حاجتنا إلى الرجال - سالم خندور (تسجيل صوتي)

أيها الأخوة المؤمنون :

 

جلس عمر بن الخطاب ذات يوم مع جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً في إحدى دور المدينة، فقال لهم تمنّوا، فقال بعضهم : أتمنى أن تمتليء هذه الدار فضة أنفقها في سبيل الله، وقال آخر أتمنى أن تمتلىء هذه الدار ذهباً أنفقه في سبيل الله، وقال آخر : أتمنى سيوفاً ورماحاً أمد بها المجاهدين، وقال عمر الخبير بما تحتاجه الدعوات والنهضات،أما أنا فإني أتمنى أن تمتلىء هذه الدار رجالاً أمثال : أبي عبيدة بن الجراح،وسالم مولى أبي حذيفة،ومعاذ بن جبل،أستعملهم في طاعة الله،وإذا حق لنا نحن اليوم أن نتمنى شيئاً فإننا نتمنى لهذا الأمة العربية والإسلامية رجالاً من هؤلاء فالأمة العربية تعيش في بقعة لعلها من أخصب بلاد الله أرضاً وأعدلها جواً،وأطيبها هواءً،وأصفاها شمساً،وأعظمها موقعاً،وأكثرها امتلاء بالمعادن والثروات،ولكن يبقى الأهم من ذلك كله، أهم من المعادن والبترول،معدن غال نفيس هو معدن الرجال، فالرجال هم أكسير الحياة ، ومحور الإصلاح ، وعماد النهضات ، وروح الدعوات ، فمهما وضعت من اللوائح والقوانين فإنها ستظل حبراً على ورق ما لم تجد الرجال الذين ينفذونها ، ضع ما شئت من برامج للتربية والتعليم فإنها لن تؤتي ثمارها إلاّ بالرجال الذين يقومون بتدريسها، أصنع ما شئت من الأسلحة والذخائر فإنها لن تؤدي دورها إلا بالرجل المحارب ، لأن القوة ليست في حد السلاح بقدر  ما هي في قلب الجندي ، والتربية ليست في صفحات الكتب بقدر ما هي في روح المعلم ، والعدل ليس في نص القانون بقدر ما هو في ضمير القاضي ..

 

أيها الاخوة الكرام :

 

روي أن عمرو بن العاص جاء يفتح مصر ويطرد الإمبراطورية الرومانية من هذا البلد العريق بجيش صغير، يتكون من أربعة آلاف جندي ، ثم بعث إلى الفاروق عمر يطلب منه مدداً ،فأرسل إليه عمر بأربعة آلف رجل ، على راسهم أربعة رجال ، عدَّ عمر كل واحد منهم بألف وحينئذ فلن يغلب أثناء عشر ألفاً من قلة .. ولكن من هو الرجل؟ هل هو الذكر البالغ من بني الإنسان؟ إذن فما أكثر الرجال ! إن الرجولة ليست بالسن المتقدمة ، فكم من شيخ في السبعين وقلبه في السابعة من العمر، يفرح بالتافه ، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له ، ويقبض على ما في يده ، حتى لا يشاركه فيه أحد ، فهو طفل صغير، ولكنه ذو لحية وشارب .. وكم من غلام في مقتبل الصبا ، ولكنك ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وخلقه وتفكيره . جاء وفد إلى أحد الخلفاء ، فقدموا فتى يافعاً يتكلم بلسانهم فقال الخليفة : ليتقدم من هو أسن منك فقال : يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة ، ولكن إذا آتى الله المرء لساناً لافظاً وقلباً حافظاً فقد استحق التقدم والكلام ..

 

وليس الرجولة بضخامة الجسم ، فالمرء بأصغريه قلبه ولسانه ، لا بضخامة جثمانه ، وقد حدثنا القرآن الكريم عن جماعة المنافقين فقال تعالى : ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ) وفي الحديث الشريف : يأتي الرجل السمين العظيم فلا يزن عند الله جناح بعوضة ، إقرأوا إن شئتم قول الله تعالى : ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) رواه البخاري في التفسير ، وكان عبدالله بن مسعود قصير القامة ، نحيل الجسد ، فرأى بعض الصحابة يوماً ساقيه وهما دقيقتان هزيلتان ، فضحكوا منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مما تضحكون؟ قالوا : من دقة ساقيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد ) رواه أحمد .

 

وليست الرجولة بالمظهر( فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ) رواه مسلم ( ورب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ) وليست الرجولة بالمال ، فرب غني فقير، ورب فقير غني ، وليس الغني عن كثرة العرض إنما الغني ، غني النفس ) .

 

وليس الرجولة بالجاه والمنصب ، فكم من أناس يتولون مناصب كبرى ، ويديرون أعمالاً ، ويرأسون مصانع ، ويتقلدون وزارات ولكن ذلك لم يمنع أحدهم أن يحني هامته في سبيل درجة يرتقيها ، أو يضحي بكرامته في سبيل منصب أو مال ، كبرت مناصبهم وصغرت نفوسهم ، علت منازلهم وانحطت هممهم .

 

أيها المسلمون :

 

إذاً ما هي الرجولة ومن هم الرجال ، إن الرجولة الحقيقية قوة تحمل صاحبها على أن يعرف حقه فيطلبه عزيزاً كريماً ، يعرف واجبه فيؤديه مخلصاً أميناً ، واجبه نحو نفسه واجبه نحو ربه ، واجبه نحو بيته ، واجبه نحو مجتمعه واجبه نحو دينه وأجبه نحو أمته ، يعينه على أداء هذه الواجبات إدراك دقيق وشعور رقيق ، وإيمان عميق وضمير يقظ وخلق متين ..

 

فمن صفات الرجال :

 

أولاً : أنهم ملازمون للطاعات  والعبادات ، ذاكرون لله ، محافظون على أداء الصلوات ، مؤدون للزكوات ، لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة ولا يشغلهم البيع والتجارة عن أداء الصلوات ، وصفهم الله سبحانه وتعالى فقال ( في بيوت أذن الله أن ترفع  ويذكر فيها أسمه يسبح فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ) تلك هي صفات الرجال التي وصفهم الله سبحانه وتعالى بها ، فهم من يرتادون بيوت الله ، يسبحون الله ويذكرونه ، وإذا حان وقت الصلاة توجهوا إلى بيوت الله لأدائها مهما كانوا مشغولين ، فأين الذين يضيعون صلاتهم بحجة أنهم مشغولين بإعمالهم فهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : يكون في حاجة أهله فإذا حضرت الصلاة قام كأنه لا يعرفنا وإذا حال عليهم الحول أخرجوا زكاتهم طائعين لله دون تأخير أو تسويف ، فما الذي حملهم على ذلك وما الذي ثبتهم على هذه الطاعات ( يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ) .

 

ثانياً : من صفات الرجال المؤمنين أنهم يقدمون النصيحة لأقوامهم ولا يبخلون بها ، يقدمون النصيحة لامتهم مهما كانت العواقب والنتائج ( وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم أتبعوا المرسلين ) ينصح قومه بأن يتبعوا المرسلين ويتبعوا دعاة الحق الذين يريدون الخير لامتهم وأوطانهم وشعوبهم ، لا يريدون بذلك أجراً ولا مالاً ( أتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ) وألا يصغوا لدعاة الباطل وأهله الذين لا هم لهم إلا مصالحهم الدنيوية والمادية ، فكان أن تعرض للقتل من قبل أهل الباطل الذي لا زال ممسكاً بزمام الأمور، ولكن الله سبحانه وتعالى كافأه بأن أدخله الجنة ( قيل أدخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) فالرجال هم الذين يحملون هم أمتهم وأوطانهم بل ويضحون بأنفسهم من أجل عزها ورفعتها لا من أجل تدميرها وتخريبها وتمزيقها .

 

من صفات الرجال أيها الاخوة أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يصدعون بقول الحق في وجه الباطل (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)

 

ومن صفات الرجال أنهم إذا عاهدوا أوفوا بالعهود وإذا وعدوا لم يخلفوا الوعود ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا الأمانات وإذا إستحفظوا على سر لم يفشوه من صفاتهم أنهم كرماء من غير إسراف ولا تقتير وشجعان من غير خوف ولا تهور، عند الشدائد جاهزون ، وعند المغانم زاهدون وفي نفس الوقت فإن من يحملون صفات الرجال ليسوا ملائكة مقربون لا يعصون ولا يخطئون ولكنهم كانوا ( إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) وإذا وقعوا في معصية أو تورطوا في فاحشة أو ظلموا أنفسهم ( ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم )

 

أيها الاخوة المؤمنون :

 

أننا في زمن عزّ فيه الرجال وأصبحنا نفتش عنهم كما نفتش عن الذهب في الأرض ، أين الرجولة من هذا الذي فقد الوفاء فغدر، وفقد العفاف ففجر، وفقد الأمانة فخان ، وفقد الشجاعة فأصبح جباناً ، لقد كان العرب في الجاهلية على ما فيهم من انحراف عن كثير من معاني الرجولة فقد كان فيهم مثل (عنترة) الذي يغشى الوغى ويعف عند المغنم والذي يقول في نفسه :

 

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي       حتى يواري جارتي مأواها

 

أما لو فتشنا عن السر لتبين لنا أن أعداء الإسلام قد وضعوا نصب أعينهم في مقدمة برامجهم أن يقتلوا رجولة المسلمين ومن هنا غزونا بجسد المرأة الخليعة والأغنية الماجنة وأشاعوا المسكرات ونشروا المخدرات ، وبهذه الطريقة انتصروا في حربهم الروحية والنفسية والفكرية وعبث الفساد بالرجولة كما تعبث الرياح بأوراق الشجر .

 

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم       فأقم عليهم مأتماً وعويلاً

 

وإني لتحضرني كلمة لرجل أجنبي درس الإسلام وأعجب بتعاليمه فلما سئل عنه قال : ما أعظمه من دين لو كان له رجال .

 

أقول قولي هذا

 

الخطبة الثانية :

 

الحمد لله :

 

أيها الاخوة المؤمنون :

 

كيف نصنع الرجال؟ إن صناعة الرجال وإعدادهم ليست مسئولية شخص بعينه وإنما هي مسئولية الجميع ، مسئولية الأسرة ومسئولية المدرسة ومسئولية المسجد ومسئولية الإعلام ، أنها مسئولية المجتمع بأكمله فالكل هنا يتعاونون من أجل أنجاز هذه المهمة ، ولكن أول هذه المصانع التي تصنع الرجال هي الأسرة ، فالأسرة هي المحضن الأول لصناعة الرجال ، وفيها يتلقى الطفل السلوك والأخلاق ، وإذا أردنا لهذا المصنع النجاح لا بد أن تكون له إدارة ناجحة وهما الأب والأم فلا بد أن يكون الأب نفسه رجلاً صالحاً قوياً مستقيماً ، ولن يستطيع الأب القيام بمهمته إلا إذا اختار زوجة صالحة متعلمةً واعية تساعده في صناعة هؤلاء الرجال وربما هي تتحمل الجزء الأكبر من التربية ، ومهمة الأسرة أن تربي أبناءها على الأخلاق الفاضلة وأن تنشئهم على حب الله ورسوله وكتابه وأن تربيهم على الشجاعة والجرأة في التحدث مع الآخرين بضوابط الحديث وآدابه ، وللأسف الشديد فإننا نرى كثيراً من الأسر تربي أبناءها على الخنوع والخوف والخجل من ألآخرين ، ولذا نجد كثيرا من الشباب اليوم لا يستطيع أن يتحدث أمام الآخرين لأنه لم يتعود على ذلك في صغره ، بل أن بعض الآباء ربما يكون له تأثير سلبي في تربيته لأولاده فهو الذي يحدد لأبنه كل شي ، متى يأكل ومتى ينام ومتى يدخل ومتى يخرج ، بل وحتى لا يترك له أن يختار لون ملابسه ، فإن هذه التربية لا تصنع الرجال أنما تصنع أشباه الرجال ، ولقد لاحظ علماء التربية أن أكثر الرجال تأثيراً في مجتمعاتهم عاشوا من غير آباء وبالتالي فإنهم تربوا معتمدين على أنفسهم فكان لهم التأثير على مجتمعاتهم وأول هؤلاء الرجال هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث ولد يتيماً فقد مات أبوه وهو في بطن أمه وماتت أمه وهو لا يزال طفلاً صغيراً ثم توفي جده ، وكذلك من أولئك المؤثرين نبي الله عيسى عليه السلام فقد ولد من غير أب ولا أم ونبي الله موسى عليه السلام لم يذكر لنا القرآن الكريم أباه بل ذكر أمه فقط ، وحتى هذه لم يعش معها طويلاً كما يعيش الأطفال مع أمهاتهم وكثير هم المؤثرين والمصلحين والعلماء كانوا كذلك .

 

ثم يأتي دور المسجد في صناعة الرجال فإن المسجد هو المكان الحقيقي الذي يتلقى فيه الطفل تربيته الإيمانية ويتزود منه بالعلوم الشرعية ويدرس سير الأنبياء والمرسلين ويتعرف على حياة القادة المؤثرين قال تعالى ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) وقال عز وجل ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه يسبح له بالغدو والآصال رجال .. )

 

ويقول الشاعر منوهاً إلى أهمية المسجد في صناعة الرجال :

 

لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح

فى روضة القرآن فى ظل الأحاديث الصحاح

شعب بغير عقيدة ورق تذريه الرياح

من خان (حيى على الصلاة) يخون (حيى على الكفاح)

 

ثالثاً : المدرسة تشكل عاملاً من العوامل الهامة في صناعة الرجال وفيها يقضي الطالب قرابة خمس أو ست ساعات يتلقى فيها من العلوم والمعارف ومن النصائح والتوجيهات ما يجعله رجلاً يتحمل مسئوليته في المستقبل ، إلا أن مدارسنا اليوم اقتصرت على التعليم فقط وغاب أو ضعف جانب التربية والأصل أن تسير العمليتان معاً ، التربية والتعليم ، بل قدمت التربية على التعليم فلا فائدة من تعليم بلا تربية ، وينبغي على مدارسنا أن ترتقي بأساليبها التربوية والتعليمية فلا يقتصر دورها على تقديم المعلومة فحسب فإن معلماً يلقي وطالباً يتلقى فإن هذا أسلوب في التعليم لا يصنع رجالاً ، إذا لم يشارك الطالب في الحصول على المعلومة ويبحث ويناقش ويبدع ويفكر ويعمل لا أن يظل دورة مجرد جهاز استقبال في زاوية من زوايا الصف.

 

والإعلام لا بد أن يتحمل دوره في صناعة الرجال ، لا أن يكون معول هدم ، من خلال بث الأفلام الماجنة ومسلسلات الحب والعشق والغرام وأفلام العنف والدمار، فإن مدرسة تبني وإعلاماً يهدم فلن نخرج بأية حصيلة .

 

فبإمكان إعلامنا أن يكون هادفاً من خلال تقديم المادة الترويحية والعلمية والثقافية والتاريخية المفيدة .

 

أيها الإخوة المؤمنون :

 

ينبغي أن تكون التربية شاملة كاملة لنربي جيلاً يكون سليماً في عقيدته صحيحاً في عبادته ، أخلاقه متينة ، متسلحاً بالعلم ، مثقف الفكر، قوي الجسم ، نافعاً لوطنه ومجتمعه وأمته .

 

وصلوا وسلموا    

خطبة جمعة بمسجد عمر حيمد بسيئون القرن

الجمعة 18/رجب/1433هـ الموافق 8/6/2012م

 (تسجيل صوتي)

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص