كان رمضان خلال أيام خلت ملء أسماعنا وأبصارنا، عشناه يوما بيوم، وليلة بليلة،
وها هو قد انتهى بما أودعه العباد من أعمالهم؛ فمحسن ومسيء، ومقل ومستكثر، ومقبول
ومردود، وغدا في الحساب يوفى العاملون أجورهم.
لقد كان صوت رمضان مدويا في الآفاق، وشعائره بادية للعيان؛ فأحاديث الإذاعة عنه، وبرامج
التلفزة فيه، وأضاءت المساجد في ليله، وعجَّت المنائر بالقرآن يتلى، وبالدعاء يصعد
إلى السماء، وعاش المسلمون فيه أجمل اللحظات التي طربت فيها القلوب، وانشرحت
الصدور، وسحت العيون، بعد عام كامل من الانشغال بالدنيا وملذاتها، والغفلة عن ذكر
الله تعالى.
إن رمضان أشبه ما يكون بمستودع مليء بالإيمان والخشوع، والناس يغترفون منه زادا
لعامهم كله، فمنهم من أخذ حظه وافيا منه، ومنهم من رأى الناس يغترفون وهو لا يزيد
على أن ينظر إليهم.
في رمضان تاب عباد من خطاياهم، وعاهدوا الله
تعالى على أن لا يعودوا إلى العصيان بعد أن طعموا حلاوة التوبة والإقبال الله
تعالى، وتذوقوا لذة الخشوع والدعاء والقرآن.
وفي رمضان واظب عباد على صلاة الجماعة،
وداوموا على الصف الأول، ولم تفتهم التكبيرة الأولى؛ فعزموا على أن يكون هذا
دأبَهم العمر كله، والتبكيرُ إلى الصلاة له لذة لا يعرفها إلا أهلها.
وفي رمضان عرف كثير من الناس قيمة القرآن
الذي يهجرونه طوال العام؛ فاستمعوا آياته تتلى آناء الليل، ورتلوه آنا النهار،
فوجدوا في القرآن خير جليس: أيقظ قلوبهم، وشحذ هممهم للعمل بما ينفعهم، واجتناب ما
يضرهم.
وجدوا فيه وعيدا على معاص قد تلبسوا بها،
فعاهدوا ربهم على الإقلاع عنها، وقرءوا فيه جزاء عظيما على أعمال صالحة قد فرَّطوا
فيها، فعزموا على المحافظة عليها.
لقد تعلموا من القرآن ما لم يكونوا يعلمون،
ونبههم إلى ما كانوا عنه غافلين، فندموا على سنوات مضت هجروا فيها هذا الكتاب
العظيم، وعقدوا العزم على أن يكون لهم منه ورد يومي لا يتركونه مهما كلف الأمر.
وفي رمضان وجد كثير من المتهجدين لذة صلاة
الليل، ومناجاة الرب جل جلاله، والانطراح على بابه، والبكاء من خشيته ورجائه،
وطَعِموا حلاوة الاستغفار في أسحاره، فعلموا أنهم قد غفلوا عن هذا الباب العظيم من
الخير، وأن سهرهم أول الليل ونصفه، ونومهم آخره قد حرمهم هذه اللذة العظيمة،
فعزموا على أن يجاهدوا أنفسهم على قيام الليل، وأن يأخذوا بالأسباب المعينة على
ذلك؛ لئلا يُحرموا لذة مناجاة الرب في أفضل الساعات، وربنا تبارك وتعالى يَنْزِلُ
كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حين يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ
فيقول: من يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ له، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ
يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ له، كما جاء في الحديث الصحيح.
وفي رمضان انتشرت مظاهر الإحسان للخلق بتفطير الصائمين، وتلمس حاجات المعوزين،
وإيتاء الزكاة الواجبة، وإتباعها بصدقة النافلة، وأحس الصائم بجوع إخوانه الفقراء،
وعلم حاجتهم، ووجد لذة عظيمة في الإحسان إليهم، وإدخال السرور عليهم وعلى أسرهم
وأطفالهم، فكان سروره يزداد مع زيادة صدقاته وإحسانه، وودَّ ساعة إنفاقه لو ملك ما
على الأرض لا لشيء إلا ليحسن إلى إخوانه، ويدخل السرور إلى بيوتهم.
وكان قبل رمضان يشبع ويلبس ويركب ويترف، ولا
يأبه بغيره، لكنه لما رأى مظاهر الإحسان في رمضان أبت عليه نفسه إلا أن ينتظم في
سلك المحسنين، فوجد في الإحسان إلى الخلق ما لم يجده في لذيذ طعامه ولباسه ومراكبه
ومساكنه وزينته، فعزم على أن لا يقطع لذة الإحسان إلى الخلق، وأن يكون للفقير
والمسكين وذي الحاجة حظ دائم من أمواله التي وهبها إياه ربُه عز وجل. ولا سيما مع
علمه بحديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما
من يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فيه إلا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فيقول أَحَدُهُمَا: اللهم
أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)) رواه
الشيخان.
وفي رمضان حرص كثير من الناس على برِّ والدِيْهم، وإدخال السرور عليهم بمجالستهم
ومنادمتهم، فرأوا من سرور والدِيْهم بهم ما غفلوا عنه من قبل بمشاغل الدنيا،
ومطالب الأهل والولد، فعزموا على أن يعطوا والديهم حظهم منهم، وأن يكون لهم معهم
جلسات مرتبة لا يتخلفون عنها أو يؤجلونها مهما كلف الأمر؛ لعلمهم بعظيم حقهم
عليهم، حتى إن الله سبحانه ذكر حقهم مع حقه تعالى؛ لأنهم السبب الأول بعد الله
تعالى في وجودهم في هذه الدنيا {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].