بعد الإعلان عن تأسيس التجمع اليمني للإصلاح في سبتمبر 1990 تشكلت فروع الحزب الوليد في كافة المحافظات اليمنية، ومنها المحافظات الجنوبية، ذلك أن مؤسسي الإصلاح وقياداته ينتمون لمختلف مناطق اليمن، والحزب منذ لحظة الميلاد يمتلك الحضور على مستوى الوطن بأكمله، ولم يكن حصراً على منطقة أو مناطق معينة.
في جنوب اليمن، كما في شماله شكّل الإصلاح إطاراً تنظيمياً وسياسياً وقطاعات واسعة من المجتمع اليمني، باعتباره الامتداد الفكري والتاريخي لحركة التنوير والإصلاح التي حمل جذوتها رواد الفكر الإسلامي في اليمن من علماء ومفكرين ومصلحين، أبرزهم الحسن بن أحمد الهمداني، ونشوان بن سعيد الحميري، وصالح المقبلي ومحمد بن إسماعيل الأمير، ومحمد بن علي الشوكاني، ومحمد بن سالم البيحاني.
ومن أهم سمات هذا الفكر الإسلامي المستنير الوسطية والاعتدال المستمد من سماحة الدين الإسلامي، ونبذ الجهل والجمود والتعصب، والحث على المشاركة الإيجابية والفاعلة وبذل الجهد من أجل النهوض بواقع المجتمع والعمل على حل مشاكله ومعالجة قضاياه وفق رؤى تصورات نابعة من روح الإسلام ومكتسبات حركة التحرير اليمني ومواكبة لتطورات العصر ومتفاعلة مع الواقع وليست منعزلة عنه.
في غضون أشهر قليلة أصبح الإصلاح يضم نخباً واسعة من مختلف المجالات والتخصصات، ومن مختلف فئات المجتمع اليمني، وصار له وجوده وحضوره على امتداد الوطن الذي بدأ يتنفس الصعداء مع التجربة الديمقراطية الوليدة بعد سنوات طويلة من الاستبداد والحكم الشمولي الذي احتكر العمل الحزبي والسياسي في الحزب الحاكم فقط، (المؤتمر الشعبي في الشمال والحزب الاشتراكي في الجنوب).
بدأت عدن، كبرى مدن الجنوب اليمني، تحتضن الكيان الجديد بقياداته ورموزه وأعضائه، مستعيدة بذلك تجربتها السابقة حينما احتضنت رموز الحركة الإسلامية اليمنية وروادها الأوائل، ففي عدن تجلت أنشطة المركز الإسلامي الذي أسسه الشيخ/ محمد بن سالم البيحاني، وبرز شبابه المتأثرون بأفكار التجديد الإسلامي أمثال عمر سالم طرموم رئيس المركز، ومحمد علي البار الأمين العام للمركز، كما ظهر علماء كبار على تقارب مع شباب الحركة الإسلامية أمثال الشيخ/ علي باحميش، وقد استطاع شباب الحركة حينها نسج علاقات واسعة خارج محيط المركز الإسلامي، ومن أبرز الشخصيات التي جرى التنسيق معها العميد حسين عثمان عشال الذي أصبح أول قائد للجيش في الجنوب بعد الاستقلال، وهو أحد مؤسسي الإصلاح البارزين على مستوى الجنوب والشمال، وقد ترأس فرع الإصلاح في محافظته أبين حتى وفاته في العام 1993.
وكما ضم الإصلاح في عدن رفاق الشيخ البيحاني وطرموم وباحميش، وتلاميذهم والمتأثرين بأفكارهم ورؤاهم، ضمت فروع الإصلاح في بقية مدن الجنوب ومحافظاته العلماء والدعاة والمثقفين ونخبة المجتمع من أكاديميين وأطباء ومهندسين ومعلمين وطلبة جامعيين وغيرهم، وكانت أغلب قيادات الإصلاح في محافظات الجنوب من الشخصيات الوطنية التي سجلت مواقف ناصعة في مواجهة الاستعمار الأجنبي والاستبداد والقمع والحكم الشمولي، وقدمت في سبيل ذلك التضحيات الكبيرة.
جسد الإصلاحيون مبادئ وأهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر بالعمل على ترسيخ النظام الجمهوري والاستقلال الوطني، ومحاربة الظلم والفساد وتعزيز قيم المواطنة والمساواة والتمسك بروح الدين الحنيف، باعتبارها مبادئ أساسية وقيم نبيلة وأهداف سامية أجمع عليها اليمنيون، وقامت على أساسها الثورة والنظام الجمهوري والتجربة الديمقراطية.
وكان على الإصلاحيين مواجهة رواسب العهد الشمولي ومخلفاته وما تبقى من آثاره السلبية التي ظلت تقاوم تحولات الزمن وتحاول النيل من الممارسة الديمقراطية والتعدد والتنوع واحترام الرأي والرأي الآخر، وثبت الإصلاحيون في هذا التحدي كما في غيره من التحديات، وهم يدركون أن عجلة الزمن أخذت تدور ولم يعد بمقدور أحد إيقافها، وأن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وإن ظهرت محاولات تسعى للحيلولة دون حدوث التغيير المنشود.
ومع مرور الوقت أخذ الإصلاح في المحافظات الجنوبية والشرقية يثبت وجوده ويعزز حضوره تبعاً للتحولات السياسية التي شهدتها البلاد، وكلما زاد حضوره تضاعفت واجبات منتسبيه وكبرت أدوارهم المطلوبة في النضال مع بقية القوى الوطنية من أجل إصلاح الأوضاع وتعزيز النهج الديمقراطي وتجسيد قيم الحرية ومحاربة الفساد بمختلف صوره وأشكاله ومظاهره.
عندما شارك الإصلاح في السلطة كجزء من استحقاقات فوزه في أول انتخابات نيابية، (انتخابات مجلس النواب عام 1993) سجل إصلاحيو اليمن حضورهم الذي ترجم كفاءاتهم وفاعليتهم في مختلف مؤسسات الدولة، سواء على مستوى الحكومة أو على مستوى السلطات المحلية في المحافظات والمديريات، وقد برز حينها عدد من الوزراء والمسؤولين الإصلاحيين الذين قدموا نماذج مشرفة في العمل الحكومي، وفي المقدمة الراحل الدكتور/عبدالرحمن بافضل، الذي شغل منصب وزير التموين والتجارة ثم وزيراً للثورة السمكية، وفي كلا الموقعين قدم نموذجاً يحتذى في الكفاءة والنزاهة والحرب على الفساد.
وكذلك كان ممثلو الإصلاح في بقية الوزارات والمحافظات والمؤسسات الحكومية، واجه المسؤولون الإصلاحيون في كل مكانٍ ومرفق ركاماً كبيراً من الفساد والمحسوبية وما يعرف بالدولة العميقة، فضلاً عن اصطدامهم بعقبات كبرى من الأعمال والجهود المعاكسة والمشاكسة، تهدف لعرقلتهم وبالتالي تشويه تجربتهم وتعطيل أدائهم والحيلولة دون تحقيق أي نجاح يذكر يمكن أن يحسب لهم، ومع ذلك فقد كانت تجربة جديدة بالتقدير سيما مع استحضار كل ما صاحب أعمالهم من عراقيل ومعوقات.
المشاركة في السلطة.. نضال جدير بالثقة في انتخابات البرلمان وفي انتخابات المجالس المحلية، صوّت ملايين الناخبين لمرشحي الإصلاح في عموم محافظات الجمهورية، ومنها المحافظات الجنوبية، وعلى الرغم من استماتة حزب السلطة في إقصاء القوى السياسية واستغلاله إمكانيات الدولة والجيش والوظيفة العامة والإعلام الرسمي والخزينة العامة إلا أن الإصلاح- خاصة في الجنوب- انتزع عدداً من المقاعد، مكنتهم بعد ذلك من مواجهة الحزب الحاكم، ومع أنها لم تكن قادرة على إيقافه وهو المسيطر على غالبية مقاعد البرلمان لكنهم كانوا بالمرصاد للحكومات المتعاقبة، يناقشون أداءها ويواجهون أخطاءها ويكشفون اختلالاتها.
مرة أخرى يحضر النائب الاستثنائي عبدالرحمن بأفضل، (ابن حضرموت) كأبرز صوت تحت قبة البرلمان عرف بمواجهة الفساد وكشف الاختلالات، كما فعل ابن عدن النائب إنصاف مايو، المحاسب المالي والخبير الإداري الذي سجل هو حضوراً مشرفاً في معركة اليمنيين ضد الفساد وصفقات العبث بالمال العام ومؤسسات الدولة، ومن أبين أتى النائب علي عشال الشاب النبيه الذي استحق عن جدارة شهادة مكافحة الفساد من مؤسسات دولية رأت فيه مكافحاً عنيداً وبرلمانياً جديراً بالثقة التي منحه إياها الشعب، ليس في دائرته وحدها ولكنه أصبح أحد القادة المميزين والمشهود لهم بالحنكة والكفاءة.
ومثلهم عشرات النواب الإصلاحيين من مختلف محافظات الجنوب قاموا بدورهم خير قيام، رغم أنهم شاركوا في معارك كانت محسومة سلفاً حيث لم يكن يتوفر للمنازلة تسوية أرضها، كما أن المتنافسين لم يكونوا يحصلون على قدر متساو من الفرص.
وخارج قاعة البرلمان كان الاصلاحيون يخوضون النضال من مواقعهم المختلفة خاصة في أجهزة السلطة المحلية، ومع إدراكهم أن الأجواء ليست مهيأة لهم بل كانت المعوقات توضع أمامهم، وكانت طريقهم محفوفة بالعقبات التي لا تنتهي، حيث واجهوا تلك العقبات منذ أول يوم لهم في السلطة.
بعد الثورة والحرب.. النضال مستمر
بعد اندلاع الثورة الشعبية في العام 2011 حضر الإصلاحيون ساحات الثورة وميادين النضال مجسدين قيم النضال التي آمنوا بها، وعملوا على تعزيزها مع كافة قوى الثورة وشركاء النضال السلمي، وكان شباب الإصلاح خير مثال يجسد الثائر والمناضل بقيمه ومبادئه والتزامه وتضحياته، وقد كان النضال السلمي قبل الثورة هو الشعار الذي اختاره الإصلاح لمواجهة الاستبداد، كما اعتبره الطريق الآمن لانتزاع الحقوق والحريات.
واجه الإصلاحيون العراقيل والصعوبات بالمزيد من الإصرار على النضال السلمي وتعزيز الشراكة وانتهاج الحوار وسيلة لحل الخلافات مع الفرقاء، إدراكاً منهم أن الوطن ومصلحته العليا تستحق ذلك، كان يتنازل من أجل الوصول لقواسم ومبادئ مشتركة، سواء مع الخصوم أو الشركاء، وعلى مستوى المحافظات وفي مقدمتها عدن كان للإصلاحيين حضور يحاكي حضوره على مستوى المركز، وتميز فرع التجمع اليمني للإصلاح في محافظة عدن في دعم النضال السلمي والفعاليات المدنية والحقوقية، وفي طليعتها الحراك الجنوبي الذي انطلق في العام 2007، وكان مقر الإصلاح الرئيس في عدن منطلقاً لعدد كبير من فعالياته وملتقى لقياداته وناشطيه، وكذلك في بقية محافظات الجنوب بقي الإصلاحيون في ذات المربع الذي اختاروه طواعية، مربع النضال السلمي، ثم الثورة الشعبية السلمية متمسكين بالحوار والشراكة دون إقصاء أو إلغاء.
وعندما أشعلت المليشيا الحوثية الحرب عقب انقلابها المشؤوم في العام 2014، وبدأت قطعان الموت الحوثية تتحرك من مناطق سيطرتها في شمال البلاد، وتتجه صوب الجنوب كان للإصلاح والإصلاحيين حضور لا ينكره أحد، حمل شباب الإصلاح -مع غيرهم من شباب الجنوب- سلاحهم دفاعاً عن الأرض والعقيدة، واجهوا المليشيات التي استولت على ممتلكات الدولة وأسلحة الجيش بأسلحة فردية وجهود ذاتية، وفي سبيل ذلك ارتقى الكثير منهم شهداء في معركة الكرامة، وستظل سجلات التاريخ حافلة بالمجد الذي سطره الأبطال في عدن وأبين ولحج، كما في الضالع وشبوة وغيرها، وقد دونت سجلات الخلود أسماء أولئك الشهداء الذين قدموا أرواحهم في سبيل الكرامة دفاعاً عن أرضهم إزاء الهجوم البربري الذي شنته مليشيا الإرهاب الحوثي، حتى تكللت المقاومة الباسلة بالتحرير وهزيمة الانقلابيين.
بعد ذلك تعرض الإصلاح - في عدن خاصة وفي جنوب اليمن وفي اليمن عامة لحملات تشويه ترافقت معها عمليات تصفية طالت العشرات من قياداته وكوادره، تستكمل ما بدأته مليشيات الحوثي، وتعتمد أسلحة ووسائل غير مشروعة في مواجهته- تماماً كما فعل الحوثيون، لكنها كلها لا تستطيع أن تنكر دور الإصلاح وحضوره ولا تضحياته، كما أنها لن تلغي وجوده وتقضي عليه، مهما كان حجم تمويلها، ومهما بلغت وبالغت في فجورها. وسوف تفشل ويفشلون كما فشل الحوثيون من قبلهم.
وكما واجه الإصلاح والإصلاحيون عنصرية وفاشية وطائفية الحوثي وعصبيته المقيتة وتعصبه السلالي، لا يزالون يواجهون حملات الكيد والتضليل الجهوية والمناطقية التي تخادمت مع الحوثي في الحرب عليهم، وهم يتحملون كل ذلك مدركين أنهم يدفعون ثمن انحيازهم لصف الوطن ومصلحة الشعب واحترام سيادة الدولة ومؤسساتها.