مدرسة الثورة

الحمد لله الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ .

والصلاة والسلام على نبينا الأعظم محمد وعلى آله وصحابته أولي العزائم الهمم .

أما بعد عباد الله :

أوصيكم نفسي المقصرة بتقوى الله فإنها خير ما يتواصى به أهل الإيمان واليقين جعلنا الله وإياكم منهم آمين قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ..).

أيها المؤمنون عباد الله :

           

إن العاقل الحكيم الذي يكون له في كل نظرة عبرة وفي كل موقف عظة وهو لا يزال يتعلم ويتعلم في مدرسة الحياة بتقلباتها وتجاربها المتتالية والمتوالية وإذا كان كل حدث يمر بالمرء يعد فرصة ليتعلم منه شيئا جديداً فإن أحداث الثورات التي تمر بها أمتنا تعد مدرسة كبرى تتعلم فيها الأجيال الشيء الكثير من الدروس والقيم وتعيش هذه الدروس والمفاهيم واقعاً حياً مشاهداً .. فما الذي تعلمناه وتعلمته الأمة جميعاً في مدرسة الثورة بأحداثها ومراحلها المتعاقبة وظروفها ؟ وما هي الثمرات التي تجنيها الأمة رقيا في الوعي ونضجاً في الفكر وسعة في الإدراك ؟ لتستعين بكل ذلك في ما يستجد لها من أحداث في مقبل أيامها؟

عباد الله :

            إننا نريد أن نستلهم في هذا المقام أبرز المعاني والدروس والمفاهيم والقيم من أحداث ومجريات هذه الثورة المباركة والثورات التي سبقتها ولحقتها :

1- إن أول ما تتعلمه الأمة في مدرسة الثورة بل ومارسته واقعاً أن صناعة الحياة وبناءها ورفع بنيان مجدها وتأسيس كيانها ورسم سياستها والحكم في قضاياها الكبرى والمصيرية والتحكم والتصرف في مقدراتها وإمكاناتها كل ذلك ليس حكراً على فرد بعينه يوصف بأنه وحيد دهره وفريد عصره ويعلن بأنه ليس للوطن وللشعب والأمة قائد غيره دون سواه ، إذا كنا نسمع من بعض ضعفاء النفوس وعباد الحطام إذا كنا نسمع قولهم : مالنا إلاّ علي فإننا نقولها وبملء أفواهنا: (مالنا إلا الله العلي .. مالنا إلا ربنا مالنا إلا الله الولي) ..  وإذا كان هذا ليس حقا لفرد بعينه فإنه كذلك ليس ملكاً لأسرة من الأسر تنسب إليها كل صفات وخصال القداسة والتميز وتوصف بخصال وصفات لا يشاركها فيه أحد ..

 

لقد تعلمنا أن كل تلك الوظائف من حقوق بل من واجبات الأمة كلها بجميع أبنائها وكل مكوناتها .. الأمة أجمع مسئولة عن صناعة حاضرها ومستقبلها .. الأمة هي المسئولة عن بناء مجدها وحضارتها وهي المسئولة عن قراراتها المصيرية وقضاياها الكبرى .. ولقد رأينا هذه الثورة تعيد الأمر إلى نصابه رأينا الأمة كلها تستشعر واجباتها في التغيير والتأثير وصناعة الواقع وتوجيه مساره .. لقد جعلت هذه الثورة من كل فرد من هذه الأمة صاحب قضية يعيش من أجلها وصاحب مبدأ يستشعر واجب نصرته والقيام على حراسته بعد أن مرت عقود وللأسف والأمة مغيبة تماما إلاّ من رحم الله عن القيام بهذه الواجبات وممارسة هذه الحقوق ، وهذا الدرس والمعنى الذي تعلمته الأمة واقعا حياً في هذه المرحلة ليس بدعاً من القول وإنما هو الأصل الذي يجب أن ترجع إليه الأمة كما ينطق بذلك كتاب ربها وسنة نبيها .. يريد الإسلام من كل أتباعه أن يحيوا حياة المبادئ والانتصار لقيم الحق والعدل والمشاركة الفاعلة في التأسيس والبناء للمجد والحضارة ، يقول الله تعالى مخاطبا الأمة كل الأمة في آيات كثر تؤكد هذا المعنى وتقرره : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .

 

إنها عادة القرآن في مواضع كثيرة جداً أن يخاطب الأمة بخطاب الجماعة مكلفاً إياها بواجب القيام بالحق والعدل والدعوة إليهما والذود عن حياضهما .

2- لقد علمتنا الثورة أن الأمة تمتلك طاقات عظيمة وإمكانات مخزونة لم يتم الاستفادة واستثمارها بعد وإن مثل هذه الطاقات والإمكانات والعزائم لو وجهت توجيها صحيحا نحو تحقيق الأهداف ونيل الغايات لآتت ثمارها .. لقد قدم شباب الأمة ورجالها ونسائها بل وأطفالها صوراً مشرقة من التصميم والعزم والصبر والثقة في نصر الله للحق وأهله .. لقد أثلجت صدورنا جميعاً ونحن نرى أفواجاً وأفواجاً من شباب الأمة وهم يتحدون الباطل وغطرسته والطاغية وبلطجته ويواجهون رصاص الغدر والخيانة بصدور عارية ينشدون لوطنهم وأمتهم حياة العزة والكرامة .. لله دركم ثم لله دركم ثوارنا الأحرار لقد علمتم الرجال معنى الرجولة ولقنتم الشجعان مفهوم البطولة وأعطيتم للعالم أجمع درس التضحية من أجل المبدأ فروعه وأصوله .. لله دركم وأنتم تعلنونها صباح مساء رفضا جليا واضحاً للاستبداد والظلم والعنجهية والاستكبار.

3- أما الدرس الثالث وتالله ما أكثر الدروس .. لقد نبهتنا الثورة ولفتت أنظارنا إلى قدر الاستغفال والاستهتار والاستخفاف الذي كان يمارس في حق الأمة ومقدراتها ومن قبل من ؟ من قبل من هو الأحرى بحمايتها وحماية مقدراتها وثرواتها .. لقد علمتنا هذه الثورة أن من بين من ينتسب لهذه الأمة من يتآمرعلى مصائرها وهو الذي بيده زمام أمورها ومن بينهم من ينتهب حقوقها وثرواتها ويبددها ويتلاعب بها وهو المأمون على هذه المقدرات والثروات .. لقد أظهرت لنا الثورة الوجه القبيح لأنظمة تنفذ حرفياً أجندة أعداء الأمة ومخططاتهم ولو كان ذلك على حساب مصالح الوطن والأمة :

تالله ما عبث اليهود بأرضنا  عبثا كأذناب لهم ودعاة

أبناء جلدتنا ومن أجوائنا                 يتنفسون وفي ربانا باتوا

وبخير أمتنا تضج بطونهم     ولهم كذاك الجاه والثروات

لكنهم من حب أمريكا سقوا  وبخمرها سكروا هناك فماتوا

ماتت ضمائرهم فلم يرعوا لنا

حقا فهم فينا أذى وشمات

أسماؤهم من معدن العرب الألى    لكنهم في الدين حاخامات

4- رابعاً : علمتنا هذه الثورة ضرورة إعادة النظر والمراجعة المستمرة للآليات والسبل للنهوض من وهدة الذلة المفروضة على هذه الأمة وضرورة التفكير الجاد في البدائل والخيارات الممكنة للوصول إلى الغايات .. إننا لا نريد أن نهدر كل الجهود المبذولة من رجالات الأمة ودعاتها وعلمائها وسياسييها ومفكريها في العقود التي مرت بالأمة ، بل دعوني أقول بأن الثورة جاءت نتاج تراكمات من تلكم الجهود السابقة المباركة ولكن الحقيقة تقول بأن العقل الجمعي للأمة قد يصاب بشيء من التعتيم حتى تغيب عنه الكثير من الطرق والسبل والخيارات التي يجب العمل بها وتفعيلها لنيل الحقوق والحريات ..

أيها الثوار الأحرار :

            لقد أثبتم بسلمية ثورتكم أن بإمكانكم أن تحققوا الشيء الكثير لأمتكم .. إن الثورة السلمية قد زلزلت عروشا ما كان لها أن تزلزل ودكت معاقل ما كان لها أن تدك .. إن ثورتكم السلمية هي الستار لقدرة الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

5- لقد علمتنا الثورة أن نيل الحقوق ونصرة المبادئ والقضايا الكبرى وبناء الأمجاد أن كل ذلك لا بد له من تضحية ولا بد له من ثمن .

وما نيل الأماني بالتمني                   ولكن تؤخذ الدنيا

إن الباطل وأنصاره والطغيان وأذنابه والاستبداد وحشوده وجنوده إن كل هؤلاء يبذلون ويضحون ويستميتون في سبيل دنيا زائلة وباطل مزوق ومجد مصطنع إذا كان هذا حال هؤلاء فقد أثبت ثوارنا الأحرار في جميع الساحات كل المحافظات أنهم أهل لنصرة الوطن والذود عن حياضه وحراسة مقدراته .. وقدموا على ذلك البرهان الأكيد والشهيد تلو الشهيد وما جمعة الكرامة عنا ببعيد وما تضحيات تعز وأبين وعدن إلا دليلا جليا على ألا مساومة على أهداف الثورة ومبادئها.          

           

وإننا لنعلنها مدوية ومن على هذا المنبر ومن ساحة الحرية والثورة والتغيير بأن من يظن بأن الثوار سوف يتهاونون في تحقيق أهداف ثورتهم أو أنهم سيسامحون في دماء شهدائهم وجرحاهم فإنما هو واهم حالم .. أفبعد هذه التضحيات والجهود .. أفبعد هذا الصبر والمرابطة أبعد هذا الصمود أبعد هذا كله يظن الأزلام وفلول النظام وعباد الحطام أيظنون أن نتخلى عن ثورتنا وأهدافها؟ لا والله ثم لا والله ..

عباد الله:

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله ....  

6 – علمتنا الثورة وأكدت في نفوسنا ونمت في قلوبنا أن من كان مع الله فالله معه وأن ليس أمام دعاة الحق وأنصاره إلا بذل الجهد والسبب والاستعانة بالله أولاً وآخراً والتوكل عليه في كل نازلة تنزل ..

 

أيها الثوار :

إن ثورتكم مرسومة خطواتها معلومة مآلاتها .. مرسومة ومعلومة ومقدرة من لدن قادر مقتدر رب عظيم جبار .. إنه الله الحق العدل الذي ينهى ويحرم الظلم والبغي والباطل .. قد علم ربنا و مولانا بأننا ما خرجنا طلبا لمغنم أو عرض زائل .. قد علم مولانا بأننا ما ثرنا بغيا وعدوانا وبطراً وأشراً .. قد علم مولانا بأننا ما خرجنا إلا ونحن ننشد العدل الذي تسمى به وأمر به .. ما خرجنا إلا طلبا للحرية التي جاء نبيه ودينه داعيا إليها ومقرراً (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات) (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً) ..

 

أيها الثوار ..

أيها المؤمنون بسلامة نهجكم وعدالة قضيتكم وصوابية ثورتكم .. أيها الأخيار استعينوا بإلهكم وخالقكم فوالله إن له لأخذاً شديداً بالظالمين وإن له انتقاما قاسيا من الطغاة المتغطرسين .. واصلوا ثورتكم السلمية وألحوا على ربكم ومعبودكم بالدعاء والاستنصار فإنه مقلب الليل والنهار وخالق الأسماع والأبصار وبيده تصاريف الأمور والأقدار .

 

أيها الثوار عباد الله :

إنها الدعوات الصادقة التي ترتفع فتخترق عنان السماء فتلاقى بالإجابة من الله .. إنه أنين الموجوعين والجرحى .. إنها دماء الشهداء الطاهرة تتحول لعنة أبدية تحل بالظلمة وأزلامهم وأذنابهم .

           

أوما علمتم عباد الله كيف كان إلحاح الحبيب على حبيبه يوم طرده أهل الطائف .. أوما سمعتم لذيذ العتاب والمناجاة بين الحبيبين  (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس...أنت أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي... إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي..!! أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل علي غضبك ، أو أن ينزل بي سخطك. لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك...).

 

أيها السادرون في غيهم .. أيها الظالمون لشعبهم .. أيها القاتلون للأحرار والمعتدون على الثوار .. نحذركم من سهام الدعوات لرب الأرض والسماوات .. أيها الطاغية المستبد .. أيها السافك للدماء .. أيها القاتل للأبرياء ..

هذي هي الدعوات تخترق المدى        فيكون نصر الله بعد مداها

هذي  سهام الليل صوبها إليك           الصالحون فأخلصوا بدعاها

دعوات شعب قد قتلت وأمة              ظلما وبغيا قد سفكت دماها

دعوات مظلوم تحدر دمعه                لما أطال على الإله شكاها

دعوات ثكلى للإله توجذذهت             سحراً فرددت السماء صداها

دعوات أيتام قتلت أباهم                    وعتاب لما أن طعنت أباها

عبرات أرملة غدرت ببعلها               وعويل أخت قد أخذت أخاها

           

فألحوا معاشر الثوار الأخيار الأطهار ولا نزكيكم على العزيز القهار .. ألحوا عليه بالليل والنهار والعلن والإسرار .

           

وصلوا وسلموا على من أمركم ربك بالصلاة والسلام عليه فقال : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فاللهم على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين وارض الله عن ساداتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . 

 

عباد الله :

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ...

 

الدكتور / سعيد عمر بن دحباج

في خطبة الجمعة بساحة التغيير بسيئون

في جمعة الارادة الثورية 24 يونيو 2011م

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص