● مقدمة :
لا تخلو حياتنا من ( سلّة أو مكنسة أو مروحة أو قفّة أو مدلاح أو مكتل أو محمل أو حصير ) وغيرها الكثير والكثير من المصنوعات التي تعتمد في شغلها على مادة ( الخوص ) ومصدرها سعف النخيل، وللنخلة ألف حكاية وحكاية فقد كانت مصدر خير وفير للحضارم كمجتمع زراعي مُنتج، حيث انتفعوا بكل جزء من أجزائها وكل مكون من مكوناتها العديدة، وكانت تلعب دوراً كبيراً في حياة الحضارم من خلال تلبية معظم حاجاتهم الغذائية والصناعية وجوانب أخرى عديدة من الحياة اليومية، فكان النخيل ـ خلاف تزويدهم بالتمر ونواته التي يستخرج منها الزيت وعلف الحيوانات ـ يعطيهم الجذوع والسعف التي تُقام عليها أساسات ودعائم بيوتهم وأعمدتهم وسقوفهم
وتمدهم بالحطب الذي ينضجون به طعامهم، والليف الذي يصنعون منه الحبال وأسرّة النوم ومواد الحشو للأثاث، وفي تقريرنا هذا نحلّق معاً لنأخذ مادة وعطاءً واحداً من أعطيات شجرة النخيل ألا وهو ( السعف أو الخوص ) لنرى كيف أبدعت من خلاله أنامل المرأة الحضرمية لتصنع منه أشياء بديعة تفوق الخيال في روعتها وجمالها من خلال حرفة هي من أقدم الحرف البشرية.
● النخلة .. هوية أرضنا الطيبة :
حفلت الجزيرة العربية بالكثير من النخيل وقد ساهمت حياة البداوة لدى سكانها في جعل شجرة النخيل شريان حياتهم ومحورها، كما كانت شجرة النخيل ذات أهمية كبيرة في الثقافة الإسلامية، حيث ذُكرت في القرآن الكريم في آيات كثيرة وكذلك في السنة، وقد كان منبر الرسول صلى الله عليه وسلم مصنوع من النخيل وقيل أنه كان يتكئ على جذع نخلة عندما كان يخطب، ومن المعلوم أنه استُخدمت أجزاء النخيل المختلفة في بناء المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وسعف النخيل كان يمثل رمزاً للسلام كما استُخدم كوسيلة للكتابة والتدوين.
● السعف والجريد :
تستمدّ ( السفافة ) أو صناعة الخوص أو ما تُعرف محلياً بـ ( السّفّة )، أو كما تطلق عليه المصادر العربية القديمة اسم حرفة ( الخواصة ) مادتها الخام من سعف النخيل أو ( القصام ) ويسمى كذلك ( الجريد ) الذي يبلغ طوله عادةّ عدة أمتار ، وهو ورق النخيل المتفرعة على شكل ريش ذات أطراف حادة ويجري تقطيعه وغسله وإعداده حتى يجف تحت أشعة الشمس ثم تقسّم وتضمّ بعضها إلى بعضها وتُجمع وتنقع في الماء حتى تلين، والذي يُفضل استخدامه دوماً من السعف هو ( الجريد الداخلي ) أو ما يطلق عليه مسمى ( قُلُب ) لوجوده في قلب رأس النخلة ( اللب )، ويتميز سعف ( القلب ) بلونه الأبيض الناصع وصغر حجمه وسهولة تشكيله، وعند عملية تقليم النخلة يخرج منها ما يقارب ( 10 ـ 20 ) جريدة من هذا السعف الأبيض، ويتراوح طول ( الخوصة ) فيما بين ( 20 ـ 40 ) سنتيمتراً، أما عرضها فيتراوح فيما بين ( 2 ـ 3 ) سنتيمترات، ويبلغ إنتاج سعف النخيل من النخلة الواحدة نحو عشر سعفات في السنة.
● صناعة الخوص .. تاريخ عريق :
تُعدّ صناعة الخوص من المهن التقليدية القديمة التي مضى عليها عقود من الزمن ولم تنلْها يد الاندثار، فلا تزال تمارس وتستخدم منتجاتها ويتم تداولها بين الناس حتى الآن، وقد بات من الصعب التكهن أو تحديد عمر لهذه المهنة العريقة وذلك نتيجة لسرعة تحلل موادها الخام العضوية، لكن علماء الآثار عثروا على بقايا بيوت مصنوعة من النخيل بالكامل في مواقع يعود تاريخها إلى القرون الوسطى في شبه الجزيرة العربية، وهي تنتمي إلى الماضي القديم بل هي من أقدم الحِرَف التي برع فيها الإنسان، وامتهنتها الشعوب في جميع أنحاء العالم ولا يزال العمل بها مستمراً إلى الوقت الحاضر وخاصة في الأسواق التقليدية وفي القرى والأرياف الحضرمية، وما يزال كثير من الباحثين والزوار يجدون بغيتهم في العثور على معالم هذه الحِرفة الموغلة في القدم التي تمتاز بها حضرموت عن غيرها من المحافظات، والتي تُعدّ اليوم من الموروث الشعبي وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالحياة المعيشية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات.
● أهم الموارد :
تتوفر الموارد والمواد الأولية لصناعة الخوص من مناطق عديدة اشتهرت بها كوادي حضرموت ووادي حجر ووادي تهامة، كما يتم استجلاب بعض أنواع الخوص من مناطق البادية في حضرموت ذاتها ومن محافظة المهرة، وتعتبر منطقة مدودة هي المنطقة الرائدة في مجال الصناعات الخوصية، فقد اشتهرت منذ القِدَم بهذه الحرفة وما زالت إلى يومن هذا. وثمة مناطق معروفة بانتشار زراعة النخيل فيها كالحديدة وحضرموت وتعتبر أكثر مناطق اليمن وجوداً لحرفة الخواصة.
● المرأة والخوص .. مهنة متوارثة :
يمتهنُ صناعة الخوص الكثير من الرجال، إلا أن جانب النساء يبدو فيها أبرز وأوضح، وقد شكلت النساء الغالبية العظمى من مزاولي حرفة صناعة الخوص أو ( الخواصة ) أو ( السفافة ) المتوارثة منذ القدم، فالجدّات امتهنّ تلك الحرفة بما امتلكنه من مقوماتها تتناسب وأدائها، حيث هي تحتاج إلى كثير من الصبر والخبرة والبراعة والدقة والحرفية العالية والسلاسة والإتقان، وقد أظهرت المرأة مستويات عالية من الخبرة والمهارة في ممارستها وخاصة في البيوت، وزيادة في الاهتمام ببقاء هذه الحرفة فقد كانت السيدات يتناقلنها فيما بينهن بالوراثة كابراً عن كابر، حيث كانت الأم تحرص على تلقين ابنتها أصول الحرفة. ومن الأمور التي ينبغي أن يتجنبها المجتمع نظرة الدونية واعتبار مثل هذه المهن التي يختص بها نساء الريف والقرى وصمة عار أو نقيصة عليهنّ، بل هي بالعكس توجب الاحترام والتوقير كمهنة شريفة تجني منها المرأة بعض المال وكمصدر للرزق، وتساهم في رفد ومساعدة أسرتها مالياً واقتصادياً لتوفير متطلبات الحياة الضرورية.
● فوائد صحية ومنافع طبية :
تتصف منتجات الخوص بأنها صديقة للبيئة وصحية وذات منفعة للناس، فهي تعمل على الحفاظ على الطعام والحبوب وعدم تعرضها للعطب ومنع إصابتها بالتعفن نظراً لمقاومتها للرطوبة، وعملها كعازل لتسرب الماء.
● منتجات الخوص .. مردود اقتصادي :
تبذل المرأة الحضرمية كثيراً من الجُهد والتفاني في إبراز مواهبها وقدراتها وإبداعاتها في مجالات متعددة ومن بينها حرفة صناعة الخوص التقليدية، حيث تعود عليها بالنفع الاقتصادي من خلال تسويق منتجاتهن وترويجها بما يساهم في مساعدة أسرهنّ في هذه الأوضاع المعيشية الصعبة التي يمر بها الوطن، فمن خلال تمكين المرأة والأسر المنتجة عموماً ودعمها اقتصادياً لصناعة واقعها الإنتاجي سنسهم في ردم الهوّة والتقليل من فجوة الفقر الآخذة في الاتساع، فالأسرة التي تعمل بكرامة داخل المجتمع تستحق الاحترام والدعم الواجب الذي لا بدّ وأن يلمسه الجميع تحفيزاً وتشجيعاً من قبل الجهات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني.
● تشجيع صناعة الخوص .. الخيار المستدام :
في الوقت الذي نجد فيه الحضارات الساحلية استوحت صناعاتها من أشيائها البحرية، والتي يعتمد فيها الصانع على مهاراته الذهنية والإبداعية واليدوية، نجد حضارات الوادي على ذات المنوال استفادت واستغلت ما يوجد فيها من نباتات كالنخيل وغيره من غطاء نباتي ومواد أولية متوافرة لتبدع حرفاً مثل صناعة الخوص، وحضرموت واحدة من تلك المناطق الحضارية التي تمتلك مخزوناً هائلاً وتنوعاً واسعاً يجعلها في رأس القائمة في وجود الصناعات التقليدية المستوحاة من تراثها العريق، وما تزخر به من أصالة ومعاصرة ومنافسة للمستورد والحديث.
وكما أسلفنا سابقاً عن أهمية هذه الحرفة من الناحية الاقتصادية والتنموية فإنها تحتاج من جميع الجهات سواءً الجهات الرسمية والحكومية والخاصة ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالتراث إلى الدعم والتشجيع والمساندة من خلال توفيرالدعم للأسر للحفاظ على هذا الإرث التليد وصونه، وتنفيذ المعارض الترويجية وتوفير فرص تطوير الصناعات الحرفية وإقامة الدورات الخاصة بالمهارات النسوية للاهتمام بالحرف التقليدية لما تمثله تلك الصناعة بوصفها إحدى الصناعات التقليدية والحرَفية واليدوية من أهمية وقيمة تدل على عراقة موطنها الحضرمي وتميزه بالحضارة والتاريخ الغني والموروث الشعبي الذي عاصر وعايش عصوراً مختلفة، إضافة إلى اعتبارها قطاعاً استراتيجياً مستقبلياً ورافداً من روافد التنمية المستدامة وتساهم أيضاً بدور كبير في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع في حضرموت، وهي كذلك ـ إلى جانب الحرف التقليدية الأخرى ـ واحدة من أهم القطاعات الإنتاجية.
● سفّ الخوص .. مهارة فنية وجمالية :
تتنوع منتجات الخوص في ألوانها وأشكالها وأحجامها والتي قد تصل إلى ( 25 ) نوعاً، وهي تخضع في ذلك للمواد الأولية والخامات الداخلة في صناعتها، كما أن عملية تضفير الخوص أو نسجه أو جدله تلعب دوراً هاماً في تشكيل المنتج وإبرازه في هيئات مختلفة ومميزة تعكس الذائقة الجمالية والفكر العملي لدى صنّاعه في حضرموت، كل ذلك يتم يدوياً ودون استخدام أي آلات، ومن هنا تظهر إبداعات المرأة الحضرمية في التصميم وتنويع المنتجات الخوصية حتى تبدو في أبهى صورة وأجمل حلّة.
● أشهر منتجات الخوص :
وتسمى أيضاً المنتجات السعفية، وتكون منتجاتها عديدة حسب نوع الخوص إن كان من خوص ( القُلب ) اللين والأبيض الناصع البياض، أو من أوراق النخيل العادية وهي أوراق أكثر خشونة وطولاً، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن أشكال المنتجات الخوصية تتقارب في معظم مناطق تصنيعها وتختلف مسمياتها من مكان إلى آخر. وهنا نذكر أسماء أشهر أصناف المنتجات وأهمها : كالسلال الملونة التي يتم توزيع الألوان فيها بنظم هندسية جمالية غاية في البهاء والإتقان، وتتميز بخفة وزنها وسهولة حملها، وأوعية نقل الفواكه والخضروات، ومنها ( الخبرة ) وهي زنبيل يستخدم لحفظ التمور في النخل قبل قطعه، والحصير، والمقاطف المستخدمة لأغراض زراعية كجمع المحاصيل، والزنابيل ( المداليح ) المستخدمة للتسوق لسهولة حملها، والمرابش لنقل التربة من موضع إلى آخر ويستخدمها البنّاء لوضع الإسمنت أو الطين أثناء البناء، والقفف والقبعات الشعبية بمختلف الألوان والأحجام والأشكال المستخدمة للوقاية من أشعة الشمس، والأثاث الخفيف كالكراسي والأسرّة ( السلق ) والتي تستخدم كفرش على الرض للنوم عليها، والمكانس التي تستخدم في تنظيف المنازل، والكَنْبة لتغطية الطعام من الحشرات، والسفرة المستديرة أو مفرش الطعام ( التفال أو المَسرفة ) التي يوضع عليها الطعام أثناء الأكل، والمراوح اليدوية للتهوية والتبريد في شدة الحر خلال فصل الصيف، والمشجب الذي توضع عليه الملابس لتبخيرها.
وبالنسبة لأكثر الأصناف طلباً ورواجاً في السوق المحلية في الوقت الحالي فهي المراوح اليدوية والمكانس
● ختاماً :
كم أفتخر كثيراً بوجود مثل حرفة الخوص في بلدي حضرموت التي تجسد معاني الثقافة والأصالة، ولكي يزيد أفتخارك أكثر ـ عزيزي القارئ ـ فإني أنصحك بزيارة قصيرة ومتأنية لإحدى أسواقنا الشعبية لتمتع ناظريك وتتعرف عن كثب على منتجاتها التي تعكس مدى افتخار حضرموتنا وحرصها على الصناعات التقليدية والحرف الشعبية وتعلَمَ قوة العلاقة الوثيقة بين الإنسان الحضرمي وشجرة النخيل الباسقة التي تمثل هوية هذه الأرض الطيبة.
•••