محاضرة ريادة النهضه العلمية والثقافية في تريم في القرن الرابع عشر الهجري

حضرموت اليوم/تريم/علي صبيح ـ تصوير أحمد بادباه 
القى الباحث الأستاذ/ صالح مبارك عصبان محاضرة مساء اليوم الجمعة 17/12/2010م في قاعة معهد التفوق للتدريب والتاهيل بتريم وبحضور الشيخ العلامة / علي سالم بكير عضو مجلس الشورى والشيخ العلامة/ محمد أحمد بافضل وجمع من اساتذة الجامعات والمهتمين بالشأن الثقافي والادبي والدعاة . حيث استهل محاضرته بشكره الجزيل لملتقى تريم الثقافي ممثلا بالدكتور /ابو بكر بامحسون مؤسس الصندوق الخيري للطلاب المتفوقين على تنظيم هذه المحاضرة .
 وفي المحاضرة التي بدات بآي من الذكر الحكيم تناول الباحث عصبان عدة محاور عن ريادة النهضة العلمية والثقافية في تريم في القرن الرابع عشر الهجري ,مستهلا بتعريف مفهوم النهضة بما يعني (التجديد ـ التنوير ـ الأصلاح ـ ...)واستطاع الباحث عصبان باسلوبه الادبي الجميل ان يلفت انتباه الحاضرين الذين اعجبوا بهذه المحاضرة القيمة الى محاور عدة في هذا الموضوع منها الأوضاع السياسية والعلمية في حضرموت قبيل واثناء النهوض واستعرض في هذه المحاضرة كذلك مؤثرات النهضة وسيرها ومعوقاتها كما عدد المعوقات التي تقف  امام النهضة واختتم المحاضرة بشرح واف عن ركائز النهضة وسيرها ومنها :
الجمعيات والوعي الوطني وكذلك التعليم والمدارس والمنابر والأنشطة الثقافية وكانت خاتمة المحاضرة بتوضيح آثار النهضة في المجتمع .
وقدم الشيخ العلامه /علي سالم بكير مداخلة جميلة حول المحاضرة اوضح بعض المحطات العلمية والثقافية التي لم يتناولها الباحث مذكرا ببعض الهامات العلمية التي كان لها دور بارز في الجانب العلمي والثقافي من جانبة تحدث الشيخ/محمد بافضل شاكرا الباحث على محاضرته القيمة موصيا الجهات القائمة على المنتدى بأهمية طباعة هذه المحاضرة في كتيب ونشرها لتعم الفائدة كما شارك في النقاش الاستاذ/ ناصر التميمي من جامعة حضرموت وطالب الباحث بذكر الدور الثقافي والعلمي في تريم ماقبل الفرن الرابع عشر الهجري حتى تربط الأحداث . 
نص (المحاضرة ) نقلا عن موقع (http://www.tareem-2010.com/pages/158)
 ريادة النهضة العلمية والثقافية في تريم
مدخل :-
              شهدت حضرموت في القرن الرابع عشر الهجري نهضة عامة تجلت أكثر معالمها في التعليم والثقافة، حيث تكونت الجمعيات وأنشئت الصحف والمكتبات ، وبرز الوعي الوطني وأعقبه نشاط سياسي منظم ، وقد بدأت خيوط هذه النهضة بعد  توفر عدد من الأسباب من داخل حضرموت وخارجها وشق الرواد طريقهم وسط أشواك الحذر في مجتمع تتنازعه قوى تقليدية ( سياسية وعلمية وقبلية ) متشابكة المصالح مع وجود حماية استعمارية .
             وبما أن حضرموت وحدة متجانسة من الأفكار والعادات لم تستطع الحواجز المصطنعة ومحاولات التفتيت والتفرقة أن تمنع انتشار الأفكار الجديدة والتواصل بين أصحابها وكانت عملية التغيير تمشي بشكل متشابه في مدن وقرى حضرموت .
           وفي تريم ، المدينة ذات الشهرة العلمية وصلت مقدمات النهوض في وقت مبكر لوجود كثير من أبنائها في المهجر، الذين سارعوا إلى الأخذ بزمام المبادرة في إنشاء الجمعيات والأندية الثقافية والتأليف ، وكان لهم قصب السبق في مجالات عديدة رغم وجود المعوقات في تريم أكثر من غيرها .
          إن مفهوم النهضة كما ورد في أدبيات الفكر العربي يتطلب توفر شروط لتحقيقها ،ومنها (إن أي مشروع إصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان) ..فهو أداة النهضة ووسيلتها، لكن هذا التغيير يظل ناقصا إذا لم ينق العقول من رواسب الاستعمار والتخلف وأصناف القهر ، ويرتكز التغيير أساسا على تغيير الأفكار لتتفق مع الأصول العامة للإسلام ، ومنها إزالة المنكرات التي لا تقبلها العقيدة(1)، ويتفرع عن هذا (مشكلة الثقافة) التي لا بد من تحديد لمفهومها ( وتنظيف موضوعها من الحشو والانحراف الذي حدث فيه )(2) ، فضبابية المفهوم تؤدي إلى خلط وتشويه في مكوناته ، لأن للثقافة وظيفة حضارية في النهضة المأمولة ، وتتجاذب هذا الأمر – أعني النهضة – مسميات عدة من قبيل ( التجديد) و (الانبعاث ) والتنوير) و (الإصلاح)، وما نقرره هنا لا يعني بالضرورة أن تلك النهضة قد اجتمعت فيها كل الشروط والمقومات من تحرر فكري وتغيير جذري في كل مجالات الحياة ، كما لا يعني أن أولئك الرواد قد امتلكوا كل صفات الريادة من فكر منهجي وتجرد وعلمية وإقدام وامتلاك مشروع حضاري ينقل المجتمع إلى مرحلة متطورة ، ولا ندعي في هذا الاستعراض إسقاط المفهوم الشامل للنهضة – حتى العلمية والثقافية منها – على موضوع بحثنا لأسباب أهمها ، أن هذا النهوض محكوم بعوامل كثيرة منها ما هو ذاتي متعلق بالرواد سواء من حيث بنائهم العلمي والفكري وتوجهاتهم ، ومنها ما هو موضوعي يتعلق بواقعهم الملئ بالمتناقضات ، فكان أن جاءت نتائج محاولاتهم مختلفة من حيث انتشارها وقوة أثرها فهي في الجانب التعليمي و الثقافي أكثر منها في غيره من الجوانب ، ففي تطوير الخطاب الدعوي وتغيير مراكز التأثير العلمي والواقع الاجتماعي كانت ضعيفة ، وهذا لا يلغي دورهم إذا أخذنا بعين الاعتبار العوامل السابقة . وبالرغم من كل ما يمكن أن يؤخذ على النهضة ويظهر بعض النواقص فيها إلا أننا لا نستطيع أن نغفل ريادة أولئك الأفراد والهيئات للنهضة العلمية والثقافية التي أصبح لها شأن يذكر وتأثير لاحق في مجمل الأوضاع ، فهي التي هيأت وأهلت القيادات المستقبلية للعملية التعليمية والثقافية بل والسياسية ، وفي بحث – كهذا – لا يمكن الحديث عن سير النهضة دون ربط الفترات الزمنية بعضها ببعض ودون بتر، لأن حركة التغيير متداخلة وآثارها متدرجة والأحداث التاريخية مترابطة ، كما تعترض المتتبع لشؤون التاريخ الحضرمي إشكالية التأليف الذي يشوبه عدد من الأمور كعدم الموضوعية وتحكم العواطف والاتجاهات السياسية والفئوية ، كما تقف بعض الأقلام عند العناوين والمسميات دون تعمق  في المضامين .
           وسنمهد لهذا البحث بجولة سريعة حول أوضاع حضرموت قبيل وأثناء النهضة مع لمحة عن مسار العلم والثقافة خلال العصور الإسلامية ، ثم الحديث عن سير النهضة ( أسبابها ومعوقاتها ) ونعرج بشيء من التفصيل عن أوضاع تريم آخذين في الحسبان مراكزها المؤثرة من جمعيات ومدارس وأندية وصحافة مع إبراز أهم الرواد ثم نختتم بأهم الآثار .
          إن عملاً مثل هذا يحتاج إلى جهد أكبر وتحليل أعمق ومراجع أوفر ، وحسبنا أننا لم نبدأ الخطوة الأولى فقد تتبع كثير من الكتاب هذه المسألة ما بين مقل ومكثر ووفروا لنا مادة ساعدت في إنجاز هذا العمل ، وختاماً ( فإن الأفكار النهضوية التي نادى بها المصلحون في شتى ميادين الحياة ما زالت مطالب لنا حتى اليوم ولا زلنا نشكو من العلل عينها التي شكوا منها من الفقر والجهل والمرض والاستبداد والتفرق والأنانية والظلم والاستخفاف بالناس )(3).  
 
حضرموت في بداية النهضة :-
           عاشت حضرموت ما بين النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري وبدايات القرن الرابع عشر في صراعات وفتن قبلية ، وتكونت دويلات وكيانات في المدن وكانت السمة الغالبة عليها الضعف والاحتراب الداخلي ، وعمت الفوضى القرى والبوادي وتوسع لدويلة أو تقلص لأخرى ، ( أما تريم فقد تقاسمتها القبائل اليافعية فاستولى آل همام على حارة الخليف ، وسيطر آل عبدالقادر على حارة النويدرة ، وأخذ آل غرامة حافة السوق )(4) وتطلع البعض إلى ملء الفراغ وتغيير الحكام فجرت محاولات من قبل طاهر بن حسين عام (1220هـ/1805م) ، ودولة بن مقيص عام     ( 1243هـ/1827م) ، وحملة إسحاق بن عقيل بن يحيى عام (1265هـ/1848م) ، وغيرها(5) ، وسيطر على الأوضاع حملة السلاح ، وبلغت السخرة من قبل أصحاب القوة مداها ، وانقسمت الحواضر إلى ( حويف وحارات )(6)، ولم يكن الوضع الاجتماعي بأحسن حال حيث التفرقة الطبقية والجهل والتخلف ، وظلت الأمور على هذا الحال إلى أن تمكن الكيانان الناشئان ( القعيطي والكثيري ) من تغيير خارطة التحالفات، ولن نقف طويلاً عند تفاصيل النشأة والصراع على الحكم ، وحسبنا أن نشير إلى ما له تأثير في الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، ومن ثم الحالة العلمية والثقافية ،حيث انتهى الأمر بتوغل قعيطي في أكثر مناطق حضرموت وسيطرة كثيرية على ما تبقى ، ولخص بيان صادرعن جمعية الأخوة والمعاونة عام
( 1368هـ/1949م ) الأوضاع بقوله:(( ن حضرموت في نصف القرن الرابع عشر الهجري قد بلغت منتهى درجات التأخر والانحطاط والفوضى في جميع نواحيها، سياسيا وثقافيا واجتماعيا، حيث منيت بسلاطين مستبدين، وعشائر بدوية وحضرية تثير الفتن والقلاقل لأتفه الأسباب ))(7) ، وجاءت معاهدة الحماية البريطانية مع السلطنة القعيطية عام ( 1305هـ / 1888م ) ، لتكون المنفذ الأول الذي فتح شهية بريطانيا وسياستها الاستعمارية للتدخل في شؤون حضرموت ، ثم معاهدة الصلح في عدن عام (1336هـ / 1917م)  لتعترف السلطنة الكثيرية بالتبعية لبريطانيا ،ولحقتها معاهدة الاستشارة مع القعيطي عام (1356هـ/ 1937م ) ومع الكثيري (1358هـ/ 1939م ) ليبدأ النظام الاستعماري بالتسلل في البلاد، وعززت هدنة انجرامس (1356هـ/ 1937م ) هذا الوجود ( وقد كان دخوله حضرموت هو المدخل للاستعمار وتوغله وسيطرته وبتوقيع المعاهدة فإن الحبل ترك على الغارب ليعمل انجرا مس المستشار المقيم بالمكلا ما يرى )(8)  ، وكان للآخرين أيضاً تطلعات، فقد أرسل قائد الجيوش العثمانية بلحج كتاباً إلى العلامة  عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف يطلب منه اعتراف سلاطين حضرموت بتبعيتهم له(9)، ولم تخل الساحة من معارضة لتدخلات بريطانيا سواءً أكانت فردية وهو ما عبر عنه مثلا ابن عبيد الله بأنها أشر من الاستعمار، وكذا مواقف المثقفين والشعراء، أو حركية كحركة ابن عبدات في (الغرفة) التي ( تعد أول حركة إصلاحية منظمة قامت ضد الاستعمار البريطاني وحلفائه)(10) ، وبعد هذا لعب الاستعمار الدور الرئيس في مجريات الأحداث فاستخدم أساليب الإغراء والامتيازات لمعاونيه ، وأسلوب القوة والترهيب لمناوئيه ، وفي خضم هذه الأحداث جرت محاولا ت داخلية لإصلاح الأوضاع من قبل أطراف عدة ولأهداف متباينة أهمها مؤتمر الإصلاح في الشحر عام ( 1346هـ / 1928م ) ومؤتمر سنغافورة في العام نفسه ، ورسائل السلاطين إلى المهاجرين الحضارم ، ومع الاستقرار النسبي ظهرت مقدمات التنظيم الإداري ليلبي حاجة النظام ومقتضيات التغيير ، وأزاحت هذه التطورات – تدريجياً – الغشاوة عن الأعين مما أفسح المجال لنزعات التحرر والتعلم ولوعن طريق الهجرة والرحلة.                 
               
وضع التعليم والثقافة :-
 
             كان النشاط الديني للعلماء والمربين عبر دروسهم ومواعظهم وفتاويهم يمثل الاستثناء في المسار العام للأوضاع ، وذلك لما يمثله من مكانة في نفوس الناس ، وحذر من قبل المستعمر ، بيد أن نظام التعليم ونقل المعارف ظل محكوماً بالإرث التقليدي الذي ستبينه السطور اللاحقة ، ولا يمكن الحديث عن تريم بمعزل عن حضرموت بشكل عام ، وكما أسلفنا فإن الضرورة تقتضي الإلمام بالحالة العامة لأنها مؤثرة في الجزء ، وعموماً فعلى المستوى النسبي تشكل الأمية نسبة كبيرة في أوساط الشعب ، وتوجد بضعة مدارس في قليل من المدن ، وتمثل الكتاتيب والزوايا أماكن للتعليم ، ( وحضرموت كلها ليس للمعارف فيها سوق و لا رواج وإن وجدت بها كتاتيب للأطفال فإنما هي أمكنة صغيرة لإخراج من يؤمها من عمق الأمية إلى طرفها ، وفي أمهات المدائن كتريم وسيئون وغيرها معاهد مبعثرة مقتصرة على تدريس الفقه والنحو وسرد شيء من التفسير والحديث وكلام الأسلاف )(11)، وفي تريم انتشرت زوايا العلم ومدارسه ومنها ، مدرسة آل عبدالله بن شيخ العيدروس ، وزاوية الشيخ علي بن أبي بكر بن عبدالرحمن السقاف ، وزوايا مساجد سرجيس ونفيع وسويه وبن حاتم ، وزاوية الشيخ سالم بن فضل بافضل ، وجاء افتتاح رباط تريم في عام (1305هـ/1887م) – بمساع من بعض العائلات – لينقل التعليم وطرق التدريس إلى مرحلة أكثر ترتيباً ومعرفة مع مغايرة في أسلوب التلقي والأخذ ، وأول من أشرف عليه العلامة عبدالرحمن بن محمد المشهور(ت 1320هـ) واعتنى الرباط بالتفسير والحديث والفقه والتصوف(12) ، ومن روافد هذا النوع أربطة سيئون وعينات وغيل باوزير ، وللعلامة عبد الله بن عمرالشاطري(ت1361هـ) سهم كبير في تاريخ الرباط والتصدر في التعليم والوعظ ، كما للعلامة أحمد بن عمر الشاطري (ت1360هـ) جهد في البحث والتدريس.
              وفي نهاية القرن الثالث عشر الهجري وبداية القرن الرابع عشر ظهرت أفكار إصلاحية أخرى مغايرة للمألوف ، فالأمير اليافعي عبدالله عوض غرامة يتعهد لابن قملا النجدي بنشر أفكاره ، بل قام بأعمال أثارت عليه السخط ،وكان يجالس العلماء ، ويقرأ عليهم كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، ومن العلماء الذين ناصروه العلامة أبوبكر بن عبد الله الهندوان ( ت 1248هـ ) وينفي المؤرخ ابن عبيد الله السقاف الزعم القائل بأن العلامة الهندوان يعلم غرامة آراء ( الوهابية ) ويعد ذلك غلطا كبيرا(13) ، ومن المصلحين في حضرموت الشيخ علي أحمد باصبرين ( ت 1304هـ ) وله أفكار تحررية في مجال علمه حيث انتقد الإغراق في التصوف وقداسة الشيوخ والتقليد المفرط في الفروع وأنكر الخرافات ، ويعد أحد رواد النهضة الحديثة بحضرموت وأحد حاملي لواء التغيير والإصلاح(14)  ، ومن مساعي التحديث ما ورد في وثائق مؤتمرات إصلاح  حضرموت التي عقدت في عام (1346هـ / 1927م ) من إشارات إلى ضرورة إصلاح التعليم ،كما ( كان لابن عبدات طموحات كبيرة في إصلاح أحوال حضرموت وتطويرها عن طريق الاهتمام بنشر التعليم )(15) ، وفي ظل الشعاع الذي لاح في الأفق عبر المدارس والأربطة ، فقد تعالت أصوات الداعين إلى التطوير والنظر إلى ما يعتمل في البلدان الأخرى من اهتمام بالعلم مع التنبه إلى ما يمكن أن يتسلل من أفكار استعمارية تبشيرية والاستعداد لمواجهتها فكتب الأستاذ  محمد ابن هاشم محذراً ( إن حضرموت لا تخرج عن سنن الكون الطبيعية في شيء فإذا هي لم تبدأ من الآن في إعداد العدة واتخاذ الحيطة بنشر المعارف بين طبقات الشعب وإيجاد قومية شريفة في نفوس النشء وإبدال هذه التربية والأخلاق بغيرها مما هو أصلح لمكافحة المستقبل الغشوم وأجدر باقتناص النجاح في المعترك الحيوي ، وإذا هي لم تقم بالواجب العظيم ليوشكن أن تذهب يوماً ضحية إحدى هاتين البليتين )(16) ، وله صيحات أخرى بمقال في صحيفة حضرموت التي تصدر في المهجر ( العدد 89 في سنة 1344هـ ) يصف حالة بلده المتردية الواقعة بين الشقاء والفتن والأحقاد ، وحكام يعيشون في أبراج عاجية وعلماء جامدين وأغنياء أعمتهم الثروة ، وتجدر الإشارة هنا إلى حركة الاستشراق والدراسات الغربية التي ترددت على حضرموت على شكل رحلات استطلاعية أو سياحية ابتداء من الرحالة ( فريده) في عام 1843م ، وهيرش في عام 1893م  ، ثم رحلة فاندير ميلين و غ . فون ويزمان في عام 1931م بتكليف من الحكومة الهولندية وكانت رحلتهما ( استشراقية بامتياز ) ودراسات الإنجليزي سارجنت عن حضرموت ، ( واهتمت مراكز البحث الغربية والآسيوية بالهجرة الحضرمية باعتبارها عاملاً من عوامل انتقال أفكار التجديد إلى موطنهم الأصلي )(17) ، وتركز مؤلفات الرحالة والمستشرقين والمستشارين على ( تخلف التعليم والطرق والري ) وهي حلقات هامة في سلسلة أولويات التطوير حسب السياسة الاستعمارية .    
         ولم تكن هدنة انجرامس (1356هـ / 1937م ) إلا وسيلة لتهدئة الأوضاع لتتمكن بريطانيا من السعي في تنفيذ مخططاتها ، إذ أن الفوضى الأمنية تمثل عائقاً كبيراً للتوسع ، ونتج عن الهدنة بعض التنظيم الإداري الملبي لمتطلبات الحكم وخاصة في الجيش والزراعة ، وظلت عجلة التغيير تمشي ببطء بالرغم من محاولات دفعها إلى الأمام غير أن كثيراً من المعوقات وقفت بالمرصاد فالوضع العام لا يسمح بنسمات الحرية  ( ففي ظل تلك الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردية عاشت حضرموت عزلة ثقافية حجبتها من الاتصال أو التأثر بالحركات الإصلاحية والثقافية التي كانت والجهالة المتفشية وكانت تتحكم فيها الأفكار القديمة والتقاليد البالية الأمر الذي أشاع روح اليأس والخنوع والاستسلام لمعتقدات باطلة ما أنزل الله بها من سلطان )(18)  .
    أما على المستوى الثقافي فلم يكن للصحافة والمكتبات العامة وجود ( باستثناء مكتبات الأسر المشهورة بالعلم )  ، ولا زال للشعر سطوته كوسيلة من وسائل التعبير في المناسبات والزهد والمنظومات ، وكان للشعر الشعبي حضوره القوي الذي سجل أحداثاً تاريخية والصراعات على الحكم ، وقضايا اجتماعية، وسهل له الرمز والتعريض دخول مجالات كثيرة ، ومن خلال قراءة بعض نصوصه يمكن التعرف على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
                   
 
مسار العلم والثقافة في حضرموت مع الإشارة إلى مكانة تريم :-
          
                    إثر عودة الوفود الحضرمية من المدينة ومبايعتهم  للنبي صلى الله عليه وسلم وفيهم وائل بن حجر الحضرمي و الأشعث بن قيس الكندي وربيعة بن لهيعة الحضرمي وامرؤ القيس بن عابس وغيرهم انتشر الإسلام في حضرموت وأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم زياد بن لبيد عاملاً على حضرموت(19) وأشرقت شمس العلوم لتبدد ظلمات الجهل ، وبدأ الحضارمة ينهلون من معين كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا عن الصحابة علوم الحديث والتفسير والأحكام كعمر وبن ميمون الأزدي الحضرمي صاحب معاذ بن جبل وتلميذه(20)، ونشروا تلك العلوم وظلوا على منهج السلف الصالح في العقيدة والعبادة ، حتى تأثرت حضرموت كغيرها من البلاد الإسلامية بما حصل من انحرافات وفرق ابتداء بالإباضية ومرورا بالشيعة والقرامطة وانتهاء بالتصوف، وحفلت كتب التاريخ الإسلامي بذكر كثير من العلماء ذوي الأصول الحضرمية خاصة بعد هجرتهم ومشاركتهم في الفتوحات ، وتبوأ بعضهم مراكز مرموقة في العلم والقضاء حتى قال الشاعر :-
لقد ولي القضاء بكل أرض           من العز الحضارمة الكـــــرام
رجال ليس مثلهم رجـــــال           من الصيد الجحاجحة الضخام
 
            وكان لهيعة القاضي يقول : أنا تاسع تسعة ولوا القضاء من حضرموت ، وقيل لعبد العزيز بن مروان: ( إن يونس بن عطية من سادات حضرموت ) فولاه قضاء مصر سنة 84 هـ (21).
            وأورد العلامة عبدالرحمن بن عبيد الله السقاف أدلة على وجود العلم بحضرموت في القرون الأولى للدعوة الإسلامية في كتابه ( إدام القوت ) . وخلال مراحل التاريخ شهدت حضرموت وتريم على وجه الخصوص تطوراً علمياً ونهضات فكرية وثقافية تضعف أحياناً بفعل التغيرات في أنظمة الحكم والتأثير الخارجي عبر قدوم المذاهب والنحل والصراعات الفكرية ، وظهرت المدارس العلمية والآراء الفقهية والعلماء في شتى فنون المعرفة وشاركوا بجهودهم في التعليم والفتيا والتأليف ومن المؤرخين الذين أشاروا إلى علماء حضرموت وتحدثوا عن أهلها ، البشاري الذي قال عنهم : ( أن لهم في العلم والخير رغبة )(22) ، ومنهم الجندي والخزرجي والهمداني ، وحتى فترة الإباضية التي لم تأخذ حقها من البحث ويعتبرها بعضهم من مجاهل التاريخ الحضرمي فإن آخرين لا يستبعدون أن تكون فيها للعلم راية(23)، ومن أشهر علمائهم إمامهم أبو إسحاق إبراهيم بن قيس الهمداني ، ويتوسع المؤرخ ابن سمرة الجعدي في إيراد علماء تريم وحضرموت ومنهم محمد بن عبدالله الحضرمي وهو من تلاميذ الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني ( ت558هـ) وأبا زنيج وأبا جحوش وأبا أكدر قاضي  تريم الذي جمع بين القراءات السبع والفقه ، وأبا بكير وابن أبي ذئب وابن أبي داوود(24) .
         كما تتناول كتب أخرى انتشار المذهب الشافعي في اليمن وحضرموت ، وقد برع فيه وفي غيره من العلوم علماء حضرموت  وتريم ومنهم، عبدالله بن عبدالرحمن باعبيد ( ت 613هـ ) صاحب ( الإكمال ) في شرح ( التنبيه ) ، ومن العلماء المشهورين في مختلف فروع العلم آل حاتم فقهاء تريم القدامى وآل الخطيب وآل بافضل ومنهم الشيخ سالم بن فضل بافضل ( ت 581هـ ) الذي عاد بأحمال من الكتب وأقام نهضة علمية بتريم وسالم بن بصري ( ت 604هـ )، والمحدث علي بن محمد بن جديد ( ت 620هـ ) ودور العلويين بعد دخولهم تريم، وعلي أحمد بامروان
(ت 624هـ ) ، وقرأ سلطان تريم عبدالله بن راشد ( ت616هـ ) صحيح الإمام البخاري على الإمام محمد بن أحمد بن أبي النعمان الهجراني، وسمع الأحاديث بمكة على ابن أبي الصيف وابن المقدسي وابن عساكر، ( وبلغت تريم في عهده من العلوم الدينية مبلغاً ليس له مثيل لا في حضرموت و لا في اليمن )(25) ، وممن اشتهر بالعلم وكتابة التاريخ محمد بن أحمد بن أبي الحب ( ت 611هـ ) ، وأحمد بن محمد باعيسى قاضي تريم ( ت 628 هـ ) وعبدالرحمن بن علي بن حسان ( ت 818 هـ ) وعبدالرحمن بن محمد الخطيب ( ت 855 هـ ) وأحمد عبدالله بن علوي المعروف بشنبل (ت 920 هـ ) ومحمد بن عبد الرحمن بن شراحيل ( ت 923هـ ) والطيب بامخرمه ( ت 947هـ ) ومحمد بن علي خرد ( ت 960 هـ ) (26) وغيرهم ، وفي تاريخ تريم العلمي يذكر رباط الشيخ إبراهيم بن يحيى با فضل ( ت 684 هـ ) وبناء جامع تريم سنة 215 هـ(27) ، وعلماء التصوف في مختلف المراحل، وحصل التواصل والتزاور بين علماء تريم وغيرهم ، فأقام الإمام محمد بن علي القلعي (ت577هـ) علاقات مع علماء حضرموت وخاصة الشيخ سالم بن فضل بافضل ، واتصل نشوان بن سعيد الحميري بهم وخاصة السلطان عبدالله بن راشد والعلامة محمد بن أبي حامد التريمي وكان نزوله عليهم بمدينة تريم وبعد عودته أرسل قصيدة يمدح فيها السلطان ومن أبياتها :-
 رعى الله إخواني الذين عهدتهم         ببطن تريم كالنجوم العوائـم(28)
           عليا حليف النجدة ابن محمـــــد         وابن أخيه الغر من آل حاتـم
           وكم في تريم من إمام مهــــذب        وسيد أهل العلم يحيى بن سالم
                
والمقصود بهما علي بن محمد الحاتمي ويحيى بن سالم بن أكدر، كما قدم من مكة إلى حضرموت الشيخ عبدالله بن أسعد اليافعي ( ت 797 هـ ) وقال عن علمائها :-
        مررت بوادي حضرموت مسلما           فألفيته بالبشر مبتسماً رحبـــــا
       وألفيت فيه من جهابذة العــــــــــلا         أكابــر لا يلقون شرقاً ولا غربا
 
              وتشير الكتب إلى الدور الصوفي ، حيث أنكر الفقهاء أول الأمر دخول التصوف، فهذا الفقيه علي بن أحمد بامروان يغضب على تلميذه محمد بن علي باعلوي ( ت653هـ) لتصوفه(29) ، وطغت تدريجياً طرق التصوف وأفكاره لتتشبع بها الحياة العلمية في التربية والتلقي والتأليف والعبادة ( وترك الفكر الصوفي بصماته على الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية بحضرموت )(30) ، وكثر التأليف في الكرامات والمناقب والشطحات، يقول المؤرخ صالح بن علي الحامد: ( و لا أستبعد أن للروح الصوفية عملها البارز في صرف العلماء والمتنورين من رجال الماضي من الاهتمام بالتاريخ ومن صرف بعض الوقت في تدوينه فقد غمرت الموجه الصوفية الكافة من العلماء والمتنورين )(31) وظهر في عصرالتصوف بالإضافة إلى ما تقدم علماء في فنون مختلفة وتركوا تراثا معرفيا ، كان الفقه أكثره ، كما كان للعلوم الأخرى حظها من الاهتمام كعلوم القراءات والتفسير و الحديث وظهر النتاج العلمي من خلال الفتاوى وشرح المتون والمنظومات(32) .
              
النهضة ، مؤثراتها ، سيرها ، معوقاتها :-
 
              كأي وافد جديد لا بد أن يقابل بالتوجس والحذر وربما المواجهة ، فكيف إذا كان الوافد يمس مرتكزاً من مرتكزات التحكم في مستقبل الأجيال ومحاطا بسياج من القداسة والرهبة ومحكوماً بعادات متوارثة ، ولقد مر بنا ما لاقته الأفكار التحررية من عنت ومحاربة وصلت إلى حد التآمر على أصحابها أو نفيهم .
            وقد أشرنا آنفاً إلى تأسيس رباط تريم عام (1305هـ/1887م )، وما مثله من خطوة في اتجاه التغيير وظهر فيه من يحمل أفكاراً إصلاحية كالعلامة حسن بن علوي بن شهاب ، وتمثل هذا التغيير بانتقاله (من واقعه في المساجد والزوايا إلى التعليم في الأربطة ولكنه ظل مشدودا بمستوى الوعي الاجتماعي السائد خلال سنوات العقد الثالث والرابع من القرن العشرين الميلادي ومحاصراً بإطارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي )(33) ، وتتابعت المحاولات عبر تشكيل الجمعيات وخاصة في سيئون وتريم ومدارسها التي تعد نوعاً جديداً في تنظيم التعليم بعد الأربطة ، ولقد قوبلت بالرفض والتشكيك ، وتأسست الأندية الثقافية والصحف ، و كثفت الجهود في التعليم وهو محور تطلب الاهتمام به ووضعه في سلم الأولويات باعتباره مدخلاً للتغيير ، ولم تتبلور الأفكار الداعية إلى الإصلاح إلا في بداية  العقد الثاني من القرن الرابع عشر الهجري كما لم يشتد ساعدها إلا في الأربعينيات منه.
                    وبالنظر إلى الواقع، حيث عدم الاستقرار السياسي، وسيطرة الفكر الصوفي وثنائية الجهل والفقر كان لابد للرواد من الإمساك بخيوط تقودهم إلى منافذ النور ، ولا ينبغي لنا – والحال هكذا – أن نتجاهل البعد الزماني والمكاني ومدى تكيف دعاة الإصلاح مع ذلك الواقع ، باستخدامهم أساليب انتقائية أو ترحيل بعض الأهداف، وهذه الأعمال قد تكون تحاشياً للاصطدام مع علية القوم أو منهجاً حددوه لهم ، وكانوا يتابعون – بلا شك – مجريات الأمور في محيطهم الحضرمي واليمن عامة وبلدان المهاجرين الحضارم ، ودول الشام ومصر ويستفيدون من حركة التطور فيها ، وقد تنوعت مؤثرات النهضة من حيث النوعية ومن حيث مصادرها فمنها الفكري والاقتصادي والسياسي والوطني ومنها الداخلي والخارجي ، ولن نستخدم أسلوب الفرز الآلي لتلك المؤثرات – ولاحقاً – المعوقات لأن ذلك سيفقدها وحدتها الموضوعية فضلا عن عدم جدوى هذا الأمر في توصيف الظاهرة وتتبعها ، ولا بد من التنبيه أيضاً على أن هذه المؤثرات كانت تغذي ( شريان التطور)  وتنتقل من طور إلى طور  .
                  لقد أخذت قضية الهجرة الحضرمية إلى جنوب شرق آسيا ونتائجها حيزاً كبيراً من كتابات المهتمين بالنهضة في حضرموت وجعلوها سبباً من الأسباب ، وقد تكونت هناك جمعيات أهمها جمعية خير ( 1321هـ / 1903م ) وجمعية الإصلاح والإرشاد (1332هـ / 1914م ) والرابطة العلوية التي عقدت مؤتمرها الأول عام ( 1347هـ/ 1928م ) وغيرها ، وأنشأت تلك الجمعيات مدارس ومؤسسات وصحفاً وتمكنت من نقل مجتمع المهاجرين إلى مرحلة جديدة من العلم والثقافة ، وجاء تكوين تلك الجمعيات تحت تأثير الحركة الوطنية التحررية والثقافية بجنوب شرق آسيا وتأثير الصحف والمجلات العربية(34) ، كما كان للمقارنة بين أوضاع بلدهم وما رأوه في المهجر من مدنية وتقدم أثر في شحذ هممهم والبحث عن سبيل للخروج من أسر بعض الأوضاع التي انتقلت معهم، والهجرة في ذاتها لم تكن عاملاً مؤثراً لولا التواصل الذي ربط المهاجرين بوطنهم فأسسوا مشاريع نهضوية تحاكي ما لديهم في المهجر ، بل وانتقل الصراع الذي نشأ بينهم بشكل جزئي ، فحركة ابن عبدات مثلاً عبرت عن رفضها للوجود البريطاني وحملت معها أفكار الإرشاديين ، وفشلت سياسياً لكنها تركت أثراً في الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية في حضرموت ، كما أعادت تشكيلها(35) ، ومن المؤثرات ، حركة التأليف في العالم العربي والصحف والمجلات ( كالمنار ) و( العروة الوثقى ) و ( الوقائع ) و( الأزهر ) ،  وأفكار المجددين كابن تيمية وابن القيم والشوكاني ومحمد عبده ومحمد عبدالوهاب ومؤسسي حركة الإخوان المسلمين ، والاستشراق والأفكار القومية والأثر الغربي الليبرالي(36) ، وهذه المؤثرات شكلت تراكما فكريا ، وبعضها عند التحليل يمكن أن يتحول إلى نتيجة كما هو الحال في ( الفكر القومي ) فإنه ظهر متأخرا ، أي بعد إرسال البعثات التعليمية الأولى إلى العراق وسوريا ، كما أن الاستشراق لم يكن عاملاً أساسياً ، بل رأينا تدخلاته في الصراع الفكري بين المثقفين .
                 ومن المؤثرات أيضاً التدفقات المالية فالأستاذ جعفر السقاف يرى أن الازدهار الاقتصادي أحدث وعيا ثقافيا وقوميا ونهضة فكرية، ويشاركه الرأي الدكتور صالح باصرة ، أما الأستاذ محمد بن أحمد الشاطري فيرى أن مساهمة الثروة القادمة من المهاجرين في بناء المدارس الأهلية والمشاريع الخيرية ليست كما ينبغي(37) ، وهناك مؤثرات داخلية ، منها وجود أفراد يتطلعون إلى التغيير ويحملون أفكارا ساهمت في التقدم ،  فالسلطان صالح بن غالب القعيطي ( ت1375هـ) دفع بحركة التعليم ونشر الثقافة، والأمير علي بن صلاح القعيطي ( ت1376هـ) كان مثقفا محبا للعلم ، والثري أبوبكر بن شيخ الكاف يرى أن التعليم سيذيب الحزازات بين الطبقات .
           أما المعوقات فأهمها ، تخلف المجتمع ونشر الإشاعات والتهم ، وكذا سياسة المستعمر الذي لم يسمح بأي حركة تكون سببا في ظهور أصوات معارضة لسياساته ، وصدرت تبعاً للضغوط الاستعمارية توجيهات من سلطنتي حضرموت للحد من وصول الأفكار الوافدة من المهجر والبلاد العربية ومضايقة أصحابها بل ووصفهم بأنهم ( جراثيم شقاق مثيري أضغان وأحقاد )(38) .
      وعموماً فقد تظافر الوعي الوطني مع العوامل الأخرى ليشكل دافعاً للنهضة ومقللاً من أُثر عوائقها ، وتركت تلك المؤثرات بصماتها على النتائج والمخرجات سواءً في نمو الفكر أو تحديث الوسائل مع مراعاة ظروف الواقع .
         وفي تريم سارت النهضة بشكل متواز مع مدن حضرموت وحافظت على قدر من التوازن ، ورأينا في ملامح النهضة التريمية خصوصية ستظهر لنا عند الحديث عن  أفكار الرواد ، ولم يظهر في تريم أثر للصراعات المهجرية ، ومن العوامل التي تميزت بها تريم تردد كثير من أبنائها المهاجرين المتأثرين بنهضة الحضارم في مهجرهم  فبذروا فيها أساسيات النهضة ، كما أن أموال آل الكاف سرعت من بناء المدارس وطباعة الكتب وإقامة المسابقات وجلب الصحف والمجلات ، , وأصبحت تلك الوسائل مؤثرات في المستقبل ، ولا ينقص من قدر وأهمية هذه البدايات كونها كانت في نطاق ضيق من أبناء المجتمع ممن تهيأت لهم أسباب العلم والهجرة والاتصال بالعالم الخارجي .
 
 
ركائز النهضـــة  
أولاً : الجمعيات والوعي الوطني :-
               
                              كان المجتمع في تريم يخضع للتقسيم الطبقي الموروث عبر المراحل التاريخية السابقة ، وبالرغم مما تمتاز به بعض الطبقات من المزايا ، ووجود حالات من السخرة والتسلط وحكم القوة ، إلا إن حدة التناقضات والضغائن لم تكن موجودة كظاهرة اجتماعية ، وعاش الناس بتسامح وعفوية بالرغم من وجود الفجوات الكبيرة من الناحية العلمية والاقتصادية ، ولم يجمعهم  كيان وطني أو اجتماعي ، فمن أفراده من يعيش في انعزال عن المجتمع لايأبهون لما يجري من حولهم ، وبعضهم في تحالفات أسرية وأحلاف قبلية ، وآخرون يحكمهم نظام الحويف والحارات وقد وزعت عليهم وظائف يقومون بها في المناسبات تسبب لهم أحياناً فرقة واختلافاً، وقسم يعيش في قرى (وحوط)  استهلكت أوقاتهم أعمال الزراعة والكدح فلم يجدوا وقتاً للعلم أو الرقي ، وجاء نشؤ الجمعيات ليكون إطاراً جديداً للعمل الجماعي والتفكير الجدي لخدمة المجتمع بشكل منظم ، وأعدت الجمعيات أنظمة وقوانين حددت أهدافها ومجال أعمالها ومصادر دخلها، ولوائح داخلية تنظم سير اجتماعاتها ، فكان هذا بمثابة وعي قانوني نقل الأفراد إلى مستوى الاهتمام بضوابط مدونة وليست عرفية ، ومن المعروف أن السلطة الكثيرية كانت تسيطر على تريم من الناحية السياسية غير أنه لم يكن لها أي نشاط باستثناء القضاء والأمن ، فملأت الجمعيات الفراغ الحاصل في الجوانب التعليمية والاجتماعية ، وللوقوف على ماهية تلك الجمعيات فإن مبادئها تنص على أنها جمعيات نفع للمجتمع تهدف لنقله إلى مستوى أفضل ، و يرى بعض المؤرخين أن مطالب جمعية الحق ( تأسست عام 1333هـ /1915 م ) تدل على تدخلات في السياسة ، وذلك بسبب مطالبها وإقناعها سلطان تريم بالتخلي عن شؤون تريم السياسية والاقتصادية وإسنادها إليها(39) ، ومن أدلة ذلك أنها عقدت اتفاقية في شعبان عام 1333هـ مع سلطان تريم محسن بن غالب الكثيري اعترف فيها أن الجمعية تعبر عن لسان حال أهل تريم ، والتزم بتولية نوابه بعد الرجوع إلى الجمعية وإعطائها الحق في انتخاب القاضي وتحصيل الرسوم(40) ، كما أن جمعية الإخوة والمعاونة ( تأسست عام 1350هـ /1931م ) لم تهتم بالسياسة والقضية الوطنية إلا في آخر أيامها ومن ذلك قيام بعض أعضائها بالمساهمة في تشكيل ( لجنة وحدة حضرموت ) بتريم  ، كما نظمت مسيرة أثناء زيارة الحاكم البريطاني بعدن إلى تريم(41) وكانت الرؤية الوطنية لدى الجيل الأخير من قادتها أكثر وضوحاً لكنها لم تترجم إلى مطالب شعبية أو استخدام وسائل ضغط لتحقيق تلك المطالب ، وفي بداية تكوين الجمعيات لاقتها بعض الصعوبات وأشيعت حولها الشائعات ، فجمعية الحق رأى فيها أصحاب المصالح منافساً لهم في الجاه والسلطان فحاولوا الحد من أعمالها ، فناصبها العداء منصب آل العيدروس وانتهى هذا الصراع بحصار تريم ، كما عارضتها الأوساط ( المحافظة )(42) ، وعبر بعض الشعراء المتعاطفين مع المناوئين عن مواقفهم تجاهها ،ومنهم الشاعرالشعبي الكبيرعبد القادر بن عمر مبارك شيبان المعروف ( بابن الشعيرة ) في قصيدة ظنها البعض أنه يقصد بها جمعية الإرشاد(43) .
        واضطرت بعض الجمعيات كجمعية الأخوة والمعاونة لعدم الإفصاح عن توجهاتها لوجود من يرى أن مثل هذه الأفكار غريبة وأن (أي نشاط  حديث الشكل والمضمون بدعة ضارة يجب محاربتها)(44) .أما على صعيد النتائج ، فإن جمعية الحق حققت كثيرا من أهدافها خاصة في مجال التعليم والقضاء ، أما جمعية الأخوة فقد كانت نتائجها كبيرة ، حيث تمكنت من إصلاح القضاء من خلال تعيين قضاة على قدر كبير من العلم والكفاءة والنزاهة من أمثال الشيخ مبارك عمير باحريش ( ت 1367هـ ) ، وقد تساءل الأستاذ محمد الشاطري – وهو أحد مؤسسي الجمعية – قبل عملية الإصلاح عن أوضاع القضاة وفيما إذا كانت بريطانيا ترضى أن يظل القضاء الشرعي حراً(45) .
         وعلى المستوى القانوني فإن مواد قانون جمعية الحق جاءت ملبية لأحلام المؤسسين الناقدة لأوضاع تريم فنصت على نصرة المظلوم والدفاع عن الحق وفض المنازعات، وهي مواد تمثل الهاجس الأمني والقضائي حيث الفوضى العارمة ، ونصت مواد أخرى على تحسين مستوى التربية ، وتوافقت أهداف جمعية نشر الفضائل ( تأسست عام 1338هـ /1919م ) مع طبيعة مؤسسيها، وجلهم من العلماء وانحصر عملهاً في الدعوة إلى الله وبث التعليم الأولي في حارات تريم وقراها وتعليم الداخلين إليها من البادية مبادئ الدين وأطراف العلم ، وفي الجانب الاجتماعي نصت موادها على ضرورة التكافل والتضامن ، ونصت صراحة على عدم التدخل في السياسة ، وقفزت مواد قانون جمعية الإخوة إلى فضاء أوسع وغايات أعظم محددة فئة الشباب باعتبارهم مستهدفين أساسيينً ووضحت وسائل التنفيذ من مدارس وبناء مساجد لنشر تعاليم الإسلام ، والخطابة والوعظ والكتب والصحف لبث الوعي والثقافة ، كما كان الهم الاقتصادي واضحاً في قانونها وذلك ببناء مؤسسات مساهمة وتحسين الزراعة و الحرف ، واجتماعياً دعت إلى التكافل والتعاون(46) ، وعلى صعيد التمويل اعتمدت الجمعيات على رسوم الاشتراك ونوعت جمعية الأخوة من مصادر دخلها عبر أموال المهاجرين وتبرعات الأعضاء وأسهم المؤسسات وساهم هذا التنوع في انتشار الأعمال وجدواها ، وقد استمرت جمعية الحق في نشاطها حتى عام(1362هـ/1943م) وضعفت جمعية نشر الفضائل في عام (1340هـ/1921م) ، لتعيد نشاطها في عام (1341هـ/1922م) ، ولم تشر المصادر التاريخية إلى أسباب تأسيس هذه الجمعية مع وجود جمعية الحق، وواصلت جمعية الأخوة إلى عام
( 1387هـ/1967م ) ، وبقيت من آثارها مدرسة حملت اسمها إلى اليوم ،  وتكونت في بداية الستينيات من القرن العشرين ( جمعية العمال ) وأقامت صفوفاً لمحو الأمية وأصدرت نشرة ( صوت العمال ) كما ساهمت في النشاط السياسي(47) .
                    لقد أيقظت الجمعيات الضمير الوطني ، وأرست بدايات العمل التعاوني والمؤسسي وأدخلت أشكالاً جديدة في الاقتصاد  كالشركات المساهمة ورسوم إصلاح السدود ، ونظمت التعليم ، فجمعية الحق أسست مدرسة الحق التي احتضنت طلابًاً كان لهم الدور الرئيسي في تحديث التعليم وتطوير أساليب الخطابة والتأليف . وفتحت جمعية الأخوة مدارس حديثة ، وأرسلت وفودا إلى اندونيسيا وملايا وعدن والحجاز والحبشة للاتصال بالهيئات والشخصيات وتعريفهم بمبادئ الجمعية وأهدافها، واتصلت بالحكومة المصرية بطلب معلمين عملت السلطات البريطانية على عرقلة صولهم ، وفي عهدها أنشئ مجلس  للتمرن على الإفتاء، في عام (1361هـ/1942م )، ووصلت في مجال الدعوة إلى الله إلى شبوة ودوعن وأسندت إليها شؤون الأوقاف ، وأقامت مشاريع وشركات ، ولجان لتعمير السدود، واهتمت بقضية فلسطين من خلال إنشاء
( لجنة فلسطين ) التي جمعت  تبرعات أرسلتها عبر مصر(48) ، وأصدرت مجلة
( الإخاء ) وأنشأت الأندية الثقافية ، وفتحت في عام (1362هـ/1943م) مطاعم للتوزيع على المحتاجين ، وتواصل شبابها مع الانبعاث الفكري والثقافي عبر قنوات عدة كالصحافة العربية وقراءة الكتب المعاصرة ، وأعادوا إنتاج هذا التواصل من خلال التأليف وصياغة المحاضرات التي أذكت الوعي، وفي عام (1377هـ/1957م ) أسس المعهد الفقهي بمبادرة من بعض العلماء والوجهاء لتأهيل عدد من الفقهاء والمعلمين، وكان للاستقرار السياسي النسبي  وإدخال مقدمات النظم الإدارية في بعض الدوائر الحكومية ومؤتمرات إصلاح حضرموت دور في الدفع باهتماماتهم الوطنية لكنها لم تصل إلى تأسيس كيان سياسي واضح الملامح ، ومن المآخذ على الجمعيات أنها استبدت بالأمر حين اشتد ساعدها ، وخفت الصوت المعارض لرئاستها ، ومع مرور الزمن ظهر في بعض قادتها حب الاستعلاء والظهور(49) .    
 
 
 
ثانياً: التعليم والمدارس :-
        وصل بنا المطاف في تتبع الوضع التعليمي بتريم إلى وجود الزوايا والكتاتيب وافتتاح رباط تريم وأعقبه دور المبادرات الأهلية والقدرات الذاتية فافتتحت مدارس أهلية دفعت بالعجلة قليلاً إلى الأمام وذلك بإدخال مقررات دراسية جديدة كالتاريخ والجغرافيا ، بيد أنها ظلت تفتقر إلى المناهج والتنظيم الإداري والتعليمي ، ومن أشهر تلك المدارس مدرسة الحق ( 1334هـ/1915م ) وبتولي الأستاذ محمد بن هاشم إدارتها في عام (1346هـ/1927م ) أدخل  عليها تطويراً في الإدارة والمادة العلمية، ثم أسست مدارس جمعية نشر الفضائل (1337هـ/1918م) ، واهتمت بمبادئ التعليم والوعظ ، وفتحت في مدن وقرى حضرموت مدارس شبيهة بتلك المدارس منها ، (الخيرات )  بتريس (1327هـ/1905م) و( مكارم الأخلاق ) بالشحر
( 133هـ/1918مـ ) ، و( النهضة ) بسيئون ( 1339هـ/1920م ) ، و (الهدى ) بالقطن (1339هـ/1920م ) ، و( الفلاح ) بشبام ( 1358هـ/1939م ) ، و( طرموم ) بالغرفة ( 1342هـ/1923) ، و(المدارس العيدروسية) بتاربة وثبي والريضة(50) ، ومدارس الكاف، وظل هذا النوع من التعليم محصوراً في دائرة ضيقة تنقصه الموارد المالية والمعلم المؤهل ، بيد أنه استقطب عدداً من التلاميذ ودفع بالقائمين على الكتاتيب إلى فتح مدارس مشابهة ، وبقيت أساليب التلقين التقليدي وعدم مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ تحد من تطوره ، وحافظ هذا النوع على ربط التلاميذ بالمساجد لتلاوة القرآن الكريم ، وأدخلت فيه بعض الأنشطة والمفاهيم  التي لم تعرف من سابق كالأناشيد وإقامة الاحتفالات والمسابقات البسيطة والرحلات .
      تميزت ( مدرسة الحق ) عن غيرها أنها جمعت بين مشايخ العلم التقليديين ورواد النهضة وأصحاب المال، ونتج عن هذا التعاون ثمرة هامة ألا وهي تخريج عدد ممن ذاع صيتهم في مجالات عدة فمنهم العلامة سالم بن سعيد بكير رئيس مجلس الإفتاء حين تأسيسه ، والقاضي مبارك عمير باحريش ، والأستاذ التربوي المؤرخ محمد بن أحمد الشاطري ، والأستاذ صاحب الجهد الكبير في الثقافة والأدب محمد بن سالم السري ، ورجل المشاريع والعمل الاقتصادي عمر المحضار بن علوي الكاف ، والقائد التربوي الأستاذ علي بن شيخ بلفقيه ، ومن هؤلاء من أسس جمعية الأخوة والمعاونة وشارك في العمل النهضوي، وكان ( لمدارس الكاف ) سهم في هذا النوع من التعليم وتحسنت أحوالها بتولي التدريس فيها الأستاذ شيخان الحبشي في الأعوام ( 1947 – 1948 – 49 19م )(51) ، وبحلول عام ( 1352هـ / 1932م ) بدأت دورة جديدة في مسار التعليم وذلك بافتتاح أول مدرسة لجمعية الأخوة والمعاونة بمنهجها الأكثر تطورا حيث اقتبس من المنهج المصري ، وفي عام ( 1357هـ/1938م ) افتتحت مدرسة للبنات ثم أغلقت عام ( 1373 هـ / 1954م ) . وفي عام ( 1359هـ /1940 م ) افتتح المستوى المتوسط لمدرسة البنين وأصبح بمقدور الطالب بعد هذا المستوى المشاركة في الحياة العامة والتأهل لمستوى أرقى وهو ما حصل على أرض الواقع حيث شق كثير من الطلاب طريقهم وحصلوا على وظائف داخل حضرموت وخارجها ،وأوكل آل الكاف نظارة مدارسهم للجمعية، ومن أجل تكامل أعمالها وتنفيذ أهدافها أقامت الجمعية معهداً للمعلمين في عام  (1360هـ/1941م )(52) ، وفي عام (1377هـ / 1957م ) تم دمج مدرسة الأخوة مع مدرسة الكاف في مدرسة واحدة سميت ( مدرسة الأخوة والكاف المشتركة ) ثم ألحقت بمعارف الدولة الكثيرية عام (1387هـ/1967م) ،  وحصل تعاون وإشراف غير مباشر من قبل إدارة معارف السلطنة الكثيرية عن طريق انتداب معلمين لمدارس الجمعية والتنسيق في بعثاتها إلى الخارج(53) .
                    وتجربة مدارس جمعية الأخوة جديرة بالتحليل لرصد أبرز مظاهرها ، فهي أولاً حققت الهدف التربوي الذي نص ( على الاهتمام بالتربية  والجمع بين المقصد الديني وتمكين خريجها من شق طريقهم في معترك الحياة )(54) ومن ناحية أخرى يعد هذا التوسع انطلاقة غير مسبوقة في مجتمع مغلق ، كما أن الاهتمام بالإناث و

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص