من أراد المدد فليهرع إليه عز وجل.. ذو القـوة

سمية رمضان أحمد

ثلاث قصص من واقع الحياة تظهر عظمة الاستعانة بالله سبحانه القوي هو أحد أسماء الله الحسنى التي تجعلنا نشعر بالطمأنينة وتغمرنا الفرحة أننا في معية ورعاية إله قوي قادر، تتأكد لنا بصفة دائمة ومستمرة قوته التي لا تنضب ولا تضعف، وحكمته وقدرته التي من عظمتها يكسو قليل منها قصص حياتنا المسطورة بحكمة فائقة في سجل الزمن، وعندما نسير في الحياة نقابل أشخاصاً ينطبعون في أعماق قلوبنا وتعيش معنا قصصهم الحقيقية الواقعية، منهم إحدى الأخوات التي أطلت علينا قصتها فأرهفت لها الأسماع وتنبهت لها العقول. كانت في ريعان الشباب وقد حباها الله بستة من الأولاد ذكوراً وإناثاً؛ وزوج تحسبه من الصالحين، كان ديدنه خطواته المتعاقبة إلى المسجد، ورصيده حب الجميع له. وكان الزوج دوماً يفوّض أمره إلى الله، وعند خروجه في الصباح وعندما تتكالب عليه طلبات الصغار كان دوماً يردد: استعنت واستغثت بالله القوي، وهو سبحانه سيلبي بقوته كل طلباتكم، والغريب أن الزوج كان دوماً يلبي ولا يشعر بعجز ولا ضعف، وكان الله يعينه في عمله، ولا تشعر أسرته معه بحاجة أو حرمان خاصة في حياتهم الريفية البسيطة، رغم أنه كان يعمل بـ«الأُجرة اليومية»، إن عمل يوماً حصل على المال، وإن لم يعمل خلال ذلك اليوم فلا مال، وكانت دائماً ما تسمعه يناجي الله القوي ويطلب منه أن يجبر كسره وضعفه بقوته سبحانه وتعالى. وفي يوم من أيام الحياة، وحين غابت الشمس؛ فسكنت الطرقات ودبت الحياة في الغرفات، خاصة إذا كان سكانها في قرية ريفية بسيطة، وما هو بالوقت اليسير إلا وكان المهاد هو المثوى وأحضان الليل هي الملاذ؛ كسر هذا السكون طَرَقات شديدة على الباب الرئيس، وفجأة وبلا مقدمات غاب الزوج عنهم في سيارة مصفحة توارت هي الأخرى عن الأنظار، وعلمت الزوجة أن زوجها قد ارتدى ثياب الاعتقال السياسي لفترة لا يعلمها إلا الله. عندما أسفر الصبح وتنفس، أفاقت الزوجة على أمر مقلق محيّر، امرأة صغيرة ضعيفة مع ستة من الأولاد الصغار، لا تملك إلا الدعاء لخالق جبار، وعندما ألحّ الأطفال في طلب الطعام أخذت تبحث عن شيء بالمنزل تسدّ به رمقهم؛ فصدمت بحقيقة عدم وجود شيء إلا كيساً واحداً من الدقيق ولا مزيد، وشعرت بقلة الحيلة، ولكنها أخذت تتذكر زوجها واستعانته بالله الذي لم يضيعه أبداً؛ فأدركت أنها ليست بمفردها بل في معية إله قوي قادر. تحررت من ذكرياتها وصغيرها يسألها الطعام؛ فرددت قول رسول الله [: «... واستعن بالله ولا تعجز»، وبدأت بالفعل في عجن عجينها وطلبت من بعض أولادها أن يوفروا لها بعض القش والحطب لإشعال فرنها، نظرت إلى كمية الدقيق القليلة التي لن تكفيهم إلا يومهم بالكاد؛ فانسلت منها دمعة بغير إرادتها، وأخذت تنادي الله نداءً خفياً: «يا رب، دعاك زوجي يا قوي ولم تتخلَّ عنه، وكنا نرى قوتك متجسدة في كل شيء، وأنا أناديك يا قوي؛ فهل تتخلى عني وأنت القوي القادر وأنا الضعيفة المنكسرة؟»، ثم هاتفته من داخل أعماقها: «يا قوي، هل ستمدني بالقوة؛ إني لست كزوجي في صلاحه وعبادته، ولكنني أَمَة من إمائك توسلت إليك بكل جوارحي يا رب، إلى من تكلني إن لم تمدني بقوتك التي اعتدنا عليها»، وانبجست دموعها متدفقة تدفعها بيديها التي تبدو كماسحات السيارة في حركتها الدؤوب على وجنتيها. اعتدلت في جلستها وهي تقطع العجين على لوح أمامها وصيحات الصغار تملأ المكان، وقد حمل كل منهم بعضاً من القش وقطع الخشب وبعض النشارة، ووضعوا كل ذلك أمامها. بدأت في وضع كل ذلك في فم الفرن بشكل روتيني، وقد تمكنت منها مناجاتها التي لا يسمعها سواه سبحانه، ولكنها تشعر وكأن صوتها قد وصل إلى عنان السماء فواصلت: يا رب.. يا رب.. يا قوي.. يا قوي! أنا في محنة كبيرة، ماذا سأفعل؟ كن معي يا الله.. لا تتركني وحدي.. يا رب! ثم خرج صوتها بغتة وبفرحة شديدة عارمة: ما هذا؟ بسم الله.. ما هذا؟ ما شاء الله.. سبحان الله، فقد كان بين أصابعها عملة ورقية عالية القيمة تراها لأول مرة في حياتها، أتى الله بها مع الصغار ما بين القش والحطب لترى بعض القدرة والقوة حتى تهنأ وتستريح وتهدأ، لم تصدق عينيها وسجدت لله شكراً، وسألت أولادها: من أين حصلوا على ذلك القش وتلك الأخشاب؟ فعلمت أنها أتت من جهات شتى.. سبحان الله! إن قريتها صغيرة ولعل المال له صاحب فيها، وسرعان ما عرف الجميع بأمر المال الذي حازته، والعجيب أن أحداً من أهل القرية لم يفقده، ولهذا أصبح بعد فترة ملكاً خالصاً لها. ذهبت إلى السوق لتشتري بعض الخضراوات ثم تقوم ببيعها بعد ذلك، وأخذت تشتري وتبيع، وربحت تجارتها فاشترت محلاً لها، ثم بفضل الله محلات أخرى، وخرج زوجها سالماً ليعلم أن الله تعالى قد أخلفه في أهله بخير لم يكن ليرجوه أو يتخيله، وليتمتع مع أسرته بهذه الخيرات. وقد أعانها الرحمن على تربية أولادها الستة، وأصبح منزلها هو المنزل الوحيد في القرية الذي وصل فيه الأولاد إلى أعلى مراحل التعليم، بل إن استغاثتها بالقوي قد أوصلتها إلى معونة أحفادها الآن، وكل ذلك فيما استشعرناه من دعاء صادق لمضطر نادى فلم يخيب الله له الرجاء والنداء. ومن قصص واقعنا ما قصته لنا إحدى الداعيات عندما كانت في درس لها مع أخوات مكثت معهن عدة أشهر تعلم وتربي، وفي أحد دروسها سألت سؤالاً: ترى كم من أخت فيكن لا تستطيع القيام لصلاة الفجر في موعدها قبل شروق الشمس؟ وكانت النتيجة مذهلة؛ فقد رفع نصف العدد أيديهن، سبحان الله! حجج كلها تستمد ضعفها من: إني لا أستطيع، فزوجي يأتي متأخراً، والأخرى: إني أسهر مع الأولاد ولا أستطيع الاستيقاظ فجراً، والثالثة: إني لم أعتد أصلاً على صلاة الفجر منذ صغري، والرابعة: إني يصعب عليّ القيام لصلاة الفجر... إلخ. أخذت الداعية تحلل أقوالهن التي تستند جميعاً إلى «إني»؛ فهن عاجزات فاقدات للقدرة، ومعلوم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله سبحانه، فلماذا لا نبرأ من حولنا وقوتنا إلى حول الله وقوته؟! وذكرتهن بالحديث الشريف: «استعن بالله ولا تعجز»(رواه مسلم). أي إن الاستعانة بالله تتعارض مع العجز وعدم القدرة، وإن الأخت لو قالت: سأستعين بالله وأساله التوفيق للقيام في وقت صلاة الفجر سيتغير الأمر تماماً. طلبت منهن كتابة عبارة: «استعن بالله ولا تعجز» أمامهن لرؤيتها والاستعانة بقوة الله وحوله دوماً، في اللقاء التالي كن كلهن يصلين في الوقت بقوة الله سبحانه. إن سر قوة المؤمن تكمن في طاعة الله، فيحرص على ما ينفعه ويستعين في كل شيء بقوة المولى؛ فسيجد أن الأمر العسير قد أصبح يسيراً. فهذه امرأة تزوجت أصغر إخوة أربعة، كانوا جميعاً يقطنون في منزل واحد ومعهم أم الإخوة، وتُحدِّثنا الأخت: أنها بعد زواجها بفترة قصيرة مرضت الأم وأصيبت بشلل أفقدها القدرة على الحركة، وبدأت تظهر معادن المحيطين بها، فقد رفضت زوجات الإخوة الآخرين خدمتها بعلل أوهى من بيت العنكبوت، وكن يتركن الأم في حالة يندى لها جبين من عنده مروءة ونخوة، كان لدى الأخت طفلان بالإضافة إلى الزوج ومتطلبات المنزل، وكان عسيراً عليها أن تقوم بخدمة الأم بمفردها، ولكنها استعانت بقوة الله وسألته المعونة. كانت - بشكل يومي ومن الصباح الباكر - تقوم بمتطلبات العجوز من نظافة وحمام وتنظيم لبيتها، ثم تصعد إلى حيث مأواها فتفعل نفس الشيء مع أولادها، ومرت الأيام؛ فكانت العجوز عندما تراها تبشّ في وجهها وتبتسم لها وتشير بإصبعها إلى السماء تدعو لها، وكلما شعرت الزوجة بالفتور أو الملل تستعين بالقوي لتستمد منه القوة والمدد. مرت الأيام وماتت الأم وورث الأولاد - وما أدراك ما الميراث - فقد خُصصت الأرض الجيدة للثلاثة الكبار، أما أصغرهم فكان من نصيبه أرض بعيدة بور لا تصلح لشيء، ولكن الرضا كان نصيب الزوجين، فقد سألا الله البركة ولم يخاصما أو يقدما شكوى بحق الإخوة الكبار، وكانت هي دوماً تشجع زوجها على عدم التذمر وتقول له: «بقوة الله الذي أعطاهم يعطينا؛ فهو مالك كل شيء وما نحن إلا تاركون كل شيء وراءنا»، فيهدأ الزوج ويصبر. باع الكبار أراضيهم وهو لم يستطع البيع حتى ينفذ أمر الله وقدره، فبعد فترة من الزمن صدر قرار بتخصيص المنطقة الزراعية التي تقع فيها أرضه كأرض بناء وليس زراعة، فتضاعف سعر أرضه عشرات المرات؛ فباعها حينها واشترى له منزلاً جميلاً وماشية وأرضاً زراعية جديدة، وأصبح هو وأولاده بعد ذلك يذهبون إلى الحرم طوال شهر رمضان في كل عام، وكانت الزوجة دوماً تقول: «الحمد لله، كانت «حماتي» تدعو لي وقد حقق الله لها الدعاء». وهناك في الحرم التقينا معها وسمعنا منها قصتها، بالفعل وليس فقط بالقول: {...أّنَّ القٍوَّةّ لٌلَّهٌ جّمٌيعْا}(البقر:165)، فمن أراد المدد والاستزادة من هذه القوة؛ فليُهرع إلى الله ويفرّ إليه، فعنده الأمان والقوة والقدرة على كل شيء.

 

 

 

 

 

مجلة المجتمع

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص