خطبة الجمعة ٢٤ نوفمبر ٢٠١٧
للاستاذ : سالم عبود خندور
بمسجد عمر حيمد بسيئون
للاستماع للخطبة النقر على الرابط :
https://e.top4top.net/m_6937s5gy0.mp3
الخطبة النصية :
الأسوة النبويّة
٦ربيع الأول ١٤٣٩هـ
الموافق: ٢٤ نوفمبر ٢٠١٧م
أيها الاخوة المؤمنون :
لقد عشنا معكم في الجمعة الماضية مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي أول خطبة في سلسلة ( مع الحبيب ) التي وعدناكم أن نتناولها خلال هذا الشهر والأمة تعيش ذكرى ميلاد الحبيب الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه ، وكلما أطلت علينا هذه المناسبة فاننا نتذكَّرُ تباشيرَ مبعثِهِ وفرحةَ الدنيا به صلى الله عليه وسلم. وحيناً نتذكرُ سيرتَهُ وأحداث حياته وخصاله صلى الله عليه وسلم. وحيناً نتحسَّرُ على واقعنا المرِّ حين نقارنُهُ بذلك الزمنِ النبويِّ المبارك.ولكنَّ هناك معنىً قد يغيبُ عنّا رغمِ ضرورتِهِ وأهميتِهِ.. ذلك المعنى هو ( الأسوة النبوية ) وهو موضوع خطبتنا اليوم ، أن نستحضرَ (الأسوةَ النبويةَ) في وظائفنا الحياتية ، ومواقفنا الدنيوية، ليكونَ لنا صلى الله عليه وسلم أُسوةً ومرشداً وهادياً.وما منْ وظيفةٍ يتولاها المرءُ، ولا حالٍ يكون عليها إلا وهو يجد في حياةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنتِهِ ما يصلحُ أن يكون له أسوة ومثالاً.
أيها المؤمنون :
لو كان أحدُنا حاكماً لوجدَ له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً ومثالاً. سيجدُ فيه أسوةً في العدلِ والمساواة بين الناس.. فقد سرقتْ امرأة مخزومية شريفةٌ في عهده صلى الله عليه وسلم، فأهمّ قريشاً أمرها، فانتدبوا أسامة بن زيد حِبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟) ثم قام فاختطب فقال: «يا أيها الناس، إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها»، [رواه الشيخان].. وسيجدُ الحاكمُ فيه صلى الله عليه وسلمَ أسوةً في العفةِ عن المال العام: ومن صورِ تعففه صلى الله عليه وسلم عن المال العامِ أنّه سماه (مال الله) لينزعَ نسبته إلى أحدٍ من الخلق، عن خَوْلةَ الأنصاريَّة أنَّها سَمِعتْ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: (إنَّ رجالاً يتخوَّضون في مالِ الله بغير حقٍّ، فلهم النارُ يومَ القيامة) [رواه البخاري] وقد غضب صلى الله عليه وسلم على ابن اللُّتَبِيَّةِ رضي الله عنه حين ظنّ أن له حقاً في المال العام! فجاء بمال الصدقة فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي! فخطبَ صلى الله عليه وسلم في الناس وقال: ( فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر يهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته). [رواه البخاري] ..
وسيجدُ الحاكم في المصطفى صلى الله عليه وسلمَ أسوةً في الشورى الحقيقية لا الوهمية وعدم الاستبداد بالرأي. وقد ضربَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مثلاً رفيعاً في الشورى يوم أحد حين نزل عن رأيِهِ وهو النبيُّ المرسلُ إلى رأي جمهرةِ الصحابةِ الذين رأوا الخروجَ لملاقاة قريش ومن معها. وضرب مثلاً آخر قبله حين أخذ يوم بدرٍ بمشورة الحُباب بن المنذرٍ فجعل الآبار والقُلُب وراءه. وقد دوّى صوتُهُ صلى الله عليه وسلم يومها وهو يقول مراراً: (أشيروا عليّ أيها الناس).وأمتنا تعيش اليوم غيابا للشورى في أغلب بلدانها ، تعيش زمن (الفرعنة) المعاصر، شعارها (ما أريكم الا ما أرى) وما وصلت أمتنا الى ما وصلت اليه من التأخر الحضاري الا بسبب تغلغل الاستبداد فيها ، وأصبح الحاكم هو الكل في الكل الرأي رأيه والأمر أمره ، يولي من يشاء ويعزل من يشاء ، ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، ويسجن من يشاء ويقتل من يشاء ..
أيها الاخوة الكرام :
ولو كان أحدنا أباً لوجد له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً ومثالاً سيجد فيه أسوةً في رحمةِ الصغارِ.. ويالها من رحمةٍ أبوية! فعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما، فوضعهما بين يديه، ثم قال: "صدق الله: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي فرفعتهما" [رواه ابن حبان]... ولو كان أحدنا زوجاً لوجَدَ له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً ومثالاً سيجدُ الزوج فيه صلى الله عليه وسلم أسوةً في إعلان الحبّ. فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام عن خديجة: ( إني قد رزقت حبها) [ رواه مسلم ]. وكان صلى الله عليه وسلم يقف المواقف التي يعلم منها حبه لأزواجه صلى الله عليه وسلم، واليكم هذا الخبر الطريف. عن أنس رضي الله عنه أن جارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسيا كان طيب المرق فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء يدعوه، فقال صلى الله عليه وسلم: ( وهذه؟) [ يعني عائشة ]. فقال الفارسي: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وهذه؟). فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. ثم عاد الفارسي يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وهذه؟). فقال: نعم في الثالثة. فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله. [ رواه مسلم] ..
أيها الأحبة :
ولو كان أحدُنا (صديقاً) فإنَّهُ سيجدُ في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً ومثالاً. سيجد فيه صلى الله عليه وسلم أسوة في صدق المحبة والوفاء للأصدقاء أوليس القائل: (ما تحابَّ الرجلان إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه)؟ وحين وقع بين أبي بكر وعمر ماوقع، وأبى عمر أن يغفر لأبي بكر، تمعَّر وجهه صلى الله عليه وسلم حتى أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله إلى عمر ما يكره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي)؟
ولو كان أحدنا مديراً لادارة أو مسؤولاً عن مؤسسة أو قائداً لمجموعةٍ فإنّه يجد في المصطفى صلى الله عليه وسلم أسوةً ومثالاً. سيجدُ فيه أسوةً في تشجيع الجادِّ المنتجِ من أعضاء الفريقِ، وهذا مايسميه خبراء التربية اليوم بالتحفيز.. فقد قال لعثمان رضي الله عنه يومَ جهز جيش العسرة: ماضر عثمانَ مافعل بعد اليومِ، وقال لطلحةَ يومَ وقف مواقفه العظيمة يوم أحدٍ: هذا يومٌ كله لطلحةَ. وسيجد فيه أسوةً في التفويض الفعال وتوزيع المسؤولياتِ وفق الطاقات والقدراتِ، فالمتتبع لسيرةِ الصحابةِ يجد أن منهم من وُكل بقيادة الجيوش، ومنهم من وكل بكتابةِ الوحي، ومنهم من أسندتْ إليهم مهمة الترجمةِ، ومنهم من كلف بإحصاء أموال الصدقاتِ، وفيهم من عُهد إليه بتوثيق المعاملاتِ بين الناسِ، وهكذا... وعلى كل حالٍ ..فإنه ما من وظيفةٍ في حياةِ الإنسان إلا وهو يجد في سيرته صلى الله عليه وسلم أسوةً لها، وقدوةً تعينُ شاغلها. وصدق الله إذ يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ).
أقول قولي هذا ...
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون :
كل ما سبق نماذج على (حالاتٍ وظيفيّة) نعيشها في حياتنا. ولكنّ الأسوة النبويّة لا تقتصرُ على هذا، بل تتجاوزُهُ إلى المواقف العارضة، والأحداث العابرة، فمهما كان الموقف الذي عرض لك فإنك ستجد في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم أسوة ترشدُك إلى وجه الصواب فيه، واليك موقفاً لايكادُ يسلمُ منه أحدُنا.. أن يسيءَ إليك أحدٌ، ماذا تفعلُ حينها؟ هاك ما فعله حبيبك صلى الله عليه وسلم بهبّار بن الأسود، كان هبارٌ رجلاً شديد الوطأة والأذى للنبيّ صلى الله عليه وسلم، شتمه، وهجاه، وقاتله، وحرض عليه. بل اقترف جريمة عظمى لم يقترفها أحدٌ من المشركين قط ، فقد كان سببا في موت أحد أبناء المصطفى صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه نخس زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء هجرتها من مكة إلى المدينة بسهمٍ في يده وهي حاملٌ فأسقط جنينها، ومع ذلك.. فإن هباراً لما ضاقت به الأرض ولم يجد أمامه سبيلاً سوى أن يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الصحابة، فلما رآه القوم تحفزوا، فأشار إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ يجلسوا، ووقف هبارٌ وقال: السلامُ عليك يانبي الله، أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولقد هربت منك في البلاد، وأردت اللحاق بالأعاجم، ثم ذكرتُ عائدتك وفضلك وصلتك وبرك وصفحك عمن جنى عليك، فاصفح عني. فماذا فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ لقد غلبه ما جبل عليه من الحلم والتسامح، فقال: (قد عفوتُ عنك، وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجبّ ما قبله) .. فيا اخواني : .. هل نستحضر النماذج النبوية في حالاتنا ومواقفنا .. ومرةً أخرى نقول: صدق الله العظيمُ: (لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) .
وصلوا وسلموا