الحمد لله ...
عبــــــاد الله :
الشائعات من وسائل الحروب والتدمير قديماً وحديثاً وهي من أخطر الأسلحة و من أقوى وسائل التدمير المعنوي والمادي للأفراد والمجتمعات والشعوب .. والشائعة هي نقل خبر مكذوب أو فيه جزء من الصحة فيضاف إليه ما ليس فيه وقد تكون الشائعة عبارة عن تهويل الأحداث وتضخيم الوقائع واختلاق الأخبار ونقلها بين الناس ونشرها بين أوساط المجتمع بقصد نشر الفوضى وإثارة الأحقاد وتفريق الصف أو الانتقام من شخص أو فئة أو جماعة وقد يكون سبب نشرها تحطيم الروح المعنوية وبث الرعب وزرع الخوف ، والشائعة لا تنتشر في بيت إلا دمرته ولا في مجتمع إلا أضعفته ولا في أمة من الأمم إلا مزقتها وفرقت أبناءها وقضت على مقدراتها .. بسببها دمرت الحياة الزوجية ، وبسببها حلت البغضاء والشحناء والعداوات بين الناس ، وبسببها سفكت الدماء وانتهكت الأعراض وقامت الحروب وهزمت الجيوش وتوقف الإنتاج وشاع الظلم وذهب الأمن وتفككت روابط المجتمع وضعفت الثقة بين أفراده .. وهي مصدر قلق للإنسان و تعاسته .. تنتشر بين الناس بسرعة مذهله ويتناقلونها دون تفكير أو روية .. خطرها كبير وآثارها مدمرة لذلك وقف الإسلام منها موقفاً قوياً وحاسماً فحذر منها وبين آثارها وأمر بحفظ اللسان ونهى المسلم عن الكذب وقول الزور وحذر من الغيبة والنميمة والقيل والقال وأمر بالتثبت من الأقوال والأخبار وعدم التسرع ، بل شرع الحدود التي تحفظ للإنسان دمه وماله وعرضه ورتب على ذلك كله بما أعده لعباده في الدار الآخرة من أجر وثواب أو من حساب وعقاب .. قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} .. و قال تعالى : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) .
فلا شك إن استشعار أمانة الكلمة و أن المرء مسئول عنهـا من أهم دوافع التثبت والتحرز قبل نقل أي حديث أو معلومة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع).. و عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الربا اثنان وسبعون بابا ، أدناها مثل إتيان الرجل أمه ، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه )).. و عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تؤذوا المسلمين ، ولا تعيروهم ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من اتبع عورة أخيه المسلم ، تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله )) رواه الترمذي وصححه الألباني .. قال ابن القيم : ( ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه !! حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا ينزل منها أبعد مما بين المشرق والمغرب ، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ،ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول !!! )
أيها المؤمنون / عبـاد الله :
الشائعات في المجتمع المسلم تعتبر سلاح المرجفين وبضاعة المفلسين وسلوك المنافقين وهي حرب قديمة فهذا نوحٌ - عليه السلام - اتُّهِم بإشاعة مِن قومه بأنه يُريد أن يتفضَّل عليهم؛ أي: يتزعَّم ويتأمَّر، ثم يُشاع عنه أنَّه ضال؛ ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
و هذا موسى - عليه السلام - يَحمِل دعوةَ ربه إلى فرعون وملئِه وقومه، فيملأ فِرعون سماءَ مصر ويُسمِّم الأجواء من حوله بما يُطلق عليه مِن شائعات، فيقول: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) ..
وهذا عيسى عليه السلام تشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمه الصديقة: {يا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}..
و يوسف -عليه السلام- نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف، {كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}...
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم تعرض لحرب الشائعات في دينه وشخصه وعرضه .. فقالوا عنه شاعر وكاهن وساحر ومجنون .. وأشاعوا بين العرب هذه الأوصاف ونشروا أتباعهم في الطرقات يصدون الناس عن دين الله وينفقون الأموال وفي المدينة تزعم المنافقون بث الشائعات والطعن في الدين وتفريق الصف المسلم وتخذيله وإضعافه .. بل فعلوا أكثر من ذلك وأشاعوا حادثة الإفك والطعن في عرض السيدة عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين وأحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكفل الله ببراءتها في آيات تتلى إلى يوم القيامة قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفك عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .
وهكذا في كل زمان ومكان تجد أن الشائعة واختلاق الأكاذيب ونقل الأخبار غير الصحيحة وتصوير الأمور على غير حقيقتها أصبح سلوكا يتصف أصحابه بالضعف وخبث النفس وقلة الحياء وانعدام المروءة وخساسة الهمة ولؤم الطباع قال تعالى (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ) ..
وفي معركةِ أُحد عندَما أشاع الكفَّارُ أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قُتِل، فضعفت الروح المعنوية للمسلمين، حتى إنَّ بعضهم ألْقَى السلاح وترَك القتال ..
عبــــــاد الله :
وإذا كانت الشائعة قديماً تنتشر وتأتي بمفعولها وتصل إلى أعداد من الناس بعد فترات طويلة وتتأثر بالبيئة والمكان وأعداد الناس الذين سمعوها وتناقلوها .. فإن الشائعات اليوم تنتشر بسرعة فائقة تفوق سرعة الصوت وسرعة الضوء ويكون انتشارها على مدى واسع وفي وقت قياسي وذلك بسبب الاتصالات الحديثة والشبكة العنكبوتية ( الإنترنت) وشبكة الهاتف الجوال والقنوات الفضائية والصحف والمجلات .. وكم من أخبار كاذبة ومعلومات خاطئة واتهامات باطلة وشائعات مغرضة تنشر في هذه الوسائل ضد أفراد أو مجتمعات أو شعوب أو دول ومع ذلك تجد الكثير لا يتثبت ولا يتحرى الصدق ولا يتأنى بل يشارك في نقلها ولا يدرك أن ناقل الكذب والمروج له هو أحد الكاذبين، لأنه معين على الشر والعدوان، ناشر للإثم والظلم، .. وفي سنن أبي داود أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: ( بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا ) (صححه الألباني) ، وهذه هي التي يسميها بعض الناس : "وكالة قالوا" دون تثبت أو فحص وتأكد ودون مراعاة للمصالح والمفاسد من وراء ذلك .. بل هو الخوض في أعراض الناس ودمائهم وأموالهم والذي يندم أصحابه يوم القيامة وهم يسألون عن سبب وجودهم في النار فأجابوا كما أخبر تعالى (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) فا للهم طهر ألسنتنا من كل سوء واحفظنا من كل زلل وتب علينا من كل ذنب يا أرحم الراحمين ..
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطــبة الثانيــة :
عبــــــاد اللـه :
ينبغي أن ندرك خطورة الشائعات ونقل الكلام دون تثبت في تدمير العلاقات وتأجيج الخلافات وافتعال الأزمات بل يتعدى خطرها إلى حياة المجتمعات والشعوب والأوطان فالشائعات التي يبثها المرجفون هي أحد أسباب زعزعة المجتمع وبث روح الكراهية والحقد وحدوث الفوضى والصراع بين أبناء الوطن الواحد وعلى اثرها قد تتعطل المصالح وتفسد الحياة ... و على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه و أن لا يتحدث بكل ما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بمثل هذه الشائعات لماتت في مهدها ولم تجد من يحييها .. وقد تكون بعض الشائعات حقائق أو أخطاء وقع فيها أفراد أو مجتمع أو مؤسسات وهنا يظهر المسلم الحق الذي ينظر إلى المصالح والمفاسد والخير والشر ويرد الأمر ويسال عنه أصحاب الرأي والمشورة والحكمة والإيمان والتقوى قال تعالى: {وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً} ..
وعلى المسلم أن يوثق صلته بربه فيدرك أنه ما من شيء يقع في الأرض ولا في السماء إلا بأمره وإرادته فهو يأوي إلى ركن عظيم فلا ترهبه الشائعات ولا تخيفه الأقاويل ولا تضعفه الأكاذيب والإفتراءات .. وعلى المسلم أن يتذكر موقفه بين يدي الله يوم القيامة عندما يفصل بين العباد ويقتص للمظلوم من الظالم .. وأي ظلم أعظم من افتراء الكذب على الناس ونقله من مكان لآخر قال تعالى (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ..)
فاللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .. اللهم طهر ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وخذ بنواصينا إل كل خير وأحفظ لنا ديننا ودنيانا وبلادنا وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ..
هذا وصلوا وسلموا..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خطبة الجمعة 23/6/1434هـ الموافق 3/5/2013م
للأستاذ / سالم عبود خندور بمسجد عمر حيمد بسيئون - القرن