( النّحالة ) .. حِرفة حضرمية .. وارتقاء من المحليّة إلى الشهرة العالمية..تقرير .
03/11/2023 07:44:38
حضرموت اليوم // تقرير " احمد باحمادي ::

 

في البدء :

ما أن يهلّ موسم تزهير أشجار السدر ( العلب ) في بداية شهر أكتوبر إلى شهر نوفمبر ( من بداية نجم الدلو إلى نجم البطين ) وهو ما يواكب ويوافق الوقت الذي نحن فيه هذه الأيام إلا ونرى مربي النحل لا يفتأون ينقلون مناحلهم إلى أماكن الرعي الجديدة، مشمرين عن سواعد الجد والاجتهاد، لا يهدأون في عملهم المضني حتى يروا نتائج تعبهم شهداً مصفّى يسر الناظرين. حول تربية النحل وما يحتويه هذا المجال من صعوبات وتحديات ومكاسب وإيجابيات، نسلط الضوء في هذا التقرير على هذه المهنة الحضرمية التاريخية التي امتازت بها حضرموت الأرض والإنسان قديماً وحديثاً.

● تربية النحل .. لمحة تاريخية :

يقول الدكتور محمد سعيد خنبش في كتابه الجميل ( تربية النحل في حضرموت ) وللعلم فإن د. خنبش هو أستاذ علم النحل بقسم علوم الحياة بكلية العلوم ورئيس جامعة حضرموت حيث يقول : تشير المصادر التاريخية إلى أهمية تربية النحل وإنتاج العسل خلال الحِقب التاريخية المختلفة. وقد ارتبط إنتاج العسل وتربية النحل بالحياة الاجتماعية والاقتصادية في حضرموت منذ العصور الماضية حتى الوقت الراهن، واكتسبت حضرموت صيتًا ذائعاً في هذا المجال. وتشير البيانات إلى أن تربية النحل في محافظة حضرموت في تطور مطّرد، وأن إنتاج العسل يتزايد عاًما بعد عام، كما ازدادت صادارت العسل في السنوات الماضية.

وبالرجوع إلى المصادر التاريخية فإن الحفريات دلت على أن ظهور نحل العسل كان قبل وجود الإنسان على سطح الأرض. وقد بدأ النحل الحياة في الجبال والغابات، إذ بنى مساكنه في تجاويف الجبال وجذوع الأشجار. وقد استرعى نحل العسل بتجمعاته الهائلة انتباه الإنسان الأول حينما كان يبحث عن غذائه في الجبال والغابات، فعرف عسل النحل في العصور القديمة، ويؤكد ذلك رسومات ونقوش وجدت على بعض الصخور في إسبانيا يرجع تاريخها إلى ( سبعة آلاف سنة ) قبل الميلاد، توضح كيفية حصول الإنسان على نحل العسل، كما دلت الآثار المصرية على وجود نقوش تعود إلى حوالي ( أربعة آلاف سنة ) قبل الميلاد، تدل على أن قدماء المصريين كانوا على معرفة تامة بنحل العسل واستغلاله، إلى جانب تقديسهم لهذه الحشرة، وتقديم العسل قرباناً للآلهة.

● تربية النحل حرفة حضرمية قديمة :

إن تربية النحل وانتاج العسل من الحِرَف القديمة جداً في حضرموت، ويعود تاريخ النحالة في حضرموت إلى ( القرن العاشر ) قبل الميلاد، وقد ارتبط تاريخياً بازديار الحياة الاقتصادية في دولة حضرموت في ذلك الوقت، وعني الحضارمة بتربية النحل على مدى القرون الماضية حتى وقتنا الراهن.

ويتمتع العسل الحضرمي ـ ولا سيما عسل العلب (السدر) المنتج في وادي دوعن ـ بمكانة مرموقة وشهرة تجارية رفيعة، إذ يعد أغلى أنواع العسل في العالم قاطبة؛ لما يمتاز به من صفات خاصة مرغوبة، لذلك يتنافس النحالون على إرضاء رغبات المستهلك داخل اليمن وخارجه في إنتاج أنواع العسل التي يُقبل عليها.

● العسل الحضرمي .. رافداً للاقتصاد الوطني :

من خلال تصفّح الإحصائيات الخاصة بالتجارة الخارجية للسنوات الماضية يتبين الأثر الكبير للعسل المنتج في حضرموت في رفد الاقتصاد الوطني بالعملة الأجنبية ( الجهاز المركزي للإحصاء 2005 م )، كما تشير البيانات أن لتربية النحل في محافظة حضرموت أثراً كبيراً في الاقتصاد، فقد تضاعف عدد طوائف النحل بمقدار ( 9,4 ) مقارنة بالثمانينات، إذ وصل عددها إلى أكثر من ( 341 ) ألف في عام 2018م، أما إجمالي إنتاج العسل فقد وصل إلى أكثر من ( 1600 ) طن، أي أنه تضاعف بمقدار ( 8,5 ) مرة مقارنة بالعام 1980م. وفيما يخص كمية العسل المصدرة فقد تضاعفت حوالي ثلاث مرات خلال المدة الماضية، في حين ارتفع عدد النحالين من ( 665 ) نحالاً في العام 1980م إلى حوالي ( 8400 ) نحال في العام 2018م.

ماسبق ذكره يشير إلى أن تربية النحل في حضرموت باتت في تقدم وتطور مستمر، وأن إسهام نحل العسل في الاقتصاد الوطني يزداد عاماً بعد عام، وذلك من خلال توافر العملات الأجنبية المتحصل عليها من خلال كميات العسل المصدّر، والأثر الكبير في زيادة الإنتاجية بما يوفر فرص جديدة للعمل لأعداد كبيرة من السكان.

● النحالة .. أنواع وطرائق :

بالنظر إلى مراحل تطور حرفة النحالة في حضرموت نجد أنها مرّت بالعديد من المحطات التاريخية ويمكن لنا إجمالها في ثلاث مراحل هي : النحالة البدائية والتقليدية والحديثة، حيث سنعرّف بكل واحدة منها بنبذة مقتضبة.

● النحالة البدائية :

يعيش نحل العسل برياً في الكهوف والجبال والأشجار المجوفة وبعض المناطق المهجورة منذ أن أوجدها الله سبحانه وتعالى في الأرض. وقد كانت طوائف النحل تبني مساكنها من الشمع، وتتغذى على رحيق أزهار النباتات المحيطة بالمنطقة. ويسعى النحال الحضرمي دائما للحصول على العسل، إذ يجوب الأرض بحثاً عن طوائف النحل، وبعد اكتشاف سكن النحل يقوم النحال بالتحضير لأخذ العسل ببعض الطرق البدائية ولعل فيها ما فيها من المخاطر والخسائر والإضرار بالطبيعة وبالنحل.

من تلك الطرق البدائية حرق مسكن النحل، مما يؤدي إلى إبادة أعداد كبيرة من طوائف النحل، بالإضافة إلى حرق عدد من الأشجار والأعشاب، أو من خلال التدخين الشديد على المسكن لطرد النحل، أو غلق مدخل المسكن بعجينة من الطين، وذلك عند الغروب بعد عودة النحل إلى مسكنه، أو أن يقوم النحال بوضع إناء به ماء أعلى المدخل، بحيث يقطر الماء قطرات متباعدة على المدخل. ويتم فتح المدخل بعد يوم أو يومين، ويؤدي ذلك إلى اندفاع طائفة النحل للخارج مهاجرة تاركة مسكنها.

و من المعلوم أن هذه الطرق ترمي إلى الحصول على العسل فقط، ولا تهتم بالاحتفاظ أو الإبقاء على طوائف النحل، وقد تطورت نسبياً بهدف الحفاظ على طوائف النحل، إذ يشعل النحال النار على حزمة من الأعشاب لوقايته من مهاجمة النحل، ويقطع الأقراص المحتوية على العسل بسكين، ويبيع العسل على صورة أقراص شمعية (عسل بشهده). وهذه الصورة البدائية من النحالة لم تعد موجودة في حضرموت في الوقت الحاضر.

● النحالة التقليدية :

عندما عرف الإنسان نحل العسل، وفكر في استغلاله، بدأ في عمل مساكن له شبيهة بمساكنه الطبيعية، ثم تدرجت بالتحسين لتناسب مصلحته في استخراج العسل والمحافظة على الطوائف. وقد بدأت صناعة الخلايا من القش، ومن القصب، ومن جذوع الأشجار بعد تجويفها، ثم من الطين. وكانت غاية في البساطة، ثم تدرجت في التطوير. وبشكل عام كان وما زال تصميم وصناعة الخلايا يعتمدان على المواد المتوافرة والمهارات اليدوية التي في متناول الإنسان والظروف البيئية السائدة. ومن أبرز سمات النحالة التقليدية اعتمادها على الترحال، إذ يتنقل النحال بطوائفه من واد إلى آخر، ومن منطقة لأخرى؛ سعياً وراء مصدر الغذاء.

● النحالة الحديثة .. خبرة تراكمية مع الزمن :

ما زالت ملامح النحالة التقليدية القديمة موجودة، وما زالت المعرفة بقواعد النحالة الحديثة وأسسها ضعيفة في مناطق قليلة من حضرموت. ولكن النحال الحضرمي يمتلك مهارات فردية اكتسبها عبر العصور. ولقد عمل النحال على تطوير النحالة باقتنائه لطوائف النحل، كما سعى إلى التعرف إلى طبائع النحل ومتطلبات النحالة وتوفير حاجاتها، حتى أصبحت النحالة الحضرمية ذات صفات مميزة. إن محاولة تحديث النحالة في حضرموت بدأت في أوائل السبعينيات، عندما أدخلَت خلايا ( لانجستروث )، إضافة إلى متطلبات النحالة الحديثة إلى بعض مناطق حضرموت، إلا أن التجارب الأولى لم يحالفها النجاح، وظلت في حدود ضيقة لعدة أسباب كان من أهمها غياب الكادر المؤهل.

● النحالين .. والسعي لصناعة كيان موحد :

من خلال التواصل مع بعض النحالين خلال إعداد هذا التقرير وجدت ميل الكثير منهم إلى التآلف والتوحد من خلال الحرص على تأسيس مرجعية علمية وتنظيمية لهم وتنسيق جهود النحالين لتطوير أساليب إنتاج العسل وتنمية ريادة الأعمال لديهم، وحل كلما ينتج من خلاف بين النحالين من حيث التعدّي بسرقة النحل أو إيقاع أية أضرار للنحال من قبل الآخرين وغيرها، كما أن وعيهم يتنامى يوماً عن يوم من خلال سعيهم الدؤوب لتأسيس جمعيات تنموية للنحالين في عدد من مناطق المحافظة، والاجتهاد في إعداد قوانين خاصة بالنحالين تعمل على حل إشكالياتهم، كما أن العمل والإعداد على قدم وساق لتأسيس ( اتحاد النحالين الحضارم ) وهي كما نعلم خطوة جبارة وجديرة بالإشادة بما سيسفر عنه ذلك الاتحاد من حل لمشاكل أسعار العسل وحصر العسل المغشوش بحضرموت خاصة وبقية أصقاع العالم بما يؤدي إلى تقديم منتج نوعي من العسل الحضرمي يلبي حاجة السوق والمستهلك وتنمية المنتجين.

● النحالين .. مواكبة التطورات التقنية :

من الأهمية بمكان أن نشير إلى تأسيس بعض المهتمين من النحالين لقروبات ( واتساب ) و ( فيسبوك ) وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي مواكبة للتطورات التقنية في وسائل التواصل الاجتماعي وذلك لتسهيل التواصل فيما بين النحالين، وزيادة عملية استقطابهم في مجتمع واحد ومنصة واحدة لتبادل الخبرات والأفكار والخطط فيما بينهم، والتي من أهمها إقامة معرض يصادف موسم عسل السدر ( البغية ) حيث ستُشكل للمعرض لجنة من ذوي الخبرة في معرفة العسل إذ سيمر عبر اللجنة والمختبر ليتم تحديد جودته وسعره ويُحصر العسل المغشوش.

ومن تلك الأفكار فتح قنوات لتسويق العسل الحضرمي من خلال قيام قيادة الاتحاد ( اتحاد النحالين الحضارم ) بتقديم دعوات للمنظمات والتجار في الداخل الخارج، حيث سيقي هذا الأمر النحالين من الاستغلال من قبل التجار المحليين بشراء العسل منهم بثمن بخس، بينما كان في السابق يأتي التجار من أصقاع العالم إلى حضرموت أثناء موسم العسل ويشترون العسل بأسعار مناسبة ومُرضية للنحالين، كما أن ثمة أفكار كثيرة منها المشاركة في الندوات والمعارض الدولية في الخارج، وعمل برامج توعوية وتثقيفية للنحالين ككيفية الحفاظ على شجرة السدر والتوعية حول الأشجار المضرّة بجودة العسل، ومحاربة الآفات التي تضر النحل وشجرة السدر والسمر.

● ختاماً :

يبشر حاضرنا بازدهار كبير في حرفة النحالة وتنامي تربية النحل في حضرموت، وما سيتبعه من ازدهار الحياة الاقتصادية وتوفير مصدر للعيش الكريم، كما سيحسّن من الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمشتغلين في هذا المجال ويعزز ريادة الأعمال في تربية النحل

متمنين من الدولة إيلاء هذه الشريحة جلّ اهتمامها لما تشكله من أهمية في إعلاء مكانة الوطن والرفع من شأنه في المحافل الدولية.

● مراجع التقرير :

ـ تربية النحل في حضرموت : أ.د محمد سعيد خنبش ـ 2021م.

ـ واقع ومستقبل تربية النحل في اليمن : أ.د محمد سعيد خنبش ـ 1996م.

ـ الاطلاع على عدد من المواضيع حول ( تربية النحل في حضرموت ) : الشبكة العنكبوتية.

ـ التواصل مع مجموعة من النحالين الحضارم من ذوي الخبرة في ( تربية النحل في حضرموت ).


•••

//ads
إقرأ أيضاً