كانت مهمة مستحيلة.. على مدى أشهر طوال، كان رأيي أن
يتحدث الفريق «علي محسن صالح» إلى الناس بما تنبغي إجابته
من الأسئلة الصعبة المثارة، فهو الجنرال الأكثر إثارة للجدل في
اليمن، والأكثر عرضة للاتهام، حتى الذي يستدعيه غضبه للتدوين
في وسائل التواصل الاجتماعي لا يجد حركة وإثارة إن لم يوجه
غضبه وسخطه نحو هذا الرجل.
ولد «علي محسن» في ١٩٤٥م، ولما كان يرتفع في صلاة الظهر من
السجود إلى القيام، لم يتكئ على كفيه كما فعلت، وأنا أصغر منه
بـ35 عاماً، حيويته الجسدية مذهلة، حضوره الذهني متقد،
وتجربته العميقة لأعقد مشاكل اليمن تمنحه دوماً تلك الحاجة التي
تجبر المهتمين على الاستماع إليه. حذّر من داخل صنعاء من نوايا
الحوثيين احتلالها، وهوّن الإعلام المحلي، ومنظمات المجتمع
المدني، واليساريون الذين قرأوا الكثير من الكتب القديمة من
تحذيره، وجعلوها «أحقاداً شخصية»!، كان صمته في تلك
اللحظات الكبرى، والأيام العصيبة مثيراً لشهية الإعلام المتآمر.
العسكرية التي دارت حولها حياته شكّلت هذا الصمت، ومع اقترابه
من السياسة العلنية في أولى ساعات بيانه لـ«حماية المحتجين»،
لم يتخلّ عن صمته، ولما احتل الحوثيون العاصمة فعلاً، كان يقاتل
بصمت.
اسمه وصفته هكذا: الفريق الركن: علي محسن الأحمر، نائب
الرئيس اليمني، ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة اليمنية، ليس
له لقب باذخ، كالزعيم أو القائد، أحياناً يوصف بـ«الفندم» وهي
مفردة تركية EFENDIM وتعني «السيد»، درج الجيش اليمني
على استعمالها في مخاطبة قادته.
هذه المرة، كنت بمطار الملك خالد، استقبل صديقاً جاء لتوه من
عاصمة الضباب لندن، جئته مرغماً، وكنت ممدداً على سرير
المرض، لزمتني حمى طارئة، ودهمني إعصار من العرق، واحتقان
جاف في الأنف والحنجرة، كان الهواء يدخل ويخرج إلى رئتيّ
جافاً مثل ريح الصحراء، وعند ظهيرة الأربعاء الماضي قادني هذا
الصديق إلى حيّ السفارات، كان ضيفاً على سفير اليمن لدى
الرياض، تركته عند بابه ومضيت أسأل عن نائب الرئيس اليمني،
وتلمست طريقاً مفاجئاً للسلام عليه بعد طول غياب، فسُمِح لي.
دُرت دورتين أو ثلاثاً، وتجاوزت جادتين، وفي أقل من عشر
دقائق كنت أطفئ محرك سيارتي بمرآب مجاور لمقر إقامته
المؤقت في العاصمة السعودية الرياض.
استقبلني «محمد المسعودي» المرافق الشخصي الأشد إخلاصاً له،
وطفق -كعادته- يجر ضحكات متقطعة بينما نتحدث عن أحوال
عادية، اجتزنا المنزل الداخلي الأول، ودرنا حول مسبح أرضي
مرصع بحجارة زرقاء، وصولاً إلى المبنى الذي يسكن بداخله الفريق
محسن، وقد ألفيته لدى الباب الرئيسي وخلفه يظهر مدير مكتبه
الدكتور إبراهيم الشامي، وسألته ضاحكاً من بعيد عن طريقته
المفضلة في المصافحة. ملت برأسي إلى اليمين قليلاً وأردفت: إنه
زمن كورونا. ومد يده هازئاً يدعوني للاقتراب، ثم تصافحنا،
وجلسنا حول منضدة مصنوعة من سعف النخل، كانت الظلال
تحيط بتلك البقعة الهادئة، وحفيف أشجار «البوتس» المتسلقة
يضفي بهاءه الرطب على جو الظهيرة الذي بدأت حرارته بالتراجع
مع اقتراب فصل الشتاء.
ولم أشأ أن أبدو جاداً في الدقائق الأولى، تجاوزنا التحايا
الصغيرة، وطفقت أسرد مواقف طريفة صادفتها على طريق
عودتي من البحرين إلى الرياض، لا أتذكر كيف وصلنا لذلك، ولكنه
كان مستمعاً جيداً، وعلى شفتيه ابتسامة هادئة، ثم تراجعت،
كبحت جموحي الدائم بالكلام، وتركته يسأل، وكنت أجيب. ثم
أدرت السؤال الأول: ما الذي جعلك جمهورياً صلباً هكذا؟
لحظة.. لا، ليس سؤالاً في حوار، بل دردشة أستمع فيها لصوته من
الداخل، أردت أن يحادثني كصديق، وأن أكسب ثقته، لأكتب دون
عدائية مسبقة، وقد طلب في نهاية اليوم تأجيل ذلك، لأحظى
بأيام أخرى، وأقوال أوسع، وتفاصيل أكثر بياناً عن مواقف تبدو
غامضة، فيفسرها بصفته الشاهد أو الفاعل، ولم أستجب، كتبت
دون تحيز، ضده أو معه.
وقد رد على سؤالي المصلوب أعلاه، قائلاً: كل من شهد يوماً من
أيام الإمامة قبل سبتمبر ١٩٦٢م لم يجد بُداً من اكتساء صلابة
المقاوم الشرس في مواجهة أي محاولة لإعادة تلك العصابة إلى
السلطة. ورمقني بعينين واسعتين، منبهاً بكف مفتوحة: عصابة
وليسوا حكاماً أو أئمة.
وسألته: فما بال الذين رأيناهم جمهوريين ثم ساروا إلى الحوثي
مثل قطعان تائهة؟.
وأجاب: هي العقيدة!، وزويت حاجبيّ متسائلاً، فأضاف: عقيدة
الحرية والإيمان بأنك إنسان لك حقوقك وآدميتك، فهناك من يقول
إنه جمهوري ثم يتبعها بانتمائه إلى الإمامة! وشدد على عبارته
قائلاً: ضدان لا يلتقيان الإنسانية والإمامة.
هل هذا عداء مذهبي؟ لم أسأله ذلك، لأنه رأيي أيضاً.
مثلت الزيدية الهادوية في اليمن قمة الإرهاب الفكري المسلح، فقد
تناوب أئمتهم على ذبح اليمانيين في جرائم بشعة وجماعية، كانت
كل أفعالهم ضد الإنسانية، بأيدٍ «فارسية» متحمسة للقتل
والإبادة، مآسي أرهقت أجيالاً متعاقبة من أسلافنا، ومن حسن
حظنا اليوم أو سوئه أن تلك المذابح دُوِنت بفخر في كتبهم
وبأقلامهم، وكأنها مآثر خالدة!
وماذا أيضاً؟
هذا هو الحوثي يسير على نهج أسلافه، وبذات اليد المغلولة إثماً
تاريخياً في ذبح اليمانيين، وأشار «محسن» إلى حرب ثوار ٢٦
سبتمبر ١٩٦٢م مع الجانب الإمامي الذي تزعمته أسرة «حميد
الدين» قائلاً: لم تكن تلك حرباً عقدية، بل سياسية، أما حربنا
اليوم فإنها خليط من العقدية والإنسانية والوجودية. وأعاد ظهره
إلى الوراء قليلاً، كمن يريد أن يختم جملة مفيدة: إن ما نواجهه
يندرج في إطار عسكرة الحوثي للمذهب، وعولمة الهادوية الزيدية
والاثنى عشرية بخلطتها الجديدة، إنما هو نسخة أكثر دموية عما
واجهناه في اليمن طول قرون سابقة، ولم يشد انتباه أحد.
كنت أتفهم حديثه بهزات راضية من رأسي، ثم حسبته يتململ،
لكنه وقف، ووقفت معه، درنا حول حديقة منزله الصغيرة، تشدني
أطراف كلام عابر عن سيرته القديمة.
أشار «الفندم» إلى مشاركته في هزيمة الميليشيا الإمامية التي
حاصرت صنعاء سبعين يوماً قبل 53 عاماً، وقتذاك، كان جندياً
بكتيبة المشاة متنقلاً في مناطق تسمى «الجرداء، وأرتل، وبيت
بوس».
سألته: هل كان «علي عبدالله صالح» معك؟
لا، كان في كتيبة أخرى، المدرعات.
هل شارك حقاً في المعركة كما يقال، فهناك من شكك بذلك؟!
نعم، شارك بقوة وفاعلية.
من كان قائدك المباشر؟
العميد علي عبدالله العرار، ونائبه اللواء الراحل محمد عبدالله
صالح -رحمهما الله- الذي أصبح قائدا لقوات الأمن المركزي.
ورغبت أن أسأله عن «طارق» نجل قائده الأول، إلا أن شاباً نحيلاً،
ظهر من ظلفة الباب الخشبي فجأة، أشار بكفه إلى الداخل، قائلاً:
الغداء جاهز!
تقدمت برفقة مدير مكتبه، وقد تجاوزنا «الفريق محسن» قليلاً،
وكما جلسنا متحلقين حول طاولة خشبية عتيقة الطراز، تحلقت
المأكولات اليمنية المعتادة بتواضع حول «السلتة»، كان الخبز
دافئاً مثل مشاعر الذين شاركونا الغداء، إضافة إلى ثلاثتنا أنا
والفريق محسن ومدير مكتبه، شاركنا الصديق أحمد أبو سالم
(سكرتيره الصحفي) جلس إلى يميني صامتاً، كانت عيناه
متوثبتين لحديث إضافي على الغداء لكني شاركته صمتاً متقطعاً،
وفي نهاية الوليمة الشهية اكتشفت أن «محسن» يعشق طعام
«الفتّة» وهي فتافيت صغيرة من الخبز معجونة بالعسل اليمني،
تلك وجبتي المفضلة في الصباح، وأحياناً أشتهيها بالحليب
والسمن، وقد عزفت عنها مؤخراً حتى أستعيد جزءاً من رشاقة
فقدتها مبكراً.
صعد «نائب الرئيس» إلى غرفته، وبعد نصف ساعة كان قد تهيأ
معنا لصلاة العصر، ثم دعاني إلى مكتبه، وقعدنا نحتسي الشاي،
سألته في الرشفة الثانية، كيف كان وقع اغتيال الرئيس السابق
علي عبدالله صالح عليك؟ تاهت عيناه في سقيفة المكتب المطرز
بدوائر متشابكة، فيما بقي كأس الشاي معلقاً بين أصابعه، قبل أن
يجيب:
كان علي عبدالله صالح منذ طفولتنا أخاً لي، ولم يمر يوم سيئ
عليّ كما يوم اغتياله، كانت فاجعة، وصدمة قاسية، وقد حذرته،
أرسلت إليه أربع عشرة نصيحة حال قرر فعلاً خوض الحرب مع
الحوثيين، أولاها أن ينسحب إلى منطقة حصينة خارج العاصمة،
وثانيتها ألا يفصح لأحد عن مكانه لأن رأسه أهم ما في المعركة،
وثالثتها عدم قبول أي واسطة مهما بدت مسالمة لأنها خدعة تريد
كشف موقعه والاطلاع على استعداداته، ورابعتها أن يتم التواصل
بين قيادات المعركة بهواتف محصنة من الاختراق.
سألته مقاطعاً، قبل أن يكمل سرد نصائحه، لماذا لم تتدخلوا
عسكرياً لإنقاذه؟
قال بحزن ساخر، قيادات مؤتمر صنعاء كلها طالبتنا بعدم التدخل،
كان مبررها أن أي تدخل مباشر من الجيش أو التحالف العربي
سيفقد «صالح» زخماً شعبياً قد يستفيد الحوثي منه لتأليب الناس
عليه خصوصاً إذا وقع خطأ غير متوقع في دقة الضربات الجوية!
إنها خُدعة، سألته مستنكراً..
مع الأسف لقد كانت كذلك، وقد حاولت إيضاح ذلك أكثر من مرة،
لكن يبدو أن القرار بعدم التدخل بناء على طلب مباشر ورجاء
متصل من قيادات مؤتمر صنعاء قد ألقى بأثره على الأحداث
المؤلمة.
هل كان علي عبدالله صالح مع التدخل؟
نعم، لقد طالبني بذلك.
عاتبته محتداً هذه المرة: كان عليكم إنقاذه!
كان الرأي السائد هو الامتثال لمطالب من هم في الميدان،
لمعرفتهم الكاملة بكل ما يدور، على أمل الفوز.
وماذا عن طارق؟
ما به؟
هل تواصلتم معه حينها؟
لا، كان التواصل مع الزعيم عبر شخصية موثوقة ومقربة منه.
والآن هل تتواصلون مع طارق؟
طارق اليوم جزء من المقاومة البطولية المشرفة في مواجهة
الحوثيين ومشروعهم العنصري المسيء للفطرة والكرامة والحرية
والقيم السوية، ونحن نرحب بكل جهد وكل قدرة وكل بندقية في
هذه المعركة التي نخوضها نيابة عن الإنسانية، وذلك ما أكده
فخامة الرئيس مراراً في أكثر من مناسبة.
وابتعدنا عن «صالح» وعائلته، ذهبنا إلى معركة اليوم، سألته
وطيف ارتعاشة يسري في جسدي: هل مأرب في خطر؟
كانت خارطة المعارك الدائرة حول عاصمة إقليم سبأ أمامه،
خارطة تفصيلية دقيقة باسم المدن والقرى والعزل والمخاليف
والطرقات، وعليها الكثير من الإشارات والعلامات الملونة، كان
«علي محسن» ينظر إلى غضبي بإشفاق، فأنا كسائر الرأي العام لا
أملك معلومة واضحة المعالم، وكل الأخبار التي تأتيني إنما أجتهد
للحصول عليها من أصدقاء هناك، كان السؤال لا يزال معلقاً قبل
أن يجيب الرجل الذي حشد أغلب المشاهدين للحرب ظنهم باتهامه
بالتقصير، قائلاً: التراجع الذي تعرضت له المعركة لم يكن في نهم
أو الجوف وحسب، بل في سائر الجبهات، من الجوف حتى الضالع،
وتعز ومحاولة إدانة شخص واحد وتحميله مسؤولية ما حدث أمر
غير منطقي، لقد قمنا من ناحيتنا بإقالة ستة قادة عسكريين
وأحلناهم للتحقيق، ثم ظهر بعضهم في وسائل التواصل لاتهام
قيادات في الشرعية بتسليم مديريات بعينها إلى الحوثي، وهذا
محض افتراء.
وتركته يتحدث، كنت بحاجة إلى كل حرف، وكلمة أنقلها
بمسؤوليتها الإيجابية إلى الناس، ليقرأوا المشهد كما حدث فعلاً،
كان «نائب الرئيس اليمني» يتحدث بصدق، وقد لمست ذلك،
الكلمات الحقيقية لا تستطيع إدانتها، لأنها شفافة مثل رائحة
زكية، في هذه الإجابات الدقيقة لم يبد الرجل تحفظاً أو يطلق
تصريحات كارثية كأي سياسي جديد لا يعي عمق الأحداث
وارتباطاتها وخطورة الكلمة ووقعها، لكنه «علي محسن» عقود من
السلطة، والنفوذ والمعرفة الدقيقة بتفاصيل اليمن، كان كل شيء
فيه وحوله له نكهة يمانية لا تخفى، مثل شجرة دم الأخوين، أينما
ذَهَبت، وغُرِست، فإن نموها من جديد يشير إلى أرض واحدة لا
سواها، إلى اليمن.قال لي: الدولة حين تسقط، وفي ظل الفضاء
الإعلامي المفتوح يصبح من الصعب السيطرة على أمزجة الناس
وأطماعهم وتأويلاتهم الفجة، الجميع يريد أن يصبح «رئيساً»!
وندت منه ضحكة ساخرة، كان يتألم، يريد للعقل أن يعود
من إجازته الطويلة، قلت له: لن تستطيع إلغاء النفس البشرية
ومآلاتها من الغيرة وحب المال، والشهرة، وطلب النفوذ. نظر إلي
في سكينة وصمت، ثم أردف هامساً: للسلطة باب واحد، وأشار
إلى صورة معلقة في واجهة مكتبه للرئيس عبدربه منصور هادي،
قائلاً: الناس، وذلك يعني الانتخابات، وللوصول إلى هذا
الاستحقاق العظيم يجب أن تسقط أوهام الحق الإلهي. ورفع
سبابته منبهاً، وأضاف: ليس لأننا ضد هذا الوهم، بل لأنه ليس
نظاماً ولن يكون قانوناً، ولن يقيم دولة، فمن يحتل صنعاء اليوم
مجرد عصابة كسائر العصابات التي تحكمت في تلك الجغرافيا
قديماً.
عاد «علي محسن» إلى ذاكرته، بعد أن طرق سؤالي بابها، إذ قلت:
لماذا لم يسمعك الناس أو النخب والأحزاب يوم كنت تحذر من
احتلال صنعاء، ومعك قلة لم يصغ إليهم أحد؟
لقد أُفرِغ الناس دعائيا من المواجهة، وكانت سنوات ما قبل ٢٠١١
مكرسة للنيل مني، بالشائعة أحياناً، وبالإعلام الذي أتيحت له كل
الحرية، فلم يعد بالإمكان كسب القناعات لأنها تشوشت، وضمائر
البعض بيعت بالمال، وكنا على حافة حرب سابعة لم تمكننا من
تجميع قواتنا المدربة كما يجب، وهذا ما جعل كل من يقرع
أجراس الخطر مجرد رجل مزعج.
وتبسم الرجل قليلاً، وحكى قصة قديمة، ففي عام ١٩٩٧م، كان
برفقة «نائب الرئيس هادي» في لقاء رسمي، وقد أبلغ الحاضرين
باختيار شخصية أكاديمية من الحديدة لتولي منصب نائب رئيس
الجامعة، فأشار أحد «السُلاليين» باستخفاف إلى الرجل، قائلاً
بازدراء: أتختارون هذا التهامي؟! حينها اشتعل «محسن» غضباً
وصاح بصوت هادر: إنها ثورة ٢٦ سبتمبر منحت اليمانيين حق
التعليم وساوت بينهم، فلا سيد ولا عبد. فابتلع العنصري لسانه
على مضض، وفوجئ «عبدربه منصور هادي» بتلك الحِدة
الصارخة. بعد أعوام طويلة ذكّره الرئيس «هادي» بالموقف قائلاً:
لم أكن أفهم لماذا استفزك تعليق ذلك السُلالي، وظننت رد فعلك
مبالغاً فيه، لكني اليوم أصبحت واعياً لهذا الخطر العِرقي الذي
يرفض انتماءه لليمن، وأكثر إدراكاً لما واجهته المناطق الشمالية
اليمنية من جور الإمامة وبطشها وأحقادها وعنصريتها
وأبرقت إلى الفريق «محسن» ملاحظة قرأتها ذات يوم، أسندت
ظهري إلى كرسي الخشب ذي القوائم الأربع، وقلت: السياسة التي
تعبث بالثوابت ليست سياسة، بل مكيدة، فمتى شعرت بتلك
«السياسة» إبان حروب الدولة مع الميليشيا الحوثية؟
كان كوب الشاي لا يزال بين أصابعه، ارتشف رشفة طويلة،
ووضعه على آنية نحاسية مطرزة بحواف ذهبية، وكأنه استسلم
للذكريات، فطفق يروي:
كنا في طريقنا برفقة الرئيس الراحل إلى السعودية لأداء العمرة،
وعرجنا إلى جامع «الهادي» في صعدة، وكانت خطبة جمعة،
فصلينا، ثم فوجئنا عقب الصلاة بأفراد يتشنجون ويصرخون
بصرختهم المعهودة، حتى كاد الأمر يتطور إلى اشتباك مسلح
بينهم وحراسة الرئيس التي شعرت بالخطر الأمني، ثم غادرنا
والأسئلة الحائرة تطرق رؤوسنا بقلق مستمر.
وسألته مضطراً: هنا، هل عرضتم الأمر على القيادة السعودية،
وطلبتم مشورتها ودعمها؟ قاطعني بالنفي الحاسم، مشيراً إلى أن
الحوثيين لم يكونوا حينها مشكلة مؤرقة للنظام في صنعاء حتى
نُقلق الأخوة في المملكة بهم.
وعلى سيرة السعودية، سألته: كيف تراهم ويرونك بعد سبع
سنوات من اندلاع عاصفة الحزم؟ أجابني وقد اكتسى وجهه جدية
لم آلفها طوال هذا اللقاء العابر: نحن معهم، وهم معنا، دماؤنا
ودماؤهم نزفت على أرض المعركة في تضحية واحدة، وهدف
واحد، وقضية لا تعرف الهزيمة، وشدد على عبارته بالنصح ونقل
ما يلزم إلى كل من له قلم في اليمن أن يلتزموا العهد المسؤول
بالتحالف الذي نشأ على أنبل معركة في التاريخ المعاصر، فقلب
السعودية ويدها البيضاء حاضرة في مختلف المجالات العسكرية
والسياسية والاقتصادية والإنسانية.
بعد ذلك، رجوته العودة إلى سيرته ووصل ما قُطِع من الذكرى.
وعلى شفا شفتيه لاحت ابتسامة رائقة.
وقال: حينما وصلنا إلى صنعاء كان الرأي باستدعاء حسين
الحوثي، لكنه رفض، وكرر رفضه ومماطلته، وكأنه شعر بانكشاف
أمره مبكراً، صدرت التوجيهات بتحريك قوة أمنية وعسكرية
لمتابعته، إلا أن عناصر حسين الحوثي نصبت كميناً لقوة أمنية كان
على رأسها محافظ صعدة، فيما قتل في الليلة نفسها ١٤ جندياً
وهم آمنون بداخل مدرسة «الزبير بن العوام» في منطقة «بني
سعد» أسفل جبل مران، ومن هناك بدأت سلسلة الأحداث التي
استدعت تدخل الجيش.
عقب الهزيمة الشاملة التي تعرض لها حسين الحوثي، وانتهت
بمقتله، جُمعت عائلة بدرالدين الحوثي ولفيف من مقاتليهم إلى
صنعاء، إلا عبدالملك الحوثي الذي كان حينها صغيرا ولجأ إلى
عائلة أخواله. في ذلك الوقت طلب بدرالدين الحوثي طلباً غريباً،
قال إنه إذا اُلزِم بالبقاء خارج صعدة فليكن في منطقة «سنحان»
أو «بني حشيش»!
أضفت معلومة أدركها الفريق «محسن» وقتذاك، وتعامل معها
بحذر وقلق بالغين، قلت: لأن سنحان وبني حشيش كانت تعج
بالخلايا النائمة المتشيعة للحوثيين.طرقع أصبعيه مشيراً بسبابته
إليّ: بالضبط، وفجأة تسلل «بدرالدين» إلى صعدة، وأعلن الحرب،
فتجددت المعركة، وهزمناهم شر هزيمة، وقُتِل «بدرالدين» في
تلك المعركة!
كانت معلومة جديدة ومثيرة، وسألته منفعلاً: هل حقاً مات في
الحرب الثانية؟
أجابني بحسم: نعم، كما أكدت لنا الأجهزة الأمنية وقتذاك، لكن
الحوثيين لم يعلنوا عن مصرعه إلا بعد أعوام، كانت معركة قوية
لم نمهل الحوثيين ليعدوا العدة في مواجهة الدولة، حتى حوصر
من بقي منهم وكانوا قرابة عشرين شخصا وبينهم «عبدالملك
الحوثي» على حدود سد مائي يقال له «سد نجران»، في نهايته
تبدأ حدود اليمن مع السعودية، وكلفنا كتيبتين من الحرس
الجمهوري والفرقة الأولى مدرع لمداهمة موقعهم والقبض عليهم.
في تلك اللحظة، جاءت الأوامر بالانسحاب وتركهم في حال
سبيلهم! ثم أطرق رأسه بأسف: حينها أدركت أن المعركة دخلت
دهاليز السياسة، وأُفسِدت المهمة الوطنية الأولى.
هل كانوا كلهم هناك؟
نعم، كل القيادات الذين تراهم اليوم.
وما الذي حمل القيادة السياسية على ذلك؟
خدعهم من كانوا بجوار الرئيس الراحل من السُلاليين الذين
انكشفوا على حقيقتهم عقب اغتياله، وجاؤوا برسالة من عبدالملك
الحوثي يعلن فيها إيمانه بالجمهورية!
وهل انطلت الحيلة على الرئيس والقيادة كلها؟
حُسن النوايا يا بني خادع حين لا يفقه المسؤول تاريخ هذه
العصابة وأسلافهم المجرمين، يقع في فخ استكانتهم وولائهم
الزائف.
بلى، هو ذلك، لكن وقد مر هذا كله، وصرنا في حال يموت فيه
اليمانيون بين سجين وقتيل وجائع وشريد، أين صنعاء اليوم، هل
تراها بعدت؟
إضافة تعليق