تربية الابناء والبنات للشيخ توفيق الحكيم( تسجيل صوتي )

أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أما بعد: أيها الإخوة المسلمون، حديثي إليكم حديث القلب إلى القلب، حديثي إليكم اليوم حديث الروح إلى الروح، حديثٌ ذو شجون، حديث تختلط فيه آلام مع الآمال، تختلط فيه مشاعر الحزن والأسَى من قضايا أسرية ومشكلات اجتماعية يندَى لها الجبين.

حديثي إليك أنت أيها الأب الكريم، أيها الأب الحنون، أيها الأب الرحيم، أيها الأب العطوف، لقد حباك الله تعالى بصفاتٍ عظيمة، وأكرمك الله بما أكرمك به من صحة ومال وعافية تدوم بإذن الله تعالى، رزقك الله تعالى البنين والبنات وحُرمَهم آخرون، فأكرمك الله تعالى بهم، وجعل هؤلاء أمانة في عنقك، تنشّئهم وتربّيهم تربيةً حسنة وتربيةً صالحة، وهو وحده الذي يجازيك على حسن صنيعك وحسن تربيتك.

فمنذ أن تلدَ المرأةُ طفلَها فأوّلُ ما يسمع ذكر الله تعالى، فَيُأَذَّنُ في أذنه، ويَستقبلُ حياتهُ بذكر الله تعالى، بالتوحيد لله لا شريك له.

ويبدأ الأبُ والأمُّ رعاية هذا الطفل ذكرًا كان أو أنثى، فالأمُّ تبدأُ المشوار بعد أن عانت آلامَ حملٍ ووضعٍ وإرضاعٍ وحضانة، ثم بعد ذلك ينشأ على تربية حسنة تربية تُستقى من منهل النبوة الصافي وعلى ما كان النبيّ  يربي أبناءه، فهذا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله  يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يَعثران ويقومان، فنزل فأخذَهما فوضعَهما بين يديه ثم قال: ((صدق الله ورسوله:  إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ  [التغابن:15]، رأيتُ ولديّ هذين فلم أصبر حتى نزلت فأخذتُهما))، ثم أخذ في خطبته.

وعن أبي قتادة أن رسول الله  كان يصلي وهو حاملٌ أمامةَ بنت زينب بنت رسول الله  ، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها. هذه الرّحمة الحقّة والشفقة الصادقة، يرحم  ويُشفق يعطف ويحنو  .

وهذا أخٌ لأنسِ بن مالك كناه أبا عمير ويقول له  : ((يا أبا عمير، ما فعل النغير؟)). وهذا الحسن بن علي رضي الله عنه يحمله النبي  على عاتقه وهو يقول: ((اللهم إني أحبه فأحبه))، وعن يعلى بن مرّة أنه قال: خرجنا مع النبي  ودُعِينا إلى طعام فإذا حسين يلعبُ في الطريق، فأسرع النبي  أمام القوم، ثم بسط يديه فجعل الغلام يفرّ ها هنا وها هنا ويضاحكه النبي  حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه، ثم اعتنقه، ثم قال النبي  : ((حسين مني، وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسينا، الحسين سبط من الأسباط)).

ما أجملَ هذا النزول، وما أروعَ هذا التواضع، نبي عظيم ينزلُ ويداعب، يمازحُ ولا يقول إلا حقًا، فأين نحن من هديه  ؟! تجد الرجل منا يكون له ولدٌ صغيرٌ أو بنتٌ صغيرةٌ فلا يمازحُهَا ولا يقبلُها، بلِ البعدُ والجفاءُ طبيعتُه، والغلظةُ والقسوةُ طريقتُه، وما علم أن نبينا وحبيبنا  كان من هديه الحنانُ والعطفُ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمةُ تمشي كأن مشيَتَها مشية النبي  ، فقال النبي  : ((مرحبا بابنتي))، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله. فهذا ترحيب منه  لابنته وعطف منه عليها.

وربما بدرت من الصغير حركاتٌ بريئة فيُعامله والدهُ معاملةً قاسية؛ ضربٌ وشتمٌ وصُراخٌ، بل تخويفٌ وتهديدٌ ووعيدٌ. في ظنّكم كيف سينشأُ هذا الطفلُ وحياتُه معقّدةٌ محطّمة؟! ويكبر المسكينُ على ذلك وحياتُه آلامٌ وأحزانٌ. لماذا لا نحنو على أبنائنا؟! لماذا لا تتّسعُ صدورنُا لأبنائنا؟! أبعد أن نفقدهم؟! أبعد أن نخسرهم؟! أبعد أن نراهم سلكوا طريقًا سيّئًا بعيدين كلّ البعدِ عن القيمِ الفاضلة والأخلاقِ الحسنة؟! فعندئذ لا ينفع الندم.

وفي حياة الأبناء ذكورًا وإناثًا يقوم الأب بتوجيه أبنائه إلى الصلاة والحثّ عليها، وكذا بناته، قال تعالى:  وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا  [طه:132]. وكذا دور الأمّ مع بناتها، فهي ترحمهم وتعطف عليهم، لا تحابي الصغيرة على الكبيرة، ولا تجامل أحدًا على أحدٍ، بل هم سواء في الحبّ والعطف والحنان، وكذا الأب يعدل بين أبنائه ذكورًا وإناثًا، لا يحابي، ولا يجامل، بل هم سواء، عن النعمان بن بشير قال: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله  فقال: يا رسول الله، أَشهد أني قد نحلتُ النعمان كذا وكذا من مالي، فقال  : ((أكلَّ بنيك قد نحلتَ مثل ما نحلتَ النعمان؟)) قال: لا، قال: ((فأشهدْ على هذا غيري))، ثم قال: ((أيسرُّك أن يكونوا إليك في البرّ سواء؟)) قال: بلى، قال: ((فلا إذا))، وفي رواية أن رسول الله  قال: ((ألك بنون سواه؟)) قال: نعم، قال: ((فكلّهم أعطيت مثل هذا؟)) قال: لا، قال: ((فلا أشهد على جور)).

عباد الله، الأسرة المسلمة تكون في غاية الحبّ والعطف والسموّ، وتنالُ منالها عندما يحترمُ الصغيرُ الكبير ويعطفُ الكبيرُ على الصغير، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال  : ((ليس من أمتي من لم يُجلّ كبيرنَا ويرحم صغيرنا)). عندما يعطف الشاب على أخته وترحم الفتاة أخاها هم إخوةٌ متحابّون متعاطفون، المحبةُ شعارهم، والعطفُ منهجهم، والشفقةُ طريقهم، أمانيُهم واحدة، إذا اشتكى أحدُهم أو مرض واحد منهم قاموا له جميعًا يواسونه يخفّفون عنه؛ علّهم يصلون به إلى غايتهِ وبغيتهِِ، يفرحون لفرحِه ويحزنون لحزنه.

أبناءٌ بارّون لآبائهم، وآباءٌ مشفِقون على أبنائهم، يعطفون عليهم، يرحمونهم، يبحثون عما يخفّف أحزانهم؛ لأنهم فلذات أكبادهم، إنهم والله أسرة عظيمة، أبُّ وأمُّ قائدان عظيمان يقودان مركبة عظيمة، يقودانها إلى بر الأمان، إنها الأسرة الصالحة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله  يقول: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها)) إلى أن قال: ((فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).

أبٌ وأمٌ لا يفكران في نفسيهما، لا ينظران إلى حياتهما بقدر ما ينظران إلى حياة أبنائهم وسعادتهم، يَسعَون ويَتعَبُون ليروا أبناءهم فرحين سعداء قد مُلئت حياتُهم بهجة وسرورًا.

فمن الآباء أبٌ يحرص على بناته، فعندما يطرقُ بابَه خاطبٌ يريد ابنتَه ماذا عليه أن يفعل؟ إنه الاختبار الصعب، إنه الاختبار الأقوى، لمن؟ لمن سيكون زوجًا لابنته، لفلذةِ كبده، لمن هي قطعةٌ منه، يريبه ما يريبها، لمن هي أمانة في عنقه، لمن هي رعيّة استرعاه الله عليها.

عباد الله، إن الواجب على الأب الصالح أن يجتهد كلّ الاجتهاد في البحث والسؤال والتحرّي بكل وسيلة ممكنة، يسأل هذا، ويسأل ذاك، يسأل عن صلاحه وصلاته وأخلاقه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله  : ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض))، يسأل عن أخلاقه، يسأل عن عقيدته، لا سيما الآفاقيون الذين لا تربطهم به علاقة.

أيّها الأب الكريم يا رعاك الله، إن التي تدفعُها إليه ما هي إلا ابنتك فلذةُ كبدك، ربيتها صغيرةً وكبيرةً، وأحسنت تربيتَها، وأصلحت تنشئتها، وقد عرفتْ لك أبوّتَك وحقَك، وحفظت لك عرضك، فاعرف لها حقّها، واحفظ لها كرامتها وبرّها.

ومن الآباء من يقتصر على مجرّدُ سؤالٍ عابر، وكأن ابنته حِملٌ يريد أن يُلقيَه عن ظهره، يريد الخلاص منها بشكل أو آخر، يريد أن لا يُبقيَها أمامه. آهٍ من قلوب تحجّرت، ما أقساه من قلب أبٍ لا يعرفُ للبنوّة حقها، ولا للرحمة طريقها، أين تذهبُ من الله تعالى عندما تقفُ بين يديه ويسألك عن هذه المسكينة الضعيفة؟! ماذا ستجيب؟!

أيها الأب الحبيب، حذار أن تضيّع ما استرعاك الله من رعية، وأن تخون ما ائتمنك الله عليه من أمانة، حذار أن يقال لك يوم القيامة: تأخر، ويقال لابنتك: تقدمي واقتصي.

أيها الإخوة الكرام،

يرد إلينا من المشكلات الاجتماعية والقضايا الأسرية الشيء الكثير، فهذا أبٌ يجبر ابنته ويكرهها على الزواج من ابن أخيه أو قريبه وهي ترفض وترفض ولكن لا حياة لمن تنادي، فتُغمضُ المسكينة عينيها وتقول: يريد أبي لي الخير والسعادة، وما دَرتِ المسكينة أنه يريد أن يُمضيَ أعرافًا وتقاليد بالية قد عفا عليها الزمن من سقمها وبعدها عن منهج ربها، فعاداتٌ ما أنزل الله بها من سلطان، تُجبرُ وتكرِه على الزواج، ولسان حاله يقول: ماذا أقول لهم؟! ماذا أردُ عليهم؟! لقد أعطيتُهم كلمة، هذا إن شاورها وإلا تكون الموافقة من عنده حالاً. أعرافٌ سيَّرتهُ إلى هذا الطريق المظلم، وكأن المسكينة دميةٌ لا أحاسيس لها ولا مشاعر، فالمهم أن يُمضي كلامَه وأن تتزوج ابنته بما وعد به، ولا ينظرُ إلى النتيجة أتدوم الحياةُ أم لا؟ أتسعد البنتُ أم لا؟ أتهنأُ المرأة أم لا؟ المهم ما وعدتُ به ينفَّذ، أين القلوب الرحيمة؟! أين القلوب العطوفة؟! أين القلوب الشفيقة؟! أين الآباءُ الصالحون الذين يَحرِصون على سعادة بناتهم؟! أين الأولياء الذين يسعون لغرس الفرحة والسعادة والبهجة والسرور في نفوس بناتهم؟!

أيها الإخوة الكرام، يرد إلينا مَن هذه حالها، فالضرب والشتم والإهانة حياتُها، وأخذُ مالها إن كانت عامِلة وبشكل فظيعٍ مقزّز تقشعرُ منه القلوب، ما الذي أوصلها إلى هذه الحالة؟! من الذي زفّها إلى زوجها؟! إنه أنت أيها الولي، أين الغيرة على بناتنا؟! أين الحرقة على أخواتنا؟! أريق ماءُ وجهنا، أين القلوب العالية؟! أين القلوب السامية؟! يا ويلنا ماذا أصابنا؟! تذكَّر ـ يا رعاك الله ـ قول المصطفى  : ((ما من رجل يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيّته إلا حرم الله عليه الجنة)).

أخي الحبيب يا رعاك الله، ألا يحركُ هذا الحديثُ قلوبَنا؟! ألا يهزُ مشاعرنا؟! ألا تستيقظُ أحاسيسُنَا؟! أين الرحمة من قلوبنا تجاه فلذات أكبادنا؟! ثبت عنه  أنه قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))، وعن جرير عن النبي  قال: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس))، وعن أبي سعيد عن النبي  قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم)).

فالغش ـ أخي الحبيب ـ يكون في عدم التحري وعدم السؤال وعدم التدقيق والتفتيش، ما ضرّنا لو أننا بحثنا لبناتنا الصالحين الطاهرين ليكونوا أزواجًا لبناتِنا، قال البخاري في صحيحه: "بابُ: عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير"، ثم قال: إن عمر بن الخطاب حين تأيَّمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله  فتوفي بالمدينة فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمانَ بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئتَ زوجتُك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إليّ شيئا، فلبثتُ ليالي ثم خطبها رسول الله  فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضتَ عليّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضتَ علي إلا أني كنت علمتُ أن رسول الله  قد ذكَرها فلم أكن لأفشيَ سرَّ رسول الله  ، ولو تركها رسول الله  قبِلتها. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

هناك عمل صالح، يفوز من يؤديه على وجه وبشروطه بثلاثة أمور:

أولها: يُحْجب عن النار، فلا يدخلها.

ثانيها: يحشر يوم الفزع الأكبر مع المصطفى .

ثالثاً: تجب له الجنة، بل ويكون فيها مع النبي .

فما أعظم هذا الأجر، وما أجلّ هذا الثواب، الذي لا يحرمه إلا محروم.

وهذا الجزاء العظيم أيها المؤمنون مقيد بشروط، لابد للحصول عليه أن تؤدى شروطه وتكمل جوانبه.

فما هو هذا العمل، وما هي شروطه؟

فأقول مستعيناً بالله عز وجل:

هذا العمل أيها المؤمنون:

هو رعاية البنات، والقيام عليهن وعلى مصالحهن، وهذا شأن ديننا مع المرأة يكرمها ويصونها ويحفظها ويرغب الرجال في الجنة وعظيم الثواب، إن هم قاموا على رعايتها وحفظها.

فما أعظم نعم الله عز وجل على بنات حواء، وما أكثر ما يكفرن بها وينكرنها!!.

يقول المصطفى في الحديث المتفق على صحته من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنّ له ستراً من النار)).

ويقول أيضاً: ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وكساهن من جدته كن له حجاباً من النار)).

فهذا هو الجزاء الأول، الذي تناله يا عبد الله، ستر وحجاب من النار، فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز.

جعلني الله وإياكم من الفائزين.

وأما الجزاء الثاني وهو الحشر مع النبي فعن أنس قال، قال رسول الله : ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه)) [رواه مسلم].

وأما الجزاء الثالث: فتأمل معي هذه النصوص:

عن جابر: ((من كان له ثلاث بنات يُؤويهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة، فقال رجل بعض القوم: وثنتين يا رسول الله، قال: وثنتين)) [أحمد / والبخاري في الأدب المفرد].

عن أبي سعيد: ((لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ابنتان أو أختان فيتقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنة)).

عن أنس قال: قال رسول الله : ((من كان له أختان أو ابنتان فأحسن إليهن ما صحبتاه كنت أنا وهو في الجنة، وفرق بين إصبعيه)).

فما أعظم هذا الأجر، وما أجلّ هذه المنزلة؟

ولكنها قيدت بقيود ثقال ومهمّات شاتة، تحتاج إلى جهاد وصبر حتى يحققها العبد، فيفوز بهذا الجزاء والأجر.

وتأمل قوله : ((من ابتلي من هذه البنات بشيء))، فسماهن بلية، قال القرطبي في تفسيره سماهن بلاءً لما ينشأ عنهن من العار أحياناً.

فما هي هذه الشروط والقيود التي قُيّد بها هذا الأجر العظيم؟!

الشروط اجتمعت في قوله : ((فأحسن إليهن)).

فالإحسان إلى البنات إحساناً يوافق الشرع، هو الشرط الجامع والقيد الأكبر.

وجاءت الروايات التي استمعتم إليها مفصلة هذا الإجمال، ومبينة له أيما بيان:

فقال : ((يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن)).

قال الحافظ: وهذه الألفاظ يجمعها لفظ الإحسان.

فما معنى الإيواء؟ّ! وما المراد بكفايتهن ؟! وكيف نرحمهن؟!

أما الإيواء، فيكون على ثلاثة أحزب:

أولها: إيواؤها إلى أم صالحة، تكون قدوة لها فأول الإيواء، إيواء البنات إلى أم صالحة تقية عفيفة تصونهن وتحفظهن.

أما سمعت نصيحة المصطفى : ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)).

ثانيها: إيواؤها في خدرها، في بيتها تعليمها أن تقر في بيتها ولا تخرج منه إلا لضرورة أو حاجة أو قربة أو طاعة ((يشهدن الخير ودعوة المسلمين)).

وهذا معنى قوله تعالى: وقرن في بيوتكن فأمر النساء بالقرار في البيت، فهو أستر لهن وأحفظ لحياتهن.

وانظر رحمك الله كيف أضاف الله عز وجل البيوت إلى النساء في ثلاثة مواضع من كتابه مع أنها تابعة لأوليائهن، فقال تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن .

وقال: لا تخرجوهن من بيوتهن وقال: وقرن في بيوتكن فاحرص على تربية بناتك على القرار في البيوت، وعليك بالحزم فإنه أنفع لدينهن وأعز لك في الدنيا والآخرة.

ثالثها: الإيواء إلى بيت عامر بالذكر والطاعة والعمل الصالح

فهل هذا إيواء يا عباد الله؟!

إن الإيواء الحقيقي يكون في خدر ساتر يحافظ على عرضك ويصونه.

لبيت تخفق الأرواح فيه             أحب إليّ من قصر منيف 

ولبس عباءة وتقر عيني           أحب إليّ من لبس الشفوف

 ((من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة)).

كان هذا هو الإيواء؟ فما المراد بقوله : ((يكفيهن؟!)).

المراد، قد فسره في رواية مسلم بقوله: ((من عال جاريتين حتى تبلغا)) قال النووي رحمه الله: عالهما قام عليهما بالمؤونة والتربية.

ويفسره أيضاً قوله : ((وكساهن من جدته)).

نعم عباد الله، كفاية المرأة حاجاتها الضرورية من طعام ولباس ومؤنة من الواجبات ومن أعظم القربات التي يشتغل بها الرجال.

يكفيهن هذه الأمور، فلا يحتجن إلى الخروج من الدار للعمل والكسب؟! يكفيهن هذه الضرورات فلا يفكرن في المعصية والانحراف؟ّ!

يكفيهن، ولم يقل يطغيهن، كما يفعل بعض الآباء – هداهم الله – فيبالغ في توفير طلبات ابنته، كلما اشتهت اشترى لها، وكلما صاحت تطلب أمراً، سارع بخيله ورجله مستجيباً لها مطيعاً أمرها

إن هذا الإغداق مهلك للفتاة موجب لقصر حياتها الزوجية، فما أن تنتقل هذه الفتاة إلى دار زوجها، وتفقد هذا الدلال إلا وتنشز على بعلها وتفتقد ما نشأت عليه.

ورحم الله أحد مشايخنا، كان يقتصر على نوعين من الفاكهة يقول: أخشى أن يتعودن على الأصناف المتعددة فتزوج إحداهن بفقير فتزهقه، تقول أبي كان يفعل كذا وكذا، ويشتري كذا وكذا.

وفي الطرف الآخر، نجد من الرجال من يقصر على النساء في تلبية ضروراتهن، بل ويصيح فيها: لماذا لا تخرجين وتعملين مثل فلانة؟!

فيضجر بتلبية حاجاتها وكفايتها. والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً.

القيد والشرط الثالث: الذي يندرج تحت معنى الإحسان إلى البنات، قوله وبرحمهن فما هي حقيقة الرحمة؟! وما المراد بها!!

المعنى الذي يتبادر إلى الذهن أول وهلة، هو المعنى الظاهر والعام للرحمة يرحمهن: أي يعطف عليهن ويشفق عليهن ولا يضربهن إلى غير ذلك من معاني الرحمة. ولا شك أنّ هذا حق. ولكن الرحمة الحقيقية بالبنات معاشر المؤمنين تتمثل في أمرين:

الأول: رحمتهن، بالسعي والعمل الجاد على تجنيبهن النار وبئس القرار. وذلك بتربيتهن على شعائر الإسلام وإقام الصلاة والحجاب والستر والعفاف. يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.

فالرجل الذي يعطف على بناته ويدللهن ويحسن إليهن مادياً ومعنوياً ثم هو لا يأمرهن بصلاة أو صيام ولا ستر أو حجاب، فهذا جبّار، عدو مبين. لأنه لم ينصح لهن ولم يأخذ بأيديهن وحجزهن ويبعدنهن عند النّار.

فهذه هي الرحمة الحقيقية معاشر المؤمنين، يقول : ((إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيه)).

ومن مظاهر عدم رحمة مشاعر البنات، تأخير زواجهن حتى يبلغن سناً، يزهد فيه الشيوخ فضلاً عن الشباب وتذهب سنون هذه المسكينة حسرات عليها، وذلك بسبب تعنت والدها أو حتى كبْره، الذي يمنعه من عرضها على الأخيار والصالحين.

فاتقوا الله معاشر المؤمنين وأحسنوا إلى بناتكم.

واعلموا أنّ الأجر العظيم الذي استمعتم إليه مقيد بهذه القيود الثقال وهي يسيرة لمن يسرها الله عليها مقدورة على من اجتهد وحرص.

هذا وصوا وسلموا...

. تربية الابناء والبنات للشيخ توفيق الحكيم

خطبة جمعة 4 ربيع أول 1433هـ الموافق 27 يناير 2012 بمسجد عمر حيمد بسيئون القرن

( تسجيل صوتي )

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص