في بيت الـنبوة / سالم خندور

الحمد لله ......

أيها الأخوة المؤمنون  :ــ

إن أعظم نعمة أنعم الله بها على الأمة هي نعمة الإيمان و الإسلام , نعمة أن أرسل اليها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم , نعمة ما أعظمها من نعمة , الذي جعله الله عز وجل رحمة للبشرية فقال : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وجعل الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام القدوة الأولى للمسلمين فقال : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة, لمن كان يرجو الله واليوم الآخر و ذكر الله كثيرا ) , فرسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة للناس أجمعين ، قدوة للدعاة , في دعوتهم إلى الله ، وقدوة للمعلمين و المربين في تعليمهم و تربيتهم لتلاميذهم , و قدوة للقادة والزعماء في إدارة الدولة وقيادة الجيوش , وقدوة للآباء , وقدوة للأزواج في تعاملهم مع أهلهم وأزواجهم , فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو قدوة للأمـة , وما أحوج الأمة اليوم أن تدرس حياته و سيرته بتمعن لتكون نبراساً نهتدي به في حياتنا , و سنقف اليوم على جانب من حياته صلى الله عليه وسلم لذا فأنتم مدعون إلى زيارة بيته صلى الله عليه وسلم لنتعرف عليه من الداخل , لنرى كيف الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته , كيف كان مع أهله و أزواجه , كيف كان يعامل خدمه و أبناءه ماذا يأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو فراشه و ملبسه , فهيا بنا نرحل معاً لزيارة بيت ٍ عاش فيه أعظم إنسان عرفته البشرية , ذاك البيت الذي أذهب الله عنه الرجس و طهره تطهيراً , ذاك البيت الذي كانت تتنزل فيه آيات الله و الحكمة , ذاك البيت الذي كانت تدف فيه أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأوي إليه أمهاتنا , أمهات المؤمنين اللاتـي اصطفاهن الله على نساء العالمين . إنه بيت النبوة , بيت الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه .

أيها الإخوة الكرام :

كيف كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي عاش فيه في المدينة , هل كان قصراً من القصور الفارهة , كتلك التي يسكنها الملوك و الزعماء و الرؤساء , هل كان يمتد على مساحه تصل إلى عشرات الكيلومترات , هل كان أمامه مساحات شاسعة من المتنزهات و الحدائق و المسابح , لا والله ما كان كذلك بل كان بيته صغيراً , لا باحات فيه و لا ساحات , ولا ملاحق و لا مقدمات بل كان منزله مكوناً من حجرات قليلة , في كل حجرة فيها تسكن إحدى زوجاته , وأول بيت نزل فيه في المدينة هو بيت أبو أيوب الأنصاري , ومن صغر مساحة ذلك البيت  كان لا يتسع للنبي وأبو أيوب في دور واحد فإذا سكن أحدهما لم يتسع المكان للآخر و بقي النبي في هذا البيت سبعة أشهر، أما فراشه تقول السيدة عائشة رضي الله عنها ( كان لنا حصير نبسطها بالنهار  و نحتجرها علينا بالليل ) وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير , فأثر في جنبه , فقلنا يا رسول الله , ألا آذنتنا فنبسط تحتك ألين منه فقال : ( مالي و للدنيا ؟ إنما مثلي و مثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فقال تحت شجرة ثم راح و تركها , فلم يكن ذلك البيت الذي انتشر منه الإسلام إلى أرجاء المعمورة لم تكن له غرف نوم و مجالس عربية من أغلى الأقمشة , كما هي حال بيوت كثير من المسلمين اليوم وفي هذا قالت عائشة رضي الله عنها تصف فراشة وأثاث بيته عليه الصلاة و السلام ( إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف ) و دخل عمر ذات يوم على النبي صلى الله عليه وسلم ووجده على حصير و تحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف , ورأى أثر الحصير في جنبه ، فبكى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يبكيك يا عمر ؟) فقال  يا رسول الله : إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله ، فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ فلم تكن زخارف الدنيا ومتاعها وأثاثها الفاني تهمه صلى الله عليه وسلم ، فقد اكتفى بالقليل منها ، وإنما كانت الآخرة هي همه الأول وشغله الشاغل ( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ) ..

وأما ملبسه عليه الصلاة والسلام فلم يكن بأحسن مما سبق ، فالتواضع هديه وخلقه لا يمتلك كثيراً من الملابس فقد روى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شمله ، أراد أن يتوشح بها فضاقت ، فعقدها في عنقه هكذا ، وأشار عبادة إلى قفاه ، ليس عليه غيرها . وروى ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان طول ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع وشبراً في ذراع وشبر ) ، هذا هو حاله صلى الله عليه وسلم فقد كان مقتصدا في كل جوانب حياته ، كيف لا وهو القائل : ( ليس لابن آدم حق سوى هذه الخصال : بيت يسكنه ، وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء ) .

أيها الأخوة الكرام : لا زلنا نتجول في بيت الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه ، فما هو طعام حبيبكم صلى الله عليه وسلم تقول زوجه السيدة عائشة رضي الله عنها كان يمر الشهر والشهران وما توقد في بيت رسول الله نار ، فلما سئلت علام كنتم تعيشون ؟ قالت على الأسودين التمر والماء ) وقالت:( ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية ، ولو شئنا لشبعنا ولكن نؤثر على أنفسنا )

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه ما عاب طعاماً قط إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه وتلك حكمه عالية ، ينبغي أن ينتبه لها كثير من الأزواج الذين يثورون ولا يهدأون ، وربما يتفوهون بكلمات لا تليق ، حينما يقدم لهم طعام لا يحبونه .

وهذا خادمه أنس - رضي الله عنه - يصف لنا شيئاً من معيشته صلى الله عليه وسلم  فيقول : ( لم يجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على الضفيف وقالت عائشة رضي الله عنها تصف حالته المعيشية ( ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين حتى قبض رسول الله ) بأبي أنت وأمي يا رسول الله عشت حياة الفقراء وسلكت طريق المساكين في مأكلك ومشربك فكنت خير قدوة للعالمين ..

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي عائشة فيقول : ( أعندك غداء ؟ ) فتقول : لا ، فيقول ( إني صائم ) .

واليكم أيها الأخوة الأحباب  هذا الموقف  المؤثر ، فلقد جاءت البنت الحنون فاطمة رضي الله عنها إلى أبيها صلى الله عليه وسلم بكسرة خبز ، فقال لها : من أين لك هذه الكسرة ؟ قالت ، قرصاً خبزت ، فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما إن هذا أول شي دخل فم أبيك منذ ثلاث أيام ) .

أيها الأخوة الأحباب :

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاً مثالياً ، فبالرغم من المهام والمسئوليات ، من تبليغ للدعوة إلى الناس ، وإدارة شؤون البلاد ، وقيادة الغزوات والمعارك ، وغيرها من المسئوليات لم تمنعه ذلك من أن يساعد زوجته في أعمال المنزل ، نعم أعمال المنزل، رسول الله صلى الله عليه وسلم يساعد زوجته في بعض أعمال المنزل فلقد أخبرت السيدة عائشة رضي الله عنها : ( كان يرقع ثوبه ويحلب شاته ، ويخصف نعله فإذا حضرت الصلاة خرج ) وعن الأسود قال : سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله – تعني في خدمة أهله – فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة ) وليس عيباً أن يعين الرجل أهل بيته ولا ينقص ذلك من مقداره شيئا وكان هذا الهدي منه صلى الله عليه وسلم تربية لرجال أمته في حسن التفاعل مع زوجاتهم .. وهو القائل صلى الله عليه وسلم : ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )

أيها الأخوة المؤمنون : لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله رحيماً مع الجميع متواضعاً ، كريماً بما فيهم الخدم ، فقد كان يعامل خدمه أحسن معاملة ، كما ذكر خادمه أنس ابن مالك قال : ( خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي : أف قط ، ولا قال لي لشئ لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا ) متفق عليه . ومن باب أولى معاملته لأزواجه فلقد كان نبيكم مثلاً أعلى وقدوة طيبة في حسن العشرة مع زوجاته ، كيف لا يكون ذلك وهو القائل : ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، وخياركم خياركم لنسائهم ) وقال أيضاً : ( ما أكرمهن إلا كريم وما أهنهن إلا لئيم ) فلقد كان عليه الصلاة والسلام يلاطف أهله ويداعبهم ، وكان يتلطف مع عائشة ويدعوها يا عائش ، وكان يسابقها فسبقته مرة وسبقها في أخرى ، يسأله عمرو بن العاص فيقول : أي الناس أحب إليك ؟  فيقول : عائشة . ولقد آثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه إذا أغضبت عائشة وضع يده على منكبها وقال : ( اللهم أغفر لها ذنبها وأذهب عنها غيظ قلبها وأعذها من الفتن )  

 أقول قولي هذا  .....

الخطبة الثانية :

الحمد لله ..

أيها الأخوة المؤمنون :

هذا هو بيت النبوة ، بيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وهذا طعامه وفراشه ولباسه ومعاملته لأزواجه وخدمه .. وهذا هو أسوتكم ، ولكن قد يقول قائل ما هو الهدف من سرد هذه التفاصيل الدقيقة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم  وقد يتساءل سائل هل تريدوننا أن نقتدي برسول صلى الله عليه وسلم ، نعيش في بيت صغير ، ونلبس الخشن من الثياب ، ولا نأكل أطايب الطعام ، وننام على حصير كما كان يفعل رسول الله ؟ وهذا هو المطلوب منا فنقول إن الهدف من سرد هذه الأوصاف والأمور هو :

أولاً : أن نتعرف عن تفاصيل حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وهذا من باب محبته فمن أحب شخصاً ، تعرف عليه وعلى حياته ومعاشه وجميع أمور حياته ، لذلك فإن دراسة هذه الأمور من سيرته تقوي في نفوسنا محبته صلى الله عليه وسلم .

ثانياً : إذا عرفنا كيف عاش رسولنا وكيف أكل وماذا أكل وماذا لبس نقارن حالنا بما كان عليه صلى الله عليه وسلم فنستشعر نعمة الله علينا فنؤدي شكرها ، ونؤدي حقها لله سبحانه وتعالى .

ثالثاً : لا يجوز لأحد أن يحرم ما أحل الله لعبادة ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق ) وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) فلا حرج أن يستمتع المؤمن بما أحله الله ولكن وهو ينال طيبات هذه الحياة لا بد أن يحذر أن يقع في الإسراف الذي حرمه الله ، كل مما أحل  الله لك دون إسراف والبس دون تفاخر وأسكن دون تبذير وإسراف  فلا ينبغي لك أن تأكل حتى التخمة ثم ترمي بكميات كبيرة من الطعام في القمامة ، بينما جارك يتضور جوعاً  فعش حياتك بلا إسراف ولا تبذير ..

تذكر وأنت تأكل أطايب الطعام أن هناك من البشر لا يجدون ما يأكلون تذكر وأنت تلبس أجمل الثياب أن من الناس من لا يجد ما يحميه من حرارة الصيف وبرد الشتاء ، تذكر وأنت تسكن أفخم البيوت أن هناك من الناس من يعيشون في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ..

رابعا : وأنت تعيش في الدنيا  وتستمتع بما فيها من الحلال لا بد أن يكون هدفك هو الآخرة ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا )

وصلوا وسلموا  .......  

خطبة جمعة 11 ربيع اول 1433هـ الموافق 2 فبراير 2012م بمسجد عمر حيمد بسيئون / القرن

(تسجيل صوتي)

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص