الحمد لله ...
أيها الأخوة المؤمنون :
هكذا تمر الأعوام سريعة ، بالأمس نستقبل عاما وها نحن نودعه في هذه الأيام ، ونستقبل عاما جديدا من أعمارنا ، فما أسرع مرور الأعوام والسنين ، تمر كأنها شهور ، فما أحوجنا اليوم ونحن نودع عاما راحلا ونستقبل عاما قادما أن نقف مع أنفسنا لنراجع حساباتنا هل ربحنا أم خسرنا ، فالتاجر الناجح هو الذي يراجع حساباته نهاية كل عام ويحسب الربح والخسارة وما أحوج المسلم كذلك أن يراجع حساباته نهاية كل علم ليعلم ماذا قدم خلال عام مضى لدينه ووطنه ومجتمعه وأمته.
دقــات قلب المــرء قائلــة لــه إن الحيــاة دقـــائق وثـــــوان
ان الوقت من نعم الله العظيمة، يتكرم فيه المولى سبحانه على العباد بفرص العمر، لعلهم يغتنمون الحياة الدنيا الفانية من اجل الفوز بالحياة الأخروية الباقية. فالعمر أوقات ، أيام وشهور وسنوات، والوقت أثمن من الذهب والماس. لأن المال يمكن ان يعوض او يستعاد ، لكن الوقت إذا مضى لا يعود ، فمن اغتنمه فقد اغتنم عمره وحياته، ومن أضاعه خسر الدنيا والآخرة. يقول الحسن البصري عليه رحمة الله : ( أيها الإنسان ، إنما أنت أيام ،كلما ذهب يومك ، ذهب بعضــك ) ، و بلسان الشاعر :
وما المــرء الا راكب ظهـر عمـــره على سفــر يفنيــه باليــوم والشهــــر
يبــيت ويضحـى كل يوم وليــلـــة بعــيدا عن الدنيـــا قريبـــا إلى القبــــر
وفي غفلة من الناس ، وعلى حين غرة ، يأتي الأجل، وحينها يتنبهون من غفلتهم ، ليدركوا قيمة أوقات العمر، ولكن هيهات ، فالجواب القرآني جاهز وصارم : ( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون) و قوله تعالى : (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، كلا، إنها كلمة هو قائلها ، ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون). وتزداد الحسرة يوم القيامة، وقد أزلفت الجنة للمتقين ، وبرزت الجحيم للغاوين. هنالك يدعو المضيعون لأوقات أعمارهم الدنيوية بالويل والثبور ، ويستجدون فرصة إضافية لعلهم يتداركون :
( ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير، فذوقوا فما للظالمين من نكير ) .وليس يتأسف أهل الجنة وهم في النعيم المقيم، إلا على ساعة من الدنيا لم يذكروا الله تعالى فيها.
وهل العمر مهما طال الا لحظات عابرة، ولكنها فرصة غالية ونعمة عظيمة، قد افلح من اغتنمها ، وقد خاب من أضاعها . يذكر في باب الموعظة ان ملك الموت سأل نوحا عند اجله: يا أطول الأنبياء عمرا، كيف وجدت الدنيا ؟ قال: وجدتها كدار لها بابان ، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر ).
أيها الأخوة الكرام الأعزاء :
وانه لمن السفه والغفلة إتلاف الوقت وتبديده، فذلك اشد وأوخم من إتلاف المال وتبذيره . وكل وقت ضائع فهو خسارة لجانب من مطالب الدنيا والآخرة . ومن المؤسف المؤلم أن تجد بعض المسلمين أكثر تبذيرا وتبديدا لاوقاتهم الثمينة، وهم على علم ويقين بما ينتظرهم يوم القيامة. تلك حال كثير من المسلمين الذين بهدرون الساعات الطوال في المقاهي والملاهي وألوان الفرجة في الأفلام والمباريات والسهرات وحول موائد الورق والشطرنج وغيرها .. لاهين عن ذكر الله وعن الصلاة ، متقاعسين عن صالح الأعمال للدنيا والآخرة. نعم لا مانع من قسط الترفيه والترويح بالضرورة وبغير إفراط ولا تفريط ،لكن المسلم العاقل الحازم الذي يجعل غايته الجنة ، يعلم أن طريقها جد وعمل واجتهاد ومثابرة ، واغتنام الأوقات بما يرضي الله تعالى من الصالحات وفعل الخيرات ، فيبادر ويسارع قبل انصرام العمر وحلول الأجل: { سارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } :
لا دار للمـرء بعد المـوت يسكنهــــا إلا التي كا ن قبـل المـوت يبنيهــــا
فان بناهــا بخيــر طــاب مسكنـــه وان بناهــــا بشــر خــــاب بـانيهـــــا
ومن النعم العظيمة التي يغفل عنها الغافلون، نعمة الصحة والفراغ، يجهلون قدرها ولا يؤدون شكرها، وهي فرص الأوقات التي تخلو من المشاغل والمعوقات المانعة من العمل للدين والدنيا والآخرة. كما في الحديث :( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) رواه البخاري . والغبن في التجارة خسران يبعث على الحسرة ، لكنه مع ضياع فرص العمر الزمنية أشد حسرة وألما. فماذا ينتظر من آتاه الله الصحة والعافية والفرص الزمنية المواتية ، بغير شاغل ولا مانع ، كي يغتنم ذلك في جد العبادة والعلم والعمل وفعل الخيرات . وما أكثر النادمين الذين يعيشون على الحسرة لما ضاع منهم زمن القدرة والاستطاعة ، وقد أصبحوا عاجزين مقعدين بالمرض او الشيخوخة او الموانع العديدة ، ولسان حالهم يقول :
ألا ليت الشبــاب يعود يوما فأخبــره بمـا فعل المشيــب
إن الفراغ لا يبقى فراغا أبدا، فلابد أن يملأ بخير او شر ، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل. وقد كان السلف الصالح يكرهون للمرء ان يكون فارغا ، لا هو في أمر دينه ولا في أمر دنياه ، وبذلك تنقلب نعمة الوقت والفراغ نقمة وندما على كل خامل مضياع. وما اشد خطر الفراغ والشباب والمال على عابدي الأهواء والشهوات :
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفســــدة
أيها الأخوة الفضلاء :
ان المسلم العاقل العامل ، يغتنم فرص عمره ، ويتحرك بجد وحزم وعزم لملء أوقاته بالطاعات والقربات وفعل الخيرات، ويسارع إلى مغفرة من ربه وجنات النعيم ، كما هو مأمور في كتاب الله وسنة رسوله . وهذا حث من النبي على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل حلول الموانع والمعوقات والفتن :
( بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا غنى مطغيا، أو فقرا منسيا ، او مرضا مقسدا ، او هرما مفندا، او موتا مجهزا ،او الدجال، فشر غائب ينتظر، او الساعة ، والساعة أدهى وأمر ) رواه الترمذي .
وإن استغلال الأوقات يتطلب التخطيط والتنظيم ومراعاة أنسب الأعمال لأنسب الأوقات، فليست كل الأعمال صالحة لكل وقت. قال ابو بكر لعمر (رضي الله عنهما) لما استخلفه: ( واعلم ان لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل ، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار).
ومن الآفات القاتلة للأوقات ، المانعة من حسن تدبيره واستغلاله : ـ أولها الغفلة التي تغشى العقول والقلوب والعزائم:( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ).ـ وثانيها التسويف ،وهو مرض التأجيل وترك المبادرة .وفي الحكمة المشهورة : ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) ـ وثالثها : طول الأمل بغير عمل ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون )..
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وسنة نبيه الكريم واجارنا من عذابه المهين أقول ما قد سمعتم ...
الخطبة الثانية :
أيها الأخوة المؤمنون :
عن ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك ) رواه الترمذي .
توجيه حكيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الى اغتنام النعم الربانية الخمس ، وهي فرص ثمينة في حياة المسلم الحريص على التزود من دنياه لآخرته :ـ نعمة الشباب ، وهي فرصة القوة والحيوية، وطوبى لشاب نشأ في عبادة الله.ـ ونعمة الصحة والعافية ، وهي فرصة القدرة والاستطاعة من اجل العمل قبل عوامل العجز. ـ ونعمة الغنى وهي فرصة الإمكانات المادية لفعل الخيرات. ـ و نعمة الفراغ وهي فرصة الزمن المتاح للعمل قبل المشاغل والفتن . ـ و نعمة الحياة ، وهي الفرصة الكبرى في دار الدنيا فبل الرحيل إلى الآخرة . فطوبى لمن تزود منها بخير الزاد { وتزودوا فان خير الزاد التقوى}.
نعم عظيمة وفرص مواتية وثروة زمنية غالية، جدير بكل عاقل أن يستثمرها بحسن التفكير والتدبير ، والطريق إلى ذلك أربعة أمور : أولها تنظيم الوقت بحسن التخطيط والبرمجة . وثانيها تحديد الأهداف بدقة حتى لا تستهلك الأوقات هباء . وثالثها : تحديد الأولويات حتى لا تضيع الأوقات الثمينة في الأمور الثانوية .ورابعها :المراقبة والمحاسبة بشكل دقيق لما يصرف من الأوقات اليومية.
والأصل في المحاسبة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن ترك لنفسه هواها، وسعى لها في تحقيق مناها وتركها من غير مؤاخذة ولا محاسبة، دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته. فمن أراد أن يخف حسابه غدا بين يدي ربه فليحاسب نفسه الآن. قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" رواه الترمذي وحسنه.
وقال عمر: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) ، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا.
يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب الشريك الشحيح شريكه: من أين مطعمه وملبسه؟".
وقال الحسن البصري : المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
فهلموا بنا ونحن في نهاية عامنا نتساءل عن عامنا كيف قضيناه، وعن وقتنا فيه كيف أمضيناه، وعن مالنا من أين اكتسبناه وفيما أنفقناه، وننظر في كتاب أعمالنا لنرى ما فيه سطرناه، فإن كان خيراً حمدنا الله وشكرناه وازددنا منه، وإن كانت الأخرى تبنا إليه واستغفرناه.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن من أكثر محاسبة نفسه ملك زمامها وخف حسابه عند الله، ومن ترك نفسه على هواها فوجئ بغدراته وخطيئاته، وكثرة هناته وزلاته .
فيا أيها الإخوة المؤمنون ، اغتنموا فرص أعماركم، واملأوا أوقاتكم بما فيه خير دينكم ودنياكم ، واحذروا آفات التبذير للأوقات ، وتذكروا ان الدنيا مزرعة للآخرة، وليس بعدها من دار الا الجنة او النار . واذكروا قول الله تعالى : (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى ، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى).
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .. وصلوا وسلموا......
خطبة الجمعة بمسجد عمر حيمد بسيئون – القرن
24/ ذي الحجة 1433هـ الموافق : 9/11/2012م