الحمد لله الذي قصم بالموت رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وقصّر به آمال القياصرة، الذين لم تزل قلوبهم عن ذكر الموت نافرة، حتّى جاءهم الوعد الحقّ فأرداهم في الحافرة، فنقلوا من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرّغ بالتراب، ومن أنس العُشرة إلى وحشة الوحدة، ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل، فانظر هل وجدوا من الموت حصنا وعزّا، وهل اتخذوا من دونه حجابا وحرزا، ( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
وأشهد أن لا إله إلا الله .. انفرد بالقهر والاستيلاء، واستأثر باستحقاق البقاء، وأذلّ أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء والصلاة والسلام على نبيه محمّد ذي المعجزات الظاهرة ، والآيات الباهرة، وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليما كثيرا.أما بعـــد:-
عبـــــــاد الله :
في صخب هذه الحياة وكثرت مشاكلها وصراعاتها وأحداثها المتتالية والمتسارعة ومخترعاتها ووسائل الترفيه وتقارب الزمان والمكان بين الدول والشعوب والحضارات بسبب تقنية العصر أصبح الكثير من الناس مندهش بهذه الحياة متعلق بها منبهر بتقلباتها وتحولاتها و إغراءاتها إلى درجة قد تفسد عندها القيم ويضعف الدين وتترك العبادات والطاعات وينسى الإنسان الهدف من خلقه ووجوده في هذه الحياة ومصيره بعد ذلك ولقائه بربه وهذا ما أصبح واقعاً في حياة الكثير من أبناء أمة الإسلام وأصبحت المادة هي التي تتحكم في حياتهم وأصبح الدينار والدرهم والمصلحة الشخصية الضيقة غايتهم سواء كانوا أفراداً ، حكاماً ومحكومين... عندها تضعف القيم وتختفي المبادئ وتفسد العلاقات وتضيع الحقوق و تهمل الواجبات ويظهر الكبر وينتشر الظلم ويفتقد المعروف من حياة الناس ويقل العظماء ويزداد السفهاء وعندها لن يكون إلا الشقاء في الدنيا والآخرة ومقت الله وغضبه وسخطه .. وهذه هي الغفلة التي حذر الله منها قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) ..
لذلك كان من وسائل الإسلام في تربية النفس وتزكيتها وتقويم اعوجاجها ووعظها وإصلاح الخلل الذي قد يعتريها تذكيرها بالموت والرحيل من الدنيا ولقاء المولى سبحانه وتعالى والاستعداد للحساب ... فالموت ما ذكر في قليل إلا كثره ولا كثير إلا قلله ولا في صغير إلا عظمه ولا في عظيم إلا حقره .. عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس وهم يضحكون فقال أكثروا من ذكر هاذم اللذات أحسبه قال فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه ولا في سعة إلا ضيقه عليه ) الموت سر الله في خلقه يسلطه على جميع خلقة (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) وعقيدة المسلم في الموت أنه أجل الله وسنته في خلقه وقدره في أرضه وسمائه وأنه لا يعلم موعده ومتى يأتي ويطرق أبواب العباد وينزع الروح من الأجساد إلا الله وأن الموت بيد الله وأنه لا يتدخل أحد في تعجيل موت إمرءٍ أو تأخيره ما لم يأتي أجله قال تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) .. يروى أن ملكاً من الملوك بنى قصراً وشيده وزينه، ثم انه دعا الناس لزيارته وقال: لجنوده من عاب منه شيئاً فأصلحوه، وأعطوه درهمين، فكان الناس يطوفون في هذا القصر وينظرون إلى غرفاته وشرفاته فلم يجدوا عيبا فجاء رجل فقير ضعيف في آخر الناس ولما هم بالخروج من ذلك القصر، سأله الجنود هل وجدت فيه عيبا فقال: هذا القصر فيه عيبان قالوا: ما هما، قال: إن هذا القصر لابد وأن يأتي عليه يوم و يتهدم وأن صاحبه سوف يموت ، فأتوا للملك وأخبروه، فبكى الملك، وذكر حاله، وقال لهم دلوني على قصر لا يهدم ولا يموت صاحبه قالوا إن هذا أيها الملك لا يكون إلا في الجنة . ..
وهذا هو حال الإنسان في هذه الحياة الدنيا مهما تعمر وتجبر مهما بنى و أعلا مهما ملك الدور والقصور مهما كان عنده من الذرية والأبناء والمنصب والجاه والسلطان لابد أن يأتي يوم يرحل عن هذه الحياة الدنيا وينتقل إلى الحياة الآخرة .. وهذا هو أمر الله ووعده من أول يوم عاش فيه الإنسان على هذه الأرض فعندما أهبط الله أبانا آدم وأمنا حواء إلى الأرض قال لهما: ( وَلَكُمْ في ٱلأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ )
عبـــــــاد الله :
إن على المسلم أن يكثر من ذكر الموت حتى تستقيم حياته وحتى لا ينسى مصيره ومآبه وحتى لا يطغى في الأرض وينسى لقاء ربه يوم العرض والله عز وجل يقول {تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} .. لقد وقف نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدوا ) وسأله عليه الصلاة والسلام رجل فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: ((أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)) وليحذر المسلم من طول الأمل والتسويف في العمل في هذه الحياة قال تعالى:( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ) وعلى المسلم أن يحسن الظن بالله وبرحمته مع إحسانه بالقيام بالأعمال والتكاليف الشرعية .. حينما أتى بلالاً بن رباح الموتُ قالت زوجته: واحزناه، فكشف الغطاء عن وجهه وهو في سكرات الموت وقال: لا تقولي: واحزناه, وقولي: وافرحتاه: غدا نلقى الأحبّة محمدًا وصحبه... ودخل المزني على الإمام الشافعي في مرضه الذي توفي فيه فقال له : كيف أصبحت يا أبا عبدالله ، فقال الشافعي : أصبحت من الدنيا راحلا, وللإخوان مفارقا , ولسوء عملي ملاقيا , ولكأس المنية شاربا , وعلى الله واردا , ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها , أم إلى النار فأعزيها , ثم أنشأ يقول :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلتُ رجائي نحوَ عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنتهُ *** بعفوكَ ربي كـان عفوك أعظما
فما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنبِ *** ولم تزل تجود وتعفو منّةً وتكرما
عبـــــــاد الله :
والمسلمون اليوم موقفهم من الموت والإستعداد له على صنفين اثنين فالصنف الأول هم أهل الغفلة وهم أكثر الناس قال تعالى عنهم (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) فنتج عن ذلك فساد الحياة وظهور الصراعات بين البشر وضعفت القيم النبيلة وساءت الأخلاق في النفوس وارتكبت المحرمات وسفكت الدماء واستطال الإنسان في عرض أخيه وماله وقلت الإلفة والمحبة وحل محل ذلك التقاطع والهجران .. ورد في الصحيحين عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: {أتي بمال من البحرين -جزية جاءته من البحرين- فعلم بذلك الأنصار، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلوا معه صلاة الفجر، جاءوا فسلموا عليه، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، حين رآهم، وقال( أظنكم سمعتم بالمال الذي قدم من البحرين، قالوا: نعم يا رسول الله، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أبشروا وأملوا ما يسركم، فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} إذاً: بسط الدنيا يتبعه غالباً التنافس عليها ثم الهلاك من أجلها، ويذهب الإنسان صريع الدنيا، وشهيد الهوى، .. بل رأينا جرأة عجيبة على حدود الله وسَيْرًا في طريق المعاصي والشهوات، وتهاونًا بالفرائض والواجبات، وظهر الإستكبار في الأرض والظلم والعدوان فترى المسلم يظلم أخيه المسلم ويعتدي على ماله والجار لا يأمن جاره والمسؤول لا يؤدي واجبه والمؤتمن يخون في أمانته وظهر الجبن والخوف والنفاق وموالاة الأعداء ظناً من هؤلاء أن هذا العمل سيكون سبباً في نجاتهم وبقاء ملكهم وسلطانهم ..
يأتي هارون الرشيد الخليفة العباسي الذي يتحدى السحاب، من على شرفات قصره يقول للسحابة: أمطري حيث شئت فإن خراجك سوف يأتيني يصرع في مصرع الموت وينظر إلى جيشه ويبكي وهو يقلب وجهه في التراب ويقول: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه. والله عز وجل يقول محذراً (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم
قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه....
الخطــــبة الثانـية : -
عبــــــاد الله :- و الصنف الثاني هم أناس أدركوا حقيقة الموت وأنه قدر الله النافذ فاستعدوا له بالعمل الصالح في الدين والدنيا فما فرطوا في العبادات وما تهاونوا في الواجبات وما تجرءوا على انتهاك المحرمات وإن وقعوا في ذلك فلا ترى منهم إلا توبةً وندماً واستغفارا .. لم يرهبهم الموت لذاته ولا لقسوته وكربته ولا لمفارقة الأهل والأولاد والأموال ولكنهم خافوا من التقصير والتفريط في حق الله وفي واجباتهم ومسئولياتهم ذكر ابن عساكر: أن أبا مسلم الخولاني المشهور بورعه وزهده وعبادته: قد انصرف يوماً إلى منزله فإذا جاريته تبكي فقال لها: يا بنيّة ما يبكيك؟, فقالت: ضربني سيدي ابنك, فدعا ابنه فقال: كيف ضربكِ؟ قالت: لطمني, قال لابنه: اجلس فجلس, فقال لها: الطميه كما لطمكِ, فقالت: لا ألطم سيدي، فقال لها: عفوت عنه؟, قالت: نعم، قال: لا تطلبينه في الدنيا ولا في الآخرة؟, قالت: نعم, قال: اذهبي حتى تشهدي على ما تقولين, فدعت رجالاً، فقال لهم أبو مسلم: إن ابني لطمها لطمة، فدعوتها لتقتصّ من ابني، فأبت ان تقتصّ، فزعمت أنها قد عفت عنه، لا تطلبه لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فكذلك؟ قالت: نعم, قال: أشهدكم أنها حرة لوجه الله,, فأقبل عليه بعض القوم، فقال: أعتقتها من أجل أن لطمها ابنك، وليس لك خادم غيرها؟, قال: دعونا منكم أيها القوم، ليتنا نفلت كفافاً، لا لنا ولا علينا .
ولم يلههم ذكر الموت والاستعداد له عن واجبهم ودورهم في تعمير الأرض وبناء الحضارات والسعي وراء الرزق وطلب العلم والبحث عن كل جديد والتأليف والاختراعات وتربية الأبناء والتمتع بنعم الله في هذه الحياة بالمباح وبما شرع الله ..
هذا عبدالله بن المبارك العالم العابد الزاهد المجاهد, حينما جاءته الوفاة إشتدت عليه سكرات الموت ثم أفاق .. و رفع الغطاء عن وجهه و ابتسم قائلا : لمثل هذا فليعمل العاملون .... لا إله إلا الله .... ثم فاضت روحه ..
و هذا عمر بن عبد العزيز الحاكم العادل الذي أسس دولة عظيمة امتدت من الصين شرقاً إلى بلاد الأندلس غرباً .. نشر العدل والعلم وراسل ملوك الأرض وجيش الجيوش وامتلأت خزائنه بالأموال حتى لم يجدوا من يأخذها وينتفع بها لكثرتها ومع ذلك ما غفل عن الموت لحظة فقد كان غزير الدمع خائفاً من تقصيره وتفريطه ... لما حضرته الوفاة قال لبنيه : يا بني , إني قد تركت لكم خيراً كثيراً ، لا تمرون بأحد من المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقاً ، يا بني ، إني قد خيرت بين أمرين , إما أن تستغنوا وأدخل النار , أو تفتقروا وأدخل الجنة ، فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إلي , قوموا عصمكم الله ، قوموا رزقكم الله ، قوموا عني , فإني أرى خلقاً ما يزدادون إلا كثرة , ما هم بجن ولا إنس ، قال مسلمة : فقمنا وتركناه , وتنحينا عنه , وسمعنا قائلاً يقول :(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ثم خفت الصوت , فقمنا فدخلنا , فإذا هو ميت مغمض مسجى ..). لذلك ينبغي الاستعداد للموت بالعمل الصالح وإقامة شرع الله والاستخلاف في الأرض كما أمر الله ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)
فأكثروا من ذكر الموت تستقيم حياتكم وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً قبل نزول الأجل وأحسنوا العمل وزوروا المقابر واعتبروا بحياة أهلها فإنها تذكركم بالآخرة ..
. فاللهم ارحم في الدنيا غربتنا وفي القبور وحشتنا وارحم موقفنا غدا بين يديك، واجعلنا من عبادك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ...
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ).
والحمد لله رب العالمين ..
خطبة الجمعة 22 /صفر/1434هـ الموافق 4/يناير/2013م
بمسجد عمر حيمد بسيئون القرن