دور المسجد الجهادي

حضرموت اليوم / د: غالب عبدالكافي القرشي وزير الأوقاف والإرشاد اليمني الأسبق

الحمدلله الذي أعزنا بالإسلام ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين …  وجعلنا خير أمة أخرجت للناس ما دمنا مؤمنين بالله حق الإيمان ، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ، وجعل لنا الأرض - كلها - مسجداً وتراباً طهورا، خصوصية لنا وتكريما ورفعاً للحرج.

وخص من هذه الأرض بقاعاً وأماكن جعلها موئلاً لعباده المؤمنين ، ومعارج لذكره في كل حين ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ، رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) النور:36،37.

وجعل هذه الأماكن بيوتاً خالصة له ، لا يجوز أن يدعى فيها غيره ، ولا أن تتخذ أو جزء منها أماكن لتجارة أو زراعة أو لشيء يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا اً ) المدثر : 18 .

وجعل الخوف والخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة لمن تعرض لها أو سعى لتخريبها ، أو آذى روادها والقائمين والعاكفين فيها ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين لهم ي الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) البقرة:114.

منذ أن هاجر كان شغله الأول بناء المسجد لصف المؤمنين فيه ، فكان موضع العبادة واللقاء المستمر لصنع الرجال وإبراز الأبطال .

ولا شك أن الدور الجهادي الذي انطلق من المساجد عبر العصور المختلفة لم يكن أمراً نشازاً ، بل إنه ترجمة عملية لمكانة المسجد في الإسلام ، ومكانة الجهاد بين فرائض الإسلام ، فكان المسلمون إبتداءً بالرسول الأعظم  يقيمون في المسجد الصلاة ، ويؤتون فيه الزكاة ، وتجهز فيه الجيوش ، وتعقد فيه الألوية ، وترفع فيه الرايات فتنطلق في مناكب الأرض لنشر نور الله ، وتبنى المساجد الجديدة فتنطلق منها الرايات أيضاً .. ولم يكتب نصر أو يتم فتح ذو شأن على أيد لم تعرف المساجد .

ولذلك نجد أن المسلمين في عصور انحطاطهم العام قد جهلوا دور المسجد وأهميته في صياغة الرجال والأبطال ، وأدرك عدوهم جيداً أهمية إبعاد الجندي المسلم عن المسجد ، لقد شهد المسجد في تأريخه الطويل - من أول يوم أسس فيه أول مسجد على التقوى - أدواراً جهادية لم تعرفها القلاع والحصون ، ولا القصور المشيدة .

إن المسلمين الذين قد استبيحت بيضتهم ، ونهبت ثرواتهم ، وديست كرامتهم ، وتفرقت كلمتهم ، وذهبت ريحهم ، وفشلت خططهم .. في أشد الحاجة إلى العودة إلى مساجدهم لإحياء نفوسهم أولاً ، وإحياء دور المسجد ورسالته لينطلقوا منها مرة أخرى لإعادة الكرامة ، وتوفير السلامة ، ولو قال عنهم عدوهم أصوليون ، رجعيون ، متطرفون ، إرهابيون ... فهي شهادات كمال لا نقصان .

فمن يعود إلى أصول أورثت مجداً أو عزاً .. ، ويرجع إلى الحق بعد التمادي في الباطل ، ويلتزم بمبادئ دينه الربانية ، ويرهب بذلك أعداء الله ، وبما يعد من عدة ، مهما استغرقت من مدة ، فإنه المطلوب شرعاً وواقعاً ، وذلك ضرورة إسلامية للمسلمين في واقعهم المرير .

إن أعداء الله قد ركزوا كثيراً على المسجد لما يعلمون من خطورة دوره وأثره ، واستطاعوا أن يوصلوا من بيدهم القرار في بلاد المسلمين إلى قناعة كاملة بتهميش دور المسجد وإلغاء رسالته الشاملة ، منطلقين من أفهامهم السقيمة المأخوذة عن عدوهم أن المساجد دور عبادة فقط ، وأن العبادة محصورة في الصلاة وقراءة القرآن فحسب ، وأن الصلاة المطلوبة هي التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وأقنعوا كثيراً من الناس بقناعاتهم حتى نسي دور المسجد في حياة الناس .

بل وصل الأمر إلى اقتناع قطيع كبير من التائهين : أن المسجد مكان تخذيل وتعطيل للطاقات والأوقات ، لأن التردد إليه كل يوم خمس مرات في الأيام العادية مشغلة عن الأعمال ، فرجال المسلمين في المساجد ، ونساؤهم في المطابخ ، والناس من حولهم في المزارع والمصانع وسفن الفضاء . اعتقدوا ذلك فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ولم يعملوا شيئاً .

وهكذا توهموا ولا يزالون يتوهمون ، وما علموا أن ديناً جاء لإسعاد البشرية جاء شاملاً كاملاً ، وجه أبناءه إلى المساجد للتربية والتعليم والإعداد مع الصلة بالله رب العباد ، وجههم كيف يقضون الأوقات ، وكيف يستغلون الطاقات ولا يهدرونها ، فقال نبي الرحمة : ( أمران مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ) وقال : ( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به ) .

من المسجد سمعنا قول الله عزوجل : ( ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض) القصص : 77 .

وسمعنا قول رسوله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) .

( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) ( ذهب أهل الدثور بالأجور ) فالتربية في المسجد على تزكية النفس ، ونفور الروح ، والإعداد للجهاد … ليست مخذلة ولا معطلة ، وإنما أخرجت قديماً من يقول  أثناء التربية في المسجد :

وفينـا رسـول الله يتلو كتـابه      إذا انشق معروف من الفجر ساطع

أرانـا الهدى بعد العمى فقلوبنـا     به موقنـات أن ما قـال واقـع

ببيت يجـافي جنبـه عن فراشـه     إذا استثقلـت بالمشركين المضاجع

ويقول عبدالله بن رواحه بعد التربية والإعداد في المسجد وقد استعد للجهاد رداً على من دعا له بالسلامة :

لكنني أسأل الرحمن مغفــرةً        وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حـران مجهـزةٍ         بحربةٍ تنفذ الأحشـاء والكبدا

حتى يقولوا إذا مروا على جدثي          يا أرشد الله من غاز وقد رشدا

استمر دور المسجد الجهادي منذ أسس أول مسجد في المدينة ، ولا يزال حتى اليوم، وقد انحطت الأمة هذا الانحطاط الذي نشاهده ، ولا توجد جهة فيها أمل وصوت تنادي الأمة المنكوبة المغلوبة على أمرها أن الرجعة إلى عزك ومجدك لن تكون إلاّ من المسجد وما يتبعه .

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص