عبــــــــاد الله :
الحياء خلقٌ من أخلاق العظماء وهو خلق الإسلام الأول قال صلى الله عليه وسلم ( إنَّ لكل دين خلقاً ، وخلق الإسلام الحياء ) (موطأ مالك ، وسنن ابن ماجه ) .. والحياء خلق يبعث على ترك القبيح وعدم التقصير في حق الله ومراقبته وهو أن تخجل النفس من فعل كل ما يعيبها وينقص من قدرها ومروءتها وهو من الأخلاق الرفيعة التي أمر بها الإسلام وأقرها ورغب فيها وقد جاء في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : { الإيمان بضع وسبعون شعبه فأفضلها لا إله إلا اللّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان } وهو خلق توارثته النبوات وأمر به الأنبياء ووصى به العظماء قال صلى الله عليه وسلم : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) رواه البخاري .. وقد جاء سَعِيدِ بن يَزِيدَ الأَزْدِيِّ ، ذات يوم فقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْصِنِي ، قَالَ : أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ) (رواه الطبراني)وصححه الألباني .. قال الفاروق عمر رضي الله عنه : من قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ... و لما احتضر الأسود بن يزيد بكى فقيل له : ما هذا الجزع ؟ قال : مالي لا أجزع ؟! ومن أحق بذلك مني.. والله لو أُتيت بالمغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه مما قد صنعت ، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه ، ولا يزال مستحييا منه .. وقال مجاهد رحمه الله في قوله تعالى:( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) هو الرجل يخلو بمعصية الله فيذكر مقام الله فيدعها فرقا من الله.
إذا ما خلوت بريبة في ظلمة ... والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها ... إن الذي خلق الظلام يراني
والحياء مقرونٌ بالإيمان وملازمٌ للمؤمن كظله فإذا رفع أحدهما رفع الآخر قال صلى الله عليه وسلم ( الحياء والإيمان قرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ) (رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين) ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الخلق حياءً من ربه ومن الناس فقد روى البخاري أن أبي سعيد الخدري قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها" وهذا تشبيه لمراقبته صلى الله عليه وسلم لربه وخوفه منه وشعوره بالتقصير في حقه وكان مع الناس لا يأتي إلا بكل خير في قوله وفعله في نطقه وسكوته وفي فرحه وحزنه.
عبــــــــاد الله :
لقد حرص الإسلام على إشاعة خلق الحياء في المجتمع لصيانة الحقوق وحفظ الأموال والأعراض وللقيام بالواجبات وأداء الأمانات ونشر الفضائل ومحاربة المنكرات ولزيادة روابط الحب والتراحم والإخاء في المجتمع المسلم فقد اتفقت الشرائع الربانية والعقول السليمة والتجربة العملية على أن الحياء جدار وسياج يمنع الإنسان من ارتكاب القبائح والمنكرات روى مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم(الحياء كله خير)، وفي رواية: (الحياء لا يأتي إلا بخير).. فالمسلم الحيي يعلم أن له رباً يراه في كل حال فهو مستح منه فلا يراه في معصيته سبحانه ولا مقصر في واجباته قال تعالى ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وقال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) وإذا كان الأمر كذلك وجب على كل مسلم أن يتخلق بهذا الخلق في سائر حياته فالحياء في النعمة شكر لله عليها، .. مر عمرُ بن عبيد الله بن معمر بعبد يأكل عند بستان في المدينة وبين يديه كلب:إذا أكل لقمة أعطاه لقمة ,فقال له عمر بن عبيد الله : أهذا الكلب لك ؟؟ قال:لا قال: فلم تطعمه مثلما تأكل؟؟ قال: إني استحي من ذي عينين تنظر إليّ وأنا مستبد بمأكول من دونه .. قال: أحر أنت أم عبد؟؟قال:بل عبد لبني عاصم ... فأتى عمر ناديهم فاشتراه , واشترى البستان ,ثم جاءه فقال: لقد اشتريتك وأعتقتك لوجه الله ؟؟ قال : الحمد لله وحدة ولمن اعتقني بعدة ... قال: وهذا البستان لك .
قال :أشهدك انها وقف على فقراء المدينة ... قال : ويحك تفعل هذا مع حاجتك ؟
قال: إني استحي من الله أن يجود لي بشيء فابخل به على خلقه .
ويكون الحياء في المحنة تسليم وصبر، وفي القضاء إنصاف وعدل، ومع الوالدين والأرحام صلة وبر، كان زين العابدين على بن الحسين رضي الله عنه من أبر الناس بأمه وكان يخاف أن يأكل معها في إناء واحد فلما سألوه قال إني أستحي أن أمد يدي إلى لقمة قد سبق نظرها إليها .. وفي معاملة الضعفاء والأرامل والأيتام يكون الحياء عطف ورحمة ورفق، ويكون الحياء في الوظيفة وتقلد المناصب وتحمل المسئوليات أمانة ورعاية، وخوف وخشية من التقصير والتفريط .. عن عطاء بن أبي رباح قال : حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس أنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه يده على خده سائلة دموعه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ألشيء حدث ؟ قال : يا فاطمة ، إني تقلدت أمر أمة محمد فتفكرت في الفقير الجائع ، والمريض الضائع العاري المجهود ، والمظلوم المقهور ، والغريب المأسور ، والكبير ، وذي العيال في أقطار الأرض ، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم ، وأن خصمهم دونهم محمد فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت. .. و يكون الحياء في الرجال ورعٌ و جمال وزينة، وفي النساء عفة وطاعة وطهارة هذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : (كنتُ أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي فأضع ثوبي. فأقول: إنما هو زوجي وأبي. فلما دفن عمر معهم, فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر رضي الله عنه. فما أجمل أن يكون لنا من الحياء السياج الذي يحفظ علينا نور الإيمان، ويلبسنا ثوب التقى والطهر والعفاف ونكون به بين الناس مبعث نور، ومصدر برّ ومنار هدي، تتميز به شخصيتنا، وتظهر من خلاله ملامح عزتنا وكرامتنا. .. اللهم زينا بالتقى واحفظنا من الردى واغفر لنا في الآخرة والأولى
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
الخطــــبة الثانــية :
الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو بكل لسان محمود،
إذا لم تخـشى عاقبـة الليالي *** ولم تستحي فاصنع ما تشـاء
فلا والله ما في العيش خيـر *** ولا الدنيا إذا ذهـب الحيـاء
يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقي اللحـاء
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الإله المعبود صاحب الكرم والعطاء والجود. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليماً كثيرا أما بعد ً:-
عبــــــــاد الله :
يحدثنا ابن القيم رحمه الله عن عقوبة الذنوب والمعاصي فيقول: ومن عقوباتها- أي الذنوب والمعاصي- ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه..) فإذا سقط جدار الحياء رأيت صوراً متعددة لفساد الأخلاق والقيم في حياة بعض المسلمين اليوم من المجاهرة بالمعاصي فتجد الذي يتحدث عن بطولاته في التسكع في الشوارع ومضايقة نساء المسلمين والذي يفتخر بذكائه في جمع الأموال من السرقة والاختلاس والرشاوى ولا يحافظ على المال العام أو الأمانات التي تحت يديه لا يهمه الأمر ولا يبالي بالطريقة التي يكسب فيها لأنه فقد الحياء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام)( رواه البخاري) والذي يتحدث عن بطولاته في ظلم الآخرين وأخذ ممتلكاتهم بقوته وماله ووجاهته وخبرته وحنكته أو ذلك التاجر الذي يبيع ويغش في بيعه وربما رأيت ذلك الكاتب والصحفي والمذيع يفتري الكذب ويزور الوقائع ويقلب الحقائق وغير ذلك من السلوكيات .. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)) متفق عليه) ...
وكان الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: من استحيا استخفى ومن استخفى اتقى ومن اتقى وقي .. عندما سقط جدار الحياء الذي يمنع صاحبه من فعل القبيح من قلوب كثير من الناس وجدنا الابن يتجرأ على أبيه وأمه أي تعاسة وصل إليها هذا الإنسان وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ..وأين نحن من قوله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .. لقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حارثة بن النعمان يقرأ القرآن في الجنة ببره بأمه فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة قلت من هذا ؟ فقالوا : حارثة بن النعمان ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كذلكم البر كذلكم البر [ وكان أبر الناس بأمه ]
أيها المؤمنون/عبــاد الله
إن من ثمار خلق الحياء أنه يمنع صاحبه من فعل المنكرات وارتكاب الموبقات وبه تنال الدرجات وهو عنوان على صدق الإيمان وقوة الأخلاق وبه تتنزل الرحمات ومن ثماره أنه يؤلف بين القلوب وبه تصان الحقوق وتحفظ الدماء وتؤدى الأمانات وذلك لقيام كل فرد من أفراد المجتمع تجاه إخوانه وجيرانه وواجباته بما يملي عليه دينه وأخلاقه .. الحَيَاء يدفع المسلم إلى أن يقول كلمة الحقَّ و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر، قال تعالى: { وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }،. لأن فريضة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر سمة مِن سمات هذه الأمَّة قال عزَّ وجلَّ: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }... فلنتخلق بخلق الحياء ولنزكي به نفوسنا ونربي عليه أبناءنا وننشره في بيوتنا ومجتمعاتنا وذلك بمراقبة الله وأداء الفرائض والخوف من سوء الخاتمة والشوق إلى ما عند الله من نعيم والإقتداء بالأنبياء والعظماء وعلينا المطالعة في سيرهم وأخبارهم .. فنسأل الله أن برزقنا هذا الخلق وأن يجود علينا بفضله وكرمه وأن يؤلف بين قلوبنا على طاعته ...
هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين .
خطبة الجمعة 20/شوال/1433هـ الموافق 7/9/2012م مسجد عمر حيمد بسيئون