلة :

قفزان :

يقول خو الأربعة قفزان ذي عله قدر

المجّله (6) في الأجل وأهل المناحة محزنين

مستور:

القبولة ما تصلح الا لبن خالد عمر (7)

لي سوس الحول والغرفة ومثوى با متين

النجار :

متى با تبتني ياذالمصوَن يالمدر

واهل الجريدي من المِهرة (8) وراهم واقفين

قفزان:

ما تصلح الا لبا شادي (9) يدفرها ستر

يخرب ويبني ولا يقعد في الفاج الضخين

مستور:

الجلجل الا غلي يا ويل ابوكم يالعصر

الجلجل الا مصون تحت ملَة با متين (10)

النجار:

عصيد مثناة كعدة حل مندرها خطر

وانتي حسبتيه تحتش يالوسيعه تلقمين

قفزان :

حيدين متكاشفه والناس في زره وحر

أربع رحايا لقوهن ما يدققن الطحين

مستور    :

من أمس والحر يوقدنا ولا شفته مطر

ما تمطر الا على حذيه وهينن والعنين

النجار:

العلب لي زحف المنشار وعيال النجر

ياللي سرحتوا في الجذنه ضويتو زاحفين

تلك نماذج بسيطة اقتطفناها   من واحة الشعر الشعبي وغرفة اغترفناها من بحره  في موضوع محدد فقط  لنقف على جودة تراثنا الشعري ومدى ملامسته للحياة المعاشة وهموم الناس في كل عصر .

 

الهوامش :

 

* قال كندي  تجميع الإعلامي المرحوم  سعيد عمر محروس .

** الأستاذ الدكتور محمد سعيد با داؤد  .

*** صفحة رقم (1)  من كتاب (  من أشعار سالم عبد القادر العيدروس ) إصدار إدارة الثقافة بمديرية سيؤن سبتمبر 1986م  .

1) تتزين .  2) تزوجها .  3) المزينة . 4) المزغردة . 5)  آلة موسيقية . 6) من مات زوجها وكانت في العدة . 7) بن خالد عمر هو عبيد صالح بن عبدات . 8) العمل أو الحرفة . 9) الأشداء ، ويرمز هنا لأبن عبدات . 10) الملة : بفتح الميم المجموعة من النخيل المتقارب من نفس الصنف .. با متين : مثوى  بن عبدات شمال الغرفة .

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص