حضرموت
اليوم /
قال سيد قطب: "والرحلة
من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير تربط بين عقائد
التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبيين- صلى
الله عليه وسلم- وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعًا وكأنما أريد
بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله, واشتمال
رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعًا فهي رحلة ترمز إلى أبعد من
حدود الزمان والمكان, وتشمل آمادًا وآفاقًا أوسع من الزمان والمكان، وتتضمن معاني
أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى" (ظلال القرآن (4/2212)).
وقال ابن عاشور:
"وفائدة ذكر مبدأ الإسراء ونهايته بقوله" من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى "أمران: أحدهما: التنصيص على قطع المسافة العظيمة في جزء ليلة لأن
كلاًّ من الظرف وهو "ليلاً" ومن المجرورين "من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى" قد تعلق بفعل "أسري" فهو تعلق يقتضي المقارنة ليعلم
أنه من قبيل المعجزات.
وثانيهما: الإيماء إلى
أن الله تعالى يجعل هذا الإسراء رمزًا إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع
التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم عليه السلام الصادر من المسجد الحرام إلى ما
تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس، ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة
أيضًا" (سبل الهدى والرشاد (3/31)).
قال ابن أبي جمرة:
"والحكمة في إسرائه أولاً إلى بيت المقدس، لإظهار الحق على من عاند, لأنه لو
عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح فلما
ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس سألوه عن أشياء من بيت المقدس كانوا رأوها وعلموا
أنه لم يكن رآها من قبل فلما أخبرهم بها حصل التحقق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى
بيت المقدس في ليلة وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره".
يقول د. الصلابي في
أوجه الربط بين المسجدين:
1. أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، إذ
أصبح مسرى رسولهم- صلى الله عليه وسلم- ومعراجه إلى السماوات العلى، وكان لا يزال
قبلتهم الأولى طيلة الفترة المكية، وهذا توجيه وإرشاد للمسلمين، بأن يحبوا المسجد
الأقصى، وفلسطين لأنها أرض مباركة مقدسة.
2. الربط يشعر المسلمين بمسئوليتهم نحو المسجد
الأقصى، بمسئولية تحرير المسجد الأقصى من أوضار الشرك وعقيدة التثليث، كما هي
أيضًا مسئوليتهم تحرير المسجد الحرام من أوضار الشرك وعبادة الأصنام.
3. الربط يشعر بأن التهديد للمسجد الأقصى، هو
تهديد للمسجد الحرام وأهله، وأن النيل من المسجد الأقصى توطئة للنيل من المسجد
الحرام، فالمسجد الأقصى بوابة الطريق للمسجد الحرام وزوال المسجد الأقصى من أيدي
المسلمين، ووقوعه في أيدي اليهود يعني أن المسجد الحرام والحجاز قد تهدد الأمن
فيهما واتجهت أنظار الأعداء لاحتلالهما.
والتاريخ قديمًا
وحديثًا يؤكد هذا، فإن تاريخ الحروب الصليبية خير شاهد على ذلك، وفي التاريخ
الحديث، لقد وقف دايفيد جوريون زعيم اليهود بعد دخول الجيش اليهودي القدس قال في
خطابه الناري: لقد استولينا على القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب.
ووقفت جولدا مائير
رئيسة وزراء اليهود بعد احتلال بيت المقدس، وعلى خليج إيلات العقبة تقول: إنني أشم
رائحة أجدادي في المدينة والحجاز، وهي بلادنا التي سوف نسترجعها.
وبعد ذلك نشر اليهود
خريطة دولتهم المنتظرة التي شملت المنطقة من النيل إلى الفرات بما في ذلك الجزيرة
العربية والأردن وسوريا والعراق ومصر واليمن والخليج العربي كله (السيرة النبوية (1/276)).
ويقول أستاذنا الشيخ
علي متولي: "وكانت الرحلة الكريمة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لتصبح
هذه المساجد وتلك المقدسات تحت الحماية الإسلامية وموضع التكريم والتهيئة للعاكفين
والركع والسجود، فقد مضى بذلك عهد الجاهلية "للبيت رب يحميه"، وجاء عهد
الفاعلية المجاهدة "ومن مات دون دينه فهو شهيد". أترانا قد عدنا
جاهليتنا الأولى إذ تقاعسنا عن تحرير المسجد الأقصى من أيدي اليهود والخنازير؟ إن
جهادهم قد أمسى فريضة على كل مسلم، فأين نخوة الرجولة عند الحكام؟ وأين هبة الجهاد
عند الشعوب؟ وأين أمانة المقدسات التي وضعها صاحب الإسراء في أيدي الأمة؟
إن الله عز وجل لن
يرسل الطير الأبابيل لدحر أبناء الخنازير ومن عبدة الطاغوت وقردة البشر ونحن
متخاذلون أو نشبههم في رجسهم وعريهم، وفسقهم ورباهم بل قد نفوقهم، بل هم قد
يحافظون على أخلاق أبنائهم، ونحن ندمر شبابنا بالإذلال والتجويع وتخييب الآمال
وفتح سماوات الجنس والفجور وتكميم الأفواه وكبت الحريات، والمسجد الأقصى لن يحرره
إلا: عباد أولو بأس شديد ينثالون من
المساجد ومن بين أوراق المصاحف وآي الذكر الحكيم، وإخباته السجود وعزائم الرجال
ومحاريب الطهر وقداسة الحرم، وعالي الهمة وعنيف الإعداد وبراعة التدريب (وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال: من الآية 60). ليس عبثًا أن
يسرى برسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلال هذه المقدسات والرموز الإيمانية، لأنه-
صلى الله عليه وسلم- الوارث لرسالات السماء ومقدسات الإسلام، ليضعها أمانة في أيدي
أمته فمن وفي فله عز الدارين... (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً
غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: من الآية 38) (واحة الإسلام (ص
28 ) للشيخ علي متولي).
* وتأمل بعض العلماء
في الربط في الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فقالوا: إن المسجد الحرام
بمكة هو رمز للإسلام دين الله عز وجل، وبيت المقدس هو رمز لحال المسلمين، فما يجري
في تلك الأرض هو علامة صحوة المسلمين أو غفلتهم، فالأقصى وأهله في رباط إلى يوم
الدين، وبمقدار تفاعلنا وانشغالنا به يكون مقدار تقربنا إلى الله عز وجل أو بعدنا
عنه.
* يقول د. محمد عمارة:
"القرآن الكريم قد جعل الربط بين القدس وبين الحرم المكي الذي هو قبلة الأمة
الخاتمة، آية من آيات الله وليس مجرد رباط سياسي أو إداري، يقيمه فاتحون وينقضه
غزاة (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) (الإسراء: من الآية 1)، فكان الإسراء
إسراء الله بعبده ورسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعروجه من الصخرة
إلى سدرة المنتهى، الإعلان الإلهي عن ختم هذه الرحلة القدسية لخطوات الأنبياء
والرسل على طريق الله وعن حمل أمة الرسالة
الخاتمة أمانة الجهاد في سبيل الحفاظ على مقدسات كل الرسالات تلك التي تجسدها
مدينة القدس قبل غيرها، وأكثر من غيرها من المدن والبقاع. ولقد شهد التاريخ بأحرف
من نور على وفاء الأمة الإسلامية بهذه الأمانة التي أرادها الله، والتي رمزت إليها
رحلة الإسراء، والتي سلمها إياها عمر بن الخطاب، فغدت القدس منذ ذلك التاريخ مشاعة
القداسة، مفتوحة الأبواب لكل أبناء رسالات السماء" (زاد الخطيب إلي تحرير
الأقصى الحبيب).
* ويقول الشيخ يوسف
جمعة سلامة: "إن الله سبحانه قد قرر في كتابه في صدر سورة الإسراء قرارًا
ربانيًّا بإسلامية بيت المقدس بصفة خاصة وفلسطين بصفة عامة، وسيبقى هذا القرار إلى
قيام الساعة، وأنه لواجب أن نذكر ونتذاكر معًا ارتباط المسلمين الوثيق بالمسجد
الأقصى وهذه البلاد.
من هذه الارتباطات:
* الارتباط العقدي،
ويتمثل ذلك جليًا في أمرين:
الأول: حادثة الإسراء
والمعراج: حيث إن الإسراء معجزة من المعجزات والمعجزات في الشرع جزء من العقيدة
الإسلامية، فارتباط المسلمين بهذه البلاد هو ارتباط عقدي.
الثاني: أن بيت المقدس
سيكون إن شاء الله أرض المحشر والمنشر للحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه عن ميمونة
رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله: أفتنا في بيت المقدس. قال: "أرض
المحشر والمنشر. ائتوه فصلوا فيه"، هذا هو الارتباط العقدي لمليار ونصف مسلم
لمسرى نبيهم وقبلتهم الأولى بالمسجد الأقصى المبارك.
* وأما الارتباط
الثاني فهو الارتباط التعبدي، ويتجلى ذلك في أمور منها:
أولاً: أن المسجد
الأقصى كان قبلة المسلمين.
ثانيًا: أن الصلاة في
المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة كما جاء في الحديث الصحيح.
ثالثًا: أن المسجد
الأقصى هو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال.
* وهناك ارتباط تاريخي:
حيث إن العرب سكنوا هذه البلاد منذ قرون طويلة.
والارتباط الحضاري: فكل
عمارة ومسجد تدل دلالة واضحة على صنع المسلمين من أقواس ومحاريب للصلاة وغير ذلك
في هذه البلاد المباركة (المصدر السابق ص 80)