الترابط الأسري في وادي حضرموت .. إلى أين ؟

حضرموت اليوم / بقلم :نزار سالم باحميد

تناهى إلى سمعي صوت أمي الدافئ : يالله .. تعالوا للشاهي ؟

في حضرموت وفي مناطق واديها الخصيب وتحديدا في وسطه سيئون، تريم، شبام وما حولها تعودت الأسرة أن تجلس وقت الظهيرة من كل يوم جلسة أسرية خاصة .. يجتمع فيها رب الأسرة وربة البيت وكل أفراد العائلة يتبادلون الحديث فيما بينهم ويتناقشون في أمورهم الخاصة ويتفقد كل واحد منهم أفراد الآخر، وعادة ما تتوسط عدة الشاي غرفة الاجتماع إذ تباشر ربة البيت مهمة إعداد الشاي بنفسها مستعينة بمن حولها من بنات وزوجات الأبناء، إذ أن الغالب في بيوت حضرموت أن تعيش الأسرة الواحدة في بيت واحد ما دام الوالدان على قيد الحياة ولو ابتنى كل واحد من الأبناء له بيتا .. إلا إن أصبح المكان ضيقا .. فيسمح الوالدان أن ينتقل ابنهما إلى بيته الآخر على أن يحضر هذا الاجتماع مرة واحدة في الأسبوع على أقل تقدير ..

جلسة الشاي هذه .. ليست مجرد جلسة عادية، يشرب الأفراد فيها الشاي ويتناولون حبات (الحنضل) والمكسرات، ولكنها اجتماع أسري حميم تذوب فيه كل التباينات في الآراء والاختلافات في الرؤى ..

تميز الشعب اليمني في حضرموت بخصال أصبحت له كالعلامة التجارية المسجلة، حيث أن صفة الحضرمة فيه جعلته متميزا عن غيره، ولقد كانت كلمة حضرمي تعني الأمانة والبساطة والأخلاق الحسنة والفطرة السليمة، ذلك أن الإنسان في اليمن عموما ومنها حضرموت، قد حظي بوصف الحبيب المصطفى (الإيمان يمان، والحكمة يمانية)، وقد وصف الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم أهل اليمن بأنهم (ألين قلوبا، وأرق أفئدة)، والنبي الكريم قد وصفه الله تعالى بقوله : (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى) من هذا المنطلق ومن هذه التعاليم الإسلامية أخذ أهل حضرموت هذه الصفات والأخلاق وجعلوها سلوكا في حياتهم ومعاملاتهم اليومية على الصعيد الشخصي والأسري والمجتمعي .

إن الترابط الأسري بين أفراد الأسرة الواحدة في حضرموت ميزة تلاشت في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، إذ أننا نرى ونسمع عن أسر تكاد لا تجتمع إلا في المناسبات .. وهيهات . أما في باقي الأيام فكل فرد منشغل بما هو فيه من سعي دؤوب ومتواصل ومستمر من أجل ضمان الرزق والكسب الذي تكفل الله تعالى به (وفي السماء رزقكم وما توعدون * فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون)، فلا يكاد يلتقي رب الأسرة بأولاده إلا فيما ندر، وكذا ربة الأسرة التي باتت مشغولة هي الأخرى تأتي منهكة من عملها وقد تناولت وجبتها في المعمل أو في المطبخ بمفردها، وتركت لنفسها الفرصة لترتاح . أما الأولاد، إن كانوا في نفس المنزل، فكل واحد قد امتلك مفتاحا خاصا به، يأتي في الوقت الذي يريد ويغادر في الوقت الذي يختار، بزعم  الديمقراطية والحرية، وإن تناول وجبة الغداء فلا فرق بين أن يتناولها في البيت أو المطعم فكلاهما سواء، ولكن في البيت الأجر مدفوع مسبقا .. إذ أنه يتناول وجبته بمفرده وحيدا على شاكلة من سبقه أو يلحقه، فقد كان منشغلا ولا يزال بانتظاره مشوار من أهم المشاوير ! ولا وقت لديه لانتظار بقية أفراد (الأسرة) ..

أما البنات .. فلا أدري كيف أصف الموقف، ولكن ما نراه في بعض الأعمال الدرامية عبر القنوات الفضائية يغني، إلا أن البنت في حضرموت لازالت محافظة على قيمها وأخلاقها المستمدة من الدين الإسلامي الحنيف الذي حفظ للمرأة كرامتها، وستبقى كذلك - إن شاء الله - مادامت الحياة تدب في أوصالها متمسكة بكتاب ربها وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن يأتي إلى اليمن يشهد بأنه وكل مناطقه لا يزال فيه الخير، ومن زار وادي حضرموت أصابته الدهشة لما يرى من حجاب المرأة الساتر لكل بدنها وحشمتها ومشيها في الأماكن المخصصة لها .. هذه الخصال التي فقدت في كثير من بلاد الإسلام .. وقد وصف أحد الزائرين لمدينة سيئون هذا المشهد بقوله : هنا يستطيع المرء منا أن يمشي رافعا رأسه دونما خوف أو حرج، لأنه لا يجد ما يجرح النظر ويخدش الحياء، فكل النساء هنا محجبات ومتسترات فالحمد لله ،، ،نتم في خير كبير .

هذا التمسك بتعاليم الإسلام وأخلاقه الحميدة، قوي من خلال هذه الجلسة اليومية بين أفراد الأسرة عند الظهيرة على فنجان شاي البخاري الفريد، والقصد من هذه الجلسة ليس ذلك الفنجان الصغير، فبإمكانك أن تشرب كوبا كبيرا من الشاي بأي طريقة اخترتها وبأكثر سرعة ولكنها الألفة والتقارب وطول فترة المكث، حتى يضطر كل فرد للحديث والتعبير عما يجول بخاطره ويكشف الكل عن أسراره وخفاياه كي يشاركه الجميع مشاعره من فرح وترح ويصبح لهذه الجلسة معنى ومدلول وهدف .

إن نظام هذه الجلسة يبدأ عندما تجهز ربة البيت نفسها بعد أن وضعت عدة الشاي والبخاري به النار وارتدت ثيابها الجميلة وحلتها البهية وأخذت مكانها إلى الخلف من عدة الشاي وأصبح مكان رب الأسرة جاهزاً بالفراش الوثير (السليمود) والمتاكي الناعمة (التكاي)، وغرفة المجلس مهيأة .. فيحضر رب الأسرة منتشيا متناسيا تعب وإرهاق يوم ملئ بالمهاترات مع زملائه في العمل .. ويجلس الأبناء في تناسق عجيب ينم عن الاحترام والتقدير، فإلى جوار الأب يجلس الابن الأكبر ثم الذي يليه ثم الذي يليه .. ويجلس الصغار في طرف المجلس، بينما تجلس البنات والنساء في الجانب الآخر من المجلس على نفس النمط، وقد نصب الساتر إن كانت هناك ضرورة ويبدأ توزيع (الحنضل) واللوز والفل وغيره من المكسرات التي اشتهر بها الحضارمة، وبعد لحيظات تسمع حنحنة الملاعق في الفناجين الصغيرة الأنيقة ببريقها المشع، وقد علت الأصوات واختلطت فكل واحد يتحدث إلى من هو بجواره وتعلو ضحكات وربما صراخ بعض الأطفال، وصوت المذياع، وربما شريط تسجيل أو قناة تلفزيونية ويمضي بعض الوقت .. ثم تتفقد ربة الأسرة أفراد العائلة وتتساءل مع نفسها : هل الكل حاضر ؟ وتدور بعينيها في المجلس بخفة ودون أن يشعر بها أحد .. لتبدأ بصب الشاي .. وفي الجلسة اليومية التي تمتد لساعة أو أكثر قليلا ربما كان مع رب الأسرة موضوع أراد عرضه وطرحه للنقاش، فيصغي الكل حتى ينتهي، ثم يبدأ النقاش بشكل مرتب ويبدى كل واحد رأيه ومقترحه، وتجرى الاتصالات وتتوزع التكليفات حتى ينجز الأمر، وتعود الضحكات ويُشرب الشاي مع بعض التعليقات ويتناثر قشر (الحنضل) . وحينما يقترب موعد أذان العصر يحين وقت تناول وجبة الغداء، فتهرع الشابات وصغار الأولاد للتهيئة، فهذا يحضر السفرة (المسرفة)، وآخر يبادر في غسل الأيدي (في المغسال) ثم يكون التمر أول الوافدين إلى السفرة فيتناول كل فرد ما تيسر من حبات التمر الذي اشتهر به وادي حضرموت بعد أن تمت رزامته ليكون متوافرا في البيت طول العام، ولقد تعوّد أهل حضرموت أن تكون غرفة الجلسة هي نفسها غرفة تناول الطعام اليومية، أما في المناسبات فلا تعد السفرة أمام الضيوف بل في غرفة أخرى خاصة لأنها تكون غنية بما لذ وطاب من صنوف الوجبات الحضرمية الشهية .

بعد أن يتناول الكل الغداء، ينتظرون فنجان الشاي الأخير يختمون به المجلس، ثم يأخذ كل واحد نفسه إلى مكانه الخاص ليمنحها قسطا من الراحة، حتى يحين موعد صلاة العصر .

في المساء تعود الجلسة العائلية ولكن بنسبة أقل من الترتيب .. إلا أن طعام العشاء يتم تناوله بصورة جماعية، حتى يتم التأكد من أن الجميع قد حضر .. إلا من كان وراءه شغل أو اعتذر لسبب أو لآخر .

إن الحفاظ على هذه العادة الاجتماعية وأمثالها يعد من المحافظة على الأصالة والموروث، ولعل الكثير منا لا يدرك أهمية ذلك أيامنا هذه لأننا نعيش هذه العادة واقعا ملموسا، إلا أننا نرى الأسى على وجوه من شغلتهم أعمالهم عن مثل هذه الجلسات، فتراهم يتشبثون بها حينما يأتون إلى ذويهم هنا في وادي حضرموت، فتستغرب لذلك، ولكن كما يقال : لا تدرك قيمة الشيء إلا إذا تم فقده ..

إلى ذلك تجد العديد من العادات الاجتماعية الأخرى تأتي امتدادا لهذا الأصل، فإذا كانت الأسرة وهي اللبنة الأولى في المجتمع متماسكة ومترابطة بتلك الصورة، فكيف تتصور أن يكون بناء المجتمع .

هذا هو سر تماسك المجتمع في وادي حضرموت .. إلا أن السر بدا ينكشف، ويحاول الآخرون أن يختلقوا لنا أسبابا للتخلي عن بعض عاداتنا الاجتماعية المتأصلة فينا والتي تعد صفة من صفاتنا التي تميزنا عن غيرنا ..

ترى هل سنجيبهم وننجرف مع التيار؟؟ هذا ما لا نرجوه !

 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص