خطبة الجمعه بمسجد الخير (تريم) 18/1/1432هـ - 24/12/2010م الوسطية

الشيخ م عمر سالم باعديل / خطيب وامام جامع الخير 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله،مَنَّ علينافجعلنا أمة وسطاً، أحمده سبحانه تعالى أن يقول غلطاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, تقدس أن يقضي لغطا،وأشهدأن نبينا محمداًعبدالله ورسوله, المُنزَّلُ عليه قوله سبحانه:وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا]صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وصحبه الذين سلكوا منهجاً وسطاً، فلا تجاوز ولا شططا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وحث في نصرة الدين الخُطى.أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتحلوا بالمنهج الوسط كما شرع الله، واستقيموا على الوسطية كما سنَّ رسول الله، وسار على ذلك سلفكم الصالح عليهم رضوان الله.أيها الأخوة الكرام من يمعِّنُ النظر في جوانب عظمة هذا الدين الذي أكرمنا الله به يجد أن هناك ميزةً ظاهرةً كانت سبباً في منحِ هذه الأمةِ مؤهلاتُ القيادةِ والريادةِ للبشرية، ومقوماتُ الشهادةِ على الناس كافة. لعلكم يا رعاكم الله أدركتم ما هذه الميزةُ الحضارية، إنها سمة الاعتدال والوسطية يقول الحق تبارك وتعالى: وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا]ولما كان من الضرورة بمكان تحديد هذا المصطلح على ضوء المصادر الشرعية منعاً للخلط في المفاهيم واللبس في التصور، وحتى نقف على حقيقة الوسطية ومجالاتها لنُظهر الصورة المشرقة لسماحة هذا الدين، في الوقت الذي اشتدت فيه الحملة على الإسلام، ورُمي أتباعه بمصطلحاتٍ موهومةٍ وألفاظٍ مغرضةٍ لتشويه صورتِه والتنفيرِ منه، تصيُّداً لأخطاء بعض المنتسبين إليه، في زمن انقلبت فيه الحقائق،وبُلي بعض أهل الإسلام بمجانبة هذا المنهج الوضاء، فعاشَوا حياةَ الإفراط أو التفريط،وسلكوامسالك الغلوأوالجفاء.معاشرالمسلمين، ولقد عُني علماء الإسلام ببيان حقيقة الوسطية الواردة في آية البقرة وهي لا تخرج عن معنيين مشهورين يؤديان معنى واحداً.أولهما: وَسَطًا أي: خيارا عدولاً، ومنه قوله تعالى: قَالَ [أَوْسَطُهُمْ] وهو قول جمهور المفسرين.والثاني: أنهم وسطٌ بين طرفي الإفراط والتفريط.والوسطية يا عباد الله منهج سلف هذه الأمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فإن الفرقة الناجية أهلَ السنة والجماعة يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فِرَقِ الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم" ويقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله:"ما من أمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى غلو، وإما إلى تقصير، والحق وسط بين ذلك".أيها المؤمنون وللوسطية معاني أخرى تُميزُ منهجَ أمةَ الإسلام وتجعلَها أهلا للسيادة والخلود.أولى معاني هذه الوسطية العدل:العدل الذي هو ضرورة لقبول شهادة الشاهد، فما لم يكن عدلا، فإن شهادته مرفوضة مردودة.وتفسير الوسط في الآية بالعدل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد روي الإمام أحمد والبخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الوسط هنا بالعدل، وقال المفسرون في قوله تعالى:(قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون)أي: أعدلهم.فالوسط يعني العدل،وبعبارة أخرى: يعني التعادل والتوازن،بلا جنوح إلى الغلو ولا إلى التقصير.ثانياًالوسطية تَعني الاستقامة:استقامة المنهج، والبعدِ عن الميل والانحراف.ومن هنا علَّم الإسلامُ المسلم أن يسأَلَ اللهَ الهدايةَ للصراط المستقيم(إهدنا الصراط المستقيم)ثالثاًالوسطية دليل الخيرية: ولهذا قال العرب في حكمهم(خير الأمور الوسط)ومن هنا قال ابن كثير في قوله تعالى:(أُمَّةً وَسَطاً)الوسط ههنا:الخيارُ والأجود.رابعاًالوسطية تُمثِّلُ منطقةُ الأمان والبعد عن الخطر؛ فالأطراف عادةً تتعرض للخطر والفساد أكثر من غيرها، بخلاف الوسط، فهو محمي ومحروس بما حوله، وكذلك شأن النظام الوسط، والمنهج الوسط، والأمة الوسط.خامساًالوسطية دليل القوة فالوسط هو مركز القوة، ألا ترى الشباب الذي يمثل مرحلة القوة وسطا بين ضعفين:ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة؟! والشمس في وسط النهار أقوى منها في أول النهار وآخره؟!سادساًالوسطية مركز الوحدة ونقطة التلاقي ... فعلى حين تتعدد الأطراف تعددا قد لا يتناهى، يبقى الوسط واحدا، يمكن لكل الأطراف أن تلتقي عنده؛ فهو المنتصف، وهو المركز، وهذا واضح في الجانب المادي والجانب الفكري والمعنوي على سواء.لهذه المزايا والفوائد التي ذكرناها للوسطية: حرص الإسلام على أن تكون إحدى خصائصه العامة، وأن تتجلى في كل مقوماته بوضوح.عباد الله، إن وسطية هذه الأمة لا تكون ولا يتّصف بها إلا من كان على نهج النبي محمد  وأصحابه، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في العقيدة الواسطية:"ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول  باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله  حيث قال:(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)"واعلموا رحمكم الله أن من وسطية الإسلام محاربة الغلو والتشدد في الدين، لأنه سبب لهلاك الأمم من قبلنا،قال صلى الله عليه وسلم محذرا أمته:(وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ  قَالَ:(إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) رواه البخاري. ومما يضاد الوسطية في الإسلام الغلو في الأشخاص، سواء كانوا أنبياء أو أولياء صالحين، فكل هؤلاء بشر لا يملكون نفعا ولا ضرا، فمن الغلو المفضي إلى الشرك التوجه بالدعاء والسؤال إلى النبي  وهو في قبره، أو التوجه بالعبادة والدعاء إلى من يظن أنه من أولياء الله الصالحين،فيتمسح بالقبر ويحيون عنده الموالد البدعية المحرمة، ويسألونهم قضاء الحوائج، كما هو مشاهد وللأسف في بقاع من بلاد المسلمين. ثم تأمل معي أخي المسلم نهي النبي  عن الغلو فيه فقال:(لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ).إخوة العقيدة، وتتجلّى وسطية الإسلام في مجالاته كلها، ففي مجال الاعتقاد جاء الإسلام وسطاً بين الملل، فلا إلحاد ولا وثنية، بل عبودية خالصة لله في الربوبية والألوهية، و الأسماء والصفات وسط بين أهل التشبيه والتمثيل والتحريف والتعطيل.وفي القضاء والقدر وسط بين نفاة القدر والمغالين فيه القائلين: إن العبد مجبور على فعله. وفي مسألة الإيمان وسطٌ بين من جفوا فأخروا الأعمال وأرجؤوها عن مسمّى الإيمان وبين من غلوا فأخرجوا من دائرة الإيمان من عمل بعض المعاصي. ويُلحَق بذلك الحكم بالتكفير، فأهل الحق لا يُكفِّرون بالذنوب ما لم تُستحلّ، كما لم يجعلوا المذنب كامل الإيمان، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.وفي باب النبوة والولاية والصحابة توسطٌ فلا غلو فيهم غلوَّ من اتخذهم أربابا من دون الله، ولا جفاء كما جفت اليهود ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون،وجفا الشيعة بعض الصحابة وأهل السنة يتوسطون، فيؤمنون بجميع الكتب والرسل ويحبون أولياءه، ويترضون عن جميع صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم.إخوة الإيمان، وثمَّت مجال آخر تتألّق فيه وسطية هذه الأمة، في مجال العبادة والمراعاة بين متطلبات الروح والجسد، فلا رهبانية ولا مادية، بل تناسق واعتدال، على ضوء قول الحق تبارك وتعالى: وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا]وقد ردّ رسول الله  على عثمان بن مظعون التبتُّل وأنكر على من حرم نفسه طيبات الدنيا قائلاً:(أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) أمةالإسلام،ومن المجالات المهمة التي تبرز فيها وسطية هذه الأمة ما يتعلّق بالتشريع والتحليل والتحريم,فتوسطت الشريعة في هذه المجالات بين اليهود الذين حُرِّم عليهم كثير من الطيبات وبين قوم استحلوا حتى المحرمات. والحكم بالتحليل والتحريم حق الله سبحانه: إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ]معشر الأحبة، وفي مجال الأخلاق والسلوك مظهرٌ من مظاهر الوسطية في هذا الدين، بين الجنوح إلى المثالية والواقعية، وسطيةٌ تهذّب الضمائر، وتوازن بين متطلبات الفرد والمجتمع، وإعمال العقل والعاطفة، في تربية متوازنة،على ضوء المنهج النبوي(إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) أخرجه أحمد ومسلم0وفي النظام الاقتصادي وازن الإسلام بين حرية الفرد والمجتمع، فالإسلام وسطاً بين رأسمالية ترعى الفرد على حساب الجماعة، واشتراكية تلغي ملكية الفردبحجة مصلحة الجماعة.وفي مجال الإنفاق تتحقق الوسطية في قول الحق تبارك وتعالى: وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً] وهكذا في مجال الحرية بين الفرد والمجتمع، حرية الرأي والفكر والسلوك وغيرها، جعل الإسلام ضوابط شرعية لهذه الحرية بحيث تكون ضمن دائرة المشروع ومجانبة المحذور الممنوع.أمةَ الوسطية، وفي النظام السياسي جاء الإسلام وسطاً بين النظم، مبيِّناً حقوق الراعي والرعية، حاضاً على العدل والقسط، مُعْلِياً قيم الحق والأمن والسلام والسمع والطاعة بالمعروف، مترسماًالمنهج الشوري المتكامل،محذراً الدكتاتورية في الحكم والاستبداد في الرأي، وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ]ومما يجلي وسطية الإسلام جمعُه بين الأصالة والمعاصرة، تميّزُه بالثبات والمرونة، فهو بثوابته وأصوله يستعصي على التميع والذوبان، وبمرونته يستطيع التكيف ويواجه التطور بلا جمود ولاتحجر[وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ]بارك
الخطبة الثانية :- أمة الإسلام:إن (منهج الوسطية) هو حبل النجاة، وسفينة الإنقاذ اليوم، لأمتنا العربية والإسلامية من التيه والضياع -بل الهلاك والدمار- الذي يُهدد حاضرها ومستقبلها.فمعظم قضاياها الفكرية والعملية الكبرى تضيع فيها الحقيقة بين طرفين متباعدين: طرف الغلو أو التطرف أو التشدد أو الإفراط، سمه ما تسميه، المهم أنه هو الطرف الذي يُرهق الأمة من أمرها عسرا، ويُوقعها في الحرج، ويُعسِّر عليها ما يسَّر الله، ويُعقِّد ما سهَّله الدين، ويُضيِّق ما وسَّعه الشرع، لا يسمح لها برخصته ، ولا يتيح لها ما توجبه الضرورة، ولا يعرف الظروف المخففة، ولا يؤمن بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال. ينكفئ على الماضي، ولا يعايش الحاضر، ولا يستشرف المستقبل0والطرف الآخر: طرف التسيب والتفريط والتقصير والإضاعة. فلا يكاد يتشبَّث بعقيدة، أو يتمسَّك بفريضة، أو يحرِّم حراما، الدين عجينة لينة في يديه، يُشكِّله كيف يشاء، ومتى شاء، ليس فيه ثوابت، ما كان ثابتا يمكن أن يُنفى، وما كان منفيا يمكن أن يثبت. ما كان حقا يمكن أن يصبح باطلا، وما كان باطلا يمكن أن يصبح حقا.ألا ما أحوج الأمة إلى سلوك منهج الوسطية في علاج كثير من الانحرافات في شتى المجالات، وهذا كله يلقي على كواهل علماء الشريعة ودعاة الإصلاح في الأمة المسؤولية الكبرى أمام الله، ثم أمام الأمة والأجيال التي تنشد سبيل الخلاص من إفرازات تجاوز منهج الوسطية المتألّق، وكان الله في عون العاملين المخلصين لدينهم وأمتهم ومجتمعاتهم.ألاوصلوا

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص