حضرموت المبهرة..

أربعة عشر يوما قضيتها في المكلا -لكأنها أعوام - أستنشق فيها معاني الحضارة المتجذرة في عمق التربة، وارتشف يقطرات من عرق التأريخ العابر من هنا. 

إنني أحدثكم من (حي السلام) بالمكلا وأنا أشاهد الفطرة تمشي في شوارعها ، ورائعات القيم تتغلغل في أزقتها.

اليوم أدركت أن العالم تتلمذ على أيدي الحضارم (علم الاجتماع) وأن (ابن خلدون) حضرميا ولو لم يكن كذلك لما انجب عقله (المقدمة).

لله أشهد أنك في حضرموت تسترد آثار خطواتك في طُرق التأريخ ،وتحتفل بدورك الخالد في صنع أحداثه ،وتشهد بجمال أهلها الذين لم تستبد بهم مخالب المدنية ، ولم تلوث عقولهم قواقع الانتماءات. هنا أنت حضرمي وكفى! ولا داعي بعدها للألقاب.

من أراد أن يرضع الأمل فهنا أثداؤه، من أراد أن يرتوي بغيث التفاؤل فهنا سحبه، من أراد أن يشرب من نهر النجاح فهنا منابعه.

عندما يحدثك التأريخ عن أكثر من 300 مليون من البشرية أسلموا على يد الحضارم في جنوب شرق آسيا .ستدرك تلقائيا مفاتيح النجاح تلك التي امتلكوها، وسترى عيانا الفتوحات الأخلاقية التي اخترعوها وقادوها ، ووقفوا بها على أبواب المدائن فاتحين.

كتب الصحفي جمال خاشقجي منذ زمن في صحيفة الشرق الأوسط مقالا عن نشاط الأتراك وزحفهم الأخلاقي وتساءل ( ماذا يصنع الأتراك في الصوال) وأنا أجيبه الآن . إنهم يقتبسون تجربة الحضارم في ماليزيا وأندونيسيا وعلى منوالها ينسجون. 

إنني أقف الآن على سواحل (بروم) الآسرة ، تحدثكم عن أرض بكر تحتفل بثرواتها الثرية ،كما احتفلت من قبل بعقولها الندية.

وهاهي هضبات (الوادي) الصحراوية تمدك بخامات العقول التي كوَّنَ أنسجتها العسل (الدوعني) وأمدها بقوة الذاكرة ، وجمال الإبداع ، وبراءة الإختراع، والمواد الخام لهندسة الحضارة المبهرة.

هنيئا لكم أيها الحضارم (حضارة) جُلَّ حروفها ممنوحة من اسمكم.

هنيئا لكم حضارة غادرت أصقاع الأرض لتستوطن أرضكم.

يحكى أنَّ مئات العلماء ، ونوابغ الأطباء ، كبار الساسة ، ومبدعي الإعلام آخرهم (أحمد باجابر) يطل ب(حضرم تون). وأفواج النساء منتشرات في (الوادي) و (الساحل) ينقشن الوعي على الأيدي ، ويصنعن من (الخبز) الحضرمي ثقافة يطعمنها الأبناء. هذا ما أمدت به حضرموت اليمن ،كلا بل ما أمدت به العالم. 

أولئك آبائي فجئني بمثلهم. 

جامعات ، معاهد ، مراكز ، أندية ، منظمات ، يتولى الشباب مهمة الزحف إليها ومن حولها. 

لئن فآخر (آل تعز) بعاصمتهم الثقافية محليا فإن هناك (تريم) عاصمة الثقافة الإسلامية ؛ إنها العالمية التي تخطت حدود التنافس المحلي ياسادة ولافخر. 

ولئن نطقت حضرموت بألسنة شبابها فإنها ستنطق اليوم بلسان (عادل باحميد) محافظها المحافظ، وستنطق بلسان (نزار الكثيري) و(أكرم صالح) و (أسامة العموي) و (فدوى مصيباح) و (آمنه باكثير) و(فائزة بامطرف) تلك المرأة التي تقطن بداخلها شابة تنطلق منها الدافعية والحماس ، وشباب أُخر تسلم زمام استدعاء المجد الحضرمي فهو يطبع دعواته ويوزعها.

هنا (الباء) الحضرمية تعلن (بداية) الصباح من جوار مسجد الروضة تتغذى (باخمري) القرص السحري الذي منحته (باءها) ليمدها بعمق الإنتماء، وقوة الإنتشار. 

ولئن أحياني الله لسنوات قادمة فإن حضرموت ستسترد اليمن المسلوب، وستستعيد الأمل الآفل ، والريادة التي تعرضت للخسف ، ونهبها قُطّاع الطرق. 

رفعت الأقلام وجفت الصحف فلم أعد أقدر على الحديث عما رأته عيني ، وسمعته أذني ، واغرورق الدمع فرحا به حينا وترحا أحايين.

نعم إنني اعترف لكم اللحظة - يا سادة - لقد سحرني الحضارم ويا له من سحر.

إنه السحر نفسه الذي اشتهروا به عبر التأريخ وغزوا به العالم .

سحر الأخلاق ، سحر القيم ، سحر الطيبة ، سحر الفطرة ، سحر الوعي الأخاذ ، والهدوء المتزن ، والأصالة العميقة ، والمعاصرة الواعية.

أيها الحضارم ماجئتم به السحر إن الله سيحفظه .فحافظوا على جمال سحركم الأخاذ ، ونبل مبادئكم العوالي ولاتسمحوا لفيروسات الإنتماء ، وجراثيم الحزبية ، وأورام الطائفية أن تحطم أكفاءكم . وتقضي على رونق اجتماعكم ، وتهشم لحم وطنيتكم ، وتدق عظم ما صنعه أجدادكم.

اجعلوا من (الإنصاف) أكلة فيها جل غذائكم ، ومن (المسئولية) عسلا فيه تنوع رحيقكم، ومن (الوعي) ماء تسقون منه وارديه. 

طاردوا فيروسات الفرقة بمكافحات تلاحمكم ، وأذيبوا جليد العزلة بينكم بسمو تفاهمكم. ولئن اختلفت ألوان العسل الحضرمي فإنه في النهاية يبقى عسلا. 

أيها الحضارم : لئن كان بالقرب منكم أقوام يصنعون أنهار الدم يسبحون فيها لإشباع شَرَهِ الحكم ؛ فإن أنهاركم من عسل مُصفى . ومنه تغذت البشرية وتعلمت جودة المنتج ، وجمال الاعتناء ، وبصمة الصناعة. 

فدلونا على السوق.

كم أنتم رائعون فماذا لو اكتملتم.ً

بقلم : الخضر سالم بن حليس اليافعي

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص