وقفات في رحيل حبيبٍ غالٍ

(( كفى بالموت واعظاً )) ، هكذا تحدث سيد الخلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلّم ، وتلك موعظة بليغة حان منها فصل جديد عندما ودّع دنيانا الفانية سادس أيام شهر رمضان الجاري ـ ( 1436هـ ) ـ عمي ( حماي ) الحبيب الغالي جمعان عبد الخير بن نصر ، و نحن بني الإنسان لا يستجد لنا إصغاء إلى موعظة الموت إلا حين نودّع قريب عشنا على مقربة منه أو نودّع شهير من الناس لأي سبب كانت شهرته . كان ( أبو عمرو ) طيب القلب سخي بما في يده ، ساع إلى إدخال البهجة على بسطاء البائعين كلما امتلك من المال ما يجعل ذلك ممكناً له ، حريص على إسعاد الآخرين حرصه على سعادة نفسه أو قريب من ذلك ، اغرورقت عيناه بالدمع في أوّل ليلة من رمضان الجاري حين قامت صلاة المغرب في مسجد بلدته المرقّدة ـ أحد ضواحي مدينة القطن بوادي حضرموت ـ ولم يكن قادراً على أدائها مع جماعة المُصلين وقال (( هذه أوّل مرة تقوم صلاة المغرب في رمضان ولا أقدر أحضرها )) ، كان حلو المعشر بصورة لافتة ومتميّزة فيحرص على لقائه والحديث إليه كل من عرفه عن قرب ، يُحب الناس الطيبين ويحبونه ، وكان ـ رحمه لله ـ سديد الرأي مُقدّم في قبيلته ومُقدّم في أسرته لا لكونه أكبر إخوته فحسب ولكن لحرصه على الإنصاف وقدرته عليه وبعده عن المجاملة ، كان لا يتردد في عمل ما يعتقد أنه صواب ، غير مُتهيّب ولا هيّاب ، ويقول ما يعتقد بصوابه رضي من رضي وسخط من سخط ، وكان متواضع لا يُقيم للمظاهر أي اعتبار ولا أي مقدار ولا يعبأ بها . كان هيّناً سمحاً ، ولم يكن حريص على شيء حرصه على تربية أبنائه وتنشئتهم تنشئة صالحة وسعيدة .. وكان ذا نظرة مستقبلية صائبة وموفقة فيما يخصهم تحديداً ، وكان حازماً في ما يعود عليهم بالخير والنفع والمصلحة في مستقبلهم ، ساع في مصالحهم الشخصية رغم مناهزته الخمسة والستين عاماً . و قد خرجت من استغراقي في التفكير بموعظة الموت بالجديد التالي : 1) كلّما هممت بعمل أو هممت بالتقاعس عن عمل اسأل نفسك : ما الذي سأرتاح له و ينشرح له خاطري وأنا في لحظات الانتقال من هذه الحياة : إن فعلته أو إن لم فعله ؟؟ 2) انهض لما ستكون سعيداً أنك عملته في لحظة احتضارك . 3) ما أعظم حض من يحتضر إن كان قد صرف معظم وقته في الدنيا في طاعة الله أو على الأقل لم يُفرّط في واجب ولم يقع في محظور أو أنه قد تاب منه وعنه توبة نصوح . 4) القبر روضة من رياض الجنة مبتهجة فيه الروح مُنعّمة ، أو هو حفرة من حفر النار فالروح مُبتئسة معذَّبة . 5) لا يكن همّك في حياتك إرضاء المخلوقين ولو كانوا ممّن هم مُهمين لديك فتفعل ما يسرهم وتُجاريهم في ما يُعجبهم منك لا سيما ما خالف مُراد لله منك ، فلربما وجدت منهم من لا تلمح على وجهه معنى الفقد لفراقك وموتك ، ليكن همّك إرضاء الله عز وجل فذلك الإرضاء ما ستحتاج إليه وأنت ترحل وبُعيد وبعد رحيلك .. 6) احتفظ بذكريات جميلة مع من يعزُ عليك من الناس و اجعلها مطبوعة في مُخيلتك فلربما احتجت لتذكّر مثلها بعد رحيلهم ، دون أن تنسى أنّك لربما رحلت قبل من تحتفظ لهم بالذكرى الجميلة كلهم أو بعضهم . 7) لا أحد أكبر من الموت ، و لا أحد عصي على الموت ، ولا أحد عصي على أن يحمله الناس يُطببونه و يغسلونه ويكفنونه و يحملون جنازته ويشيعونه و يُلحدونه في قبره و يهيلون عليه التراب و ( كرمة الميّت دفنه ) ، ومهما كان المرء ( مالي المكان ) وشديد الحضور فإنه لا محالة سيموت ، والسعيد من كل هؤلاء هو من اغتنم وقته وعمره في عبادة ربه ونفع خلقه وانتهى عن أن يكون مصدر للشر أو للإثم أو للمعصية و للألم و للمعانة لدى الآخرين ، وكان مصدر خير وسعادة للناس وعبادة حاضرة حيّة لربه ومولاه ومالك أمره ومتوفيه وراجعه إليه فمنعّمه أو معذّبة . 8) الجميع يرحل بين مُتقدم عن غيره ومتأخر فـ (( إنّ الله و إنا إليه راجعون )) ، المهم كيف يكون حالنا مع الله حين المرجع ، ولمّا كان المرجع مجهول الزمن والمكان ولمّا كان وقت الإنسان في الدنيا أجمعه فرصة للعبادة اقتضى هذا الاستعداد الدائم المستمر و اغتنام كل الأيام في مزيد طاعت . 9) كل من يدب على وجه الأرض كبيراً أم صغيراً يوماً ما سيموت .. في مكانٍ ما سيموت ، المهم ماذا كان نصيبه من طاعة ربه المُيسّرة لمن رغب وأراد و اختار ، وماذا كان نصيبه من نفع خلق الله بكل صور النفع الممكنة بما فيه تربية أبنائه تربية صالحة ، وهو حين يحتضر سيحتاج إلى كل خير قام به وسيفرح به ، وسيندم على كل تفريط وعلى كل تقصير في طاعة الله أو ارتكاب لما حرّم الله ونهى ، وبدلاً من أن يطول بنا الوقت في التفكير في حال الآخرين فليكن تفكيرنا وتركيزنا منصب على ذواتنا ماذا هي عاملة وهل ترى أنّ حال كل منّا سيرضينا يوم وداع الدنيا وفراق الأحياء ؟؟ 10) بدلاً من أن تؤخر لحظة محاسبة نفسك ومراجعة رصيدك مع الله أو مع شهوات نفسك كنت إلى زمن مرضك الذي قد يكون محطتك الأخيرة في الدنيا هذا إن كنت محظوظاً بمرض يمنحك فرصة المراجعة على الأقل ، حاسب نفسك الآن وراجعها واعلم أنّ تعويد النفس الطاعة ممكن ومُتاح ، فقط يحتاج إلى صبر واستعانة بالله ومفارقة بيئة السوء ورفقائه ما كان ذلك عقبة مانعة ، ويحتاج إلى ترويض للذات حتى تستقيم على أمر الله ، فلا تبتئس بتعثّرك وما يقع منك من تعثّر و تفريط ما دمت قد عزمت العزمة الصادقة على أن تصلح ما بينك وبين الله عز وجل ابتغاء رضوانه وابتغاء مثوبته و تنهض للطاعة وتؤديها بنفس شغوفة بها وبمرضاة الله مُستحضراً أجرها وثوبها وذلك مصداق عزمتك . 11) أفضل ما يقدمه الحبيب لحبيبه الذي مضى ولقريبه الذي رحل أن يدعو له ليس يوم الوفاة فحسب ولكن في كل يوم و حبذا أن يخصص دعاء بعض سجداته للراحل الجديد وللراحلين من قبل ممن يعُزّون عليه . 12) أفضل عزاء لمتوفي أن يفعل أقربائه كل الخير الذي كان يود منهم القيام به و الخير الذي كان يرتاح وينشرح له خاطره اقتناعاً أنّ في ذلك أرجى عاقبة في الدنيا والآخرة . 13) إنّ فراق الموت ورحلته تنقضي ، لكن المصيبة العظمى فراق الآخرة حين يذهب بالبعض إلى النار ممن ستحقها ، والبعض إلى الجنة ممن عمل بمقتضى إيمانه بها في الدنيا .

بقلم : مرعي حميد

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص