الحمد لله ...
أيها الإخوة المؤمنون :
أرأيتم لو أن أرزاق الناس وآجالهم بيد بشر منهم ، فكم يحصل في الأرض من الظلم والبغي والفساد ؟ ما ترك الله تعالى ذلك للخلق ، ولو ترك إليهم إذاً لظلم بعضهم بعضاَ ونسي بعضهم بعضاَ،وغفل بعضهم عن بعض ،فأرزاق الناس وآجالهم بيد من لا يظلم ولا ينسى ولا يغفل ، جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ..
وقضية الرزق من حيث الإيمان به جزء مهم من الاعتقاد في الله تعالى فالله سبحانه وتعالى تكفل با رزاق الخلائق ،مهما كانوا وأينما كانوا ، مسلمين أو كانوا كافرين ، كباراً أو صغاراً ، رجالاً ونساء ، إنساً أو جناً ، طيراً أو حيواناً ، قوياً أو ضعيفاً ، عظيماً أو حقيراً.
روى الشيخان من حديث عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال حدثنا رسول الله r وهو الصادق المصدوق قال :( إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ، ثم يكون علقه مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات : برزقه وأجله وشقي أو سعيد) فقضية الآجال والأرزاق محسومة لا يزاد فيها ولا ينقص فيها ، ولن يموت حي حتى يستكمل ما له من رزق وما له من عمر .
وإن العبد إذا أيقن بأن الأجل محدد ، وإن الرزق مقدر ، وأطمأن قلبه بذلك ، فانه لن يجزع من فقر أصابه ، أو جائحة أتلفت ماله ، ولن يشغل نفسه بالدنيا عن عمل الآخرة ، لأنه يعلم أنه مهما سعى واجتهد وأجهد نفسه فلن يكسب إلا ما كتب الله له ، والمؤمن الحق الذي يفهم قضية الرزق فهماً صحيحاًً ، لن تستشرف نفسه ما في أيدي الناس ،ولن تتطلع ما في خزائنهم ، ولن تمتد يده إلى حرام . مهما كلفه الأمر لعلمه أن الذي خلقه سيرزقه
ولن يبث شاكيته للناس لعلمه أنهم لا يرزقون أنفسهم فضلاً عن أن يرزقوا غيرهم ، ومن أخل بذلك فهو ضعيف الإيمان ، ولا سيما إذا كان يقرأ ويفهم قول الله سبحانه وتعالى ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) ويقرأ قول الحق عز وجل :( وفي السماء رزقكم وما توعدون) لقد حذرنا النبي r من أن تتعلق قلوبنا بتحصيل أرزاقنا فننسى الله تعالى والدار الآخرة ، وننشغل عن العمل الصالح بالجمع والتحصيل ، ولربما شحت نفوسنا عن أداء حق الله تعالى في أموالنا وامتدت أيدينا إلى ما لا يحل لنا فنكون كالذي يأكل ولا يشبع ويجمع ولا ينتفع نعوذ بالله من نفوس لا تشبع ومن قلوب لا تخشع . وعن جابر بن عبدلله رضي الله عنهما أن رسول الله r قال ( لا تستبطئوا الرزق فانه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له فأجملوا في الطلب، أخذ الحلال وترك الحرام) صححه ابن حبان والحاكم.
أيها الإخوة الكرام الأعزاء :
وكما في الرزق يقال في الأجل ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) ولما أصاب المسلمون ما أصابهم في احد من المصيبة والقتل وأظهر المنافقون مقولاتهم المرجفة وقالوا : ( لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا هاهنا) فكان الجواب (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) ولما فرض الله تعالى الجهاد على المؤمنين وقال من قال منهم ( لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) قال تعالى:( قل متاع الدنيا قليل , والآخرة خير لم أتقى ولا تظلمون فتيلا ، أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) وروي الترمذي وصححه من حديث أبي عزة يسار بن عبد – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله r : ( إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجه ) فلا يملك الأجل إلا الله ، ولا يرزق الاحياء إلا الله ، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ، إنها جمل مفيدة ويسيرة ، ومفهومة ، يفهما العامي من المسلمين وعلى الرغم مما وصلت إليه البشرية من تقدم وعمران ، وما تفرزه كل يوم من عجائب وبحوث ، ودراسات متخصصة في الطب وفي الاقتصاد ، فان بحوثهم ودراساتهم تقف عاجزة عند قضيتي الرزق والأجل فذلك ليس للبشر وإنما هو من خصائص رب العالمين ، وخالق الناس أجمعين .
أيها الإخوة الأفاضل : قدَّم أبو بكر ماله كله، وقدَّم عمر نصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة، ومات خالدٌ ولم يترك إلا القليل من المال، رضي الله عنهم وأرضاهم، وتوفي صلاح الدين - رحمه الله تعالى - وما ورَّثَ إلا بضعة دراهم، وغيرهم كثير؛ كانوا ينفقون في سبيل الله - تعالى - ولا يخافون الفقر. أرأيتم لو أن قضية الرزق شغلتهم، وأنهم خافوا على أولادهم الفقر والعيلة أكانوا يفعلون ذلك؟!
وقتل في أُحُد سبعون من خيار الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - وقضى أبو أيوب الأنصاريُ - رضي الله عنه - في غزو القسطنطينية، ودُفن تحت أسوارها، ومات أبو طلحة الأنصاري - رضي الله عنه - غازيًا في البحر، فما وجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام ولم يتغير!
وتاريخ المسلمين زاخرٌ بنماذج كانت تطلب الموت مظانه، وتقدمُ أرواحها رخيصة في سبيل الله – تعالى - فلو أن أولئك لم يكن عندهم إيمان راسخ بأن الأجل مكتوب، وأن الحي لا يموت حتى يستكمل عمره؛ لاشتغلوا بالحفاظ على أنفسهم وصيانتها بدل تعريضها للمخاطر والموت.
ومن استعجل الرزقَ بالحرام مُنِع الحلالَ؛ رُوِي عن علي رضي الله عنه أنه دخل مسجد الكوفة فأعطى غلامًا دابته حتى يصلي، فلما فرغ من صلاته أخرج دينارًا ليعطيه الغلام، فوجده قد أخذ خطام الدابة وانصرف، فأرسل رجلا ليشتري له خطامًا بدينار، فاشترى له الخطام، ثم أتى فلما رآه علي رضي الله عنه، قال سبحان الله! إنه خطام دابتي، فقال الرجل: اشتريته من غلام بدينار، فقال علي رضي الله عنه: سبحان الله! أردت أن أعطه إياه حلالا، فأبى إلا أن يأخذه حراما!.
وقال مورق العجلي: يا ابن آدم تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص عمرك وأنت لا تحزن، تطلب ما يطغيك وعندك ما يكفيك.
جلس إبراهيم بن ادهم رحمه الله يوما ووضع بين يديه بعضا من قطع اللحم المشوي فجاءت قطة فخطفت قطعة من اللحم وهربت،فقام وراءها واخذ يراقبها فوجد القطة قد وضعت قطعة اللحم في مكان مهجور أمام جحر في باطن الأرض وانصرفت فازداد عجبه وظل يراقب الموقف باهتمام وفجأة خرج ثعبان أعمى فقأت عيناه يخرج من الجحر في باطن الأرض ويجر قطعة اللحم إلى داخل الجحر مرة أخرى،فرفع الرجل رأسه إلى السماء وقال سبحانك يا من سخرت الأعداء يرزق بعضهم بعضا.
قيل للحسن البصري: ما سر زهدك في الدنيا؟ فقال:علمت بأن رزقي لن يأخذه غيري فأطمأن قلبي له. وعلمت بأن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به . وعلمت أن الله مطلع علي فاستحييت أن أقابله على معصية. وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله.
قال الشاعر :
يا من بدنياه أشتغل * * و غره طول الأمل
أولم يزل في غفلة* * حتى دنا منه الأجل
الموت يأتي بغتة* * والقبر صندوق العمل
اصبر على أهوالها * * لا موت إلا بالأجل
أقول ما تسمعون ..
الخطبة الثانية :
أيها المؤمنون :
إن الأمة اليوم أصيبت بداء أسمه الإفراط في الخوف على الرزق والأجل ، وفرطوا في كثير من أمور دينهم حفاظاً على الرزق والأجل وعطلوا كثيراً من الأشياء خوفاُ على الرزق والعمر ، فيا سبحان الله ، أنسي هؤلاء أن الرزق بيد الله ؟ أنسى هؤلاء أن الأمر بيد الله ؟ وليس بيد مخلوق يخشون ظلمه وسطوته فالرزق والأجل ليست بيد رئيس ولا وزير ولا مدير ، ولا يستطيع أحد منهم أن يأخذ ما كتب الله من الرزق ولا أن ينقص من عمرك ولو لحظة واحدة .
ولما كثر هذا في أفراد الأمة المسلمة وانتشر فيما بينهم الخوف على الرزق والأجل ، خرست الألسن عن قول الحق خوفا على الرزق أو خوفا من تقدم الأجل وأحجمت النفوس عن ميادين الكفاح ونصرة الحق حفاظاً على النفس من العطب وخشية على الأولاد من اليتم والعاله.
وبسبب هذا الحرص أحجم الكثير عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يرون أوضاعهم تتدهور وهم صامتون خوفاُ إلا من رحم الله ، يرون ثرواتهم تنهب من بين أيديهم وهم صامتون خوفاُ وجزعاً ، يرون الدماء تراق والأنفس تزهق وهو صامتون جامدون ، ولهذا صمت أصحاب الحق وأهله عن حقهم ، أنتفش أهل الباطل مع باطلهم وأصبحوا يروجون لباطلهم عبر الإعلام الرسمي ، وأصبح لهم زبانية ومهرجين يزينون هذا الباطل ويدافعون عنه ، مستخفين بعقول الناس بل أصبح للباطل والاستبداد علماؤه ، وهؤلاء الذين فرقوا وماجمعوا ومزقوا وما وحدوا وجاملوا وما صدعوا ، داهنوا وما نصحوا ,,
أيها الإخوة الكرام الأعزاء :
لا بد للمسلم أن يكون قوياً في قول الحق والصدع دفاعاً عن الأمة وخيراتها والوطن ومكتسباته ، انطلاقاً من قوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف .... )ولا بد للمسلم الحق ، المسلم القوي أن يعلن براءته من الباطل قبل اندحاره ، ونصرته للحق قبل انتصاره فكما أننا تعتقد يقيناً أن بعد الظهر العصر . وبعد الظلمة يبزغ الفجر فان بعد البغي والظلم يأتي النصر ... فقد مض الكثير وما بقي إلا القليل وذهب الذي عليكم وجاء الذي لكم فثقوا بنصر الله واستشعروا الثواب والأجر واحذروا أن تؤتوا من داخلكم فان الشجرة تصمد أمام الريح العاتية ، فإذا دخلها السوس سقطت أمام النسيم الخفيف واعلموا عبر التاريخ أن أهل الحق لا يهزمهم الباطل وإنما تهزمهم ذنوبهم ومعاصيهم (أو لما أصابتهم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) فالله الله في ترك الذنوب والمعاصي ، وتمسكوا بفعل الطاعات وعمل الخيرات وترك المنكرات فإنها مما يقربكم إلى ربكم عز وجل .
وصلوا وسلموا
(تسجيل صوتي)