أدرك تماماً مكانة رياض الأطفال (دور الحضانة ) لدى كثير من الناس ، وولعهم وانبهارهم بها على اعتبار إنها بداية أقوى للتعليم ، أو كفرصة لنشوء الأطفال في واقع تعليمي أفضل، لكنني أيضا وجدت فرصة للاطلاع على آراء الناقدين لدور الحضانة من علماء الغرب والخبراء بالحضارة الغربية ومن هؤلاء الدكتور الكسيس كاريل وهو عالم فرنسي ، وقد منح جائزة نوبل عام 1912م لأبحاثه الطبية الفذة ، لقد أ نشئت رياض الأطفال في العالم الغربي الرأسمالي كحل لمشكلة انهيار الأسرة ، وغياب الأم كإحدى إفرازات وعذابات الحضارة الغربية الجاهلية النكدة التي لا تلائم الإنسان . إن رياض الأطفال ليس لها أي صلة بالتعليم ، ولم تندرج ضمن السلم التعليمي في الأنظمة التعليمية العالمية ومنها أنظمة الدول العربية التي تبدأ بالتعليم الأساسي أو الابتدائي الذي يلتحق به الطفل حينما يبلغ سن التعلم (6 - 7 ) سنوات كما يرى علماء النفس والتربية . ومن البديهيات إن الطفل يتدرج في نشأته بين الأسرة والمدرسة والمجتمع على التوالي . وهذا يعني إن دور الحضانة تشويه لمرحلة النشوء الأسري للطفل هو في أمس الحاجة إليها لاستكمال نموه الفسيولوجي والعقلي في جو هادي ، كما تعني تعذيب للطفل بإبعاده من جو الأمومة والأحضان الدافئة إلى الأمومة المتصنعة بكل أسف ، ولكثير من الآباء والأمهات تجارب مريرة في إقناع أبنائهم بالذهاب بعيداً عن البيت قبل استكمال مرحلة النمو الأسري وقبولهم للأم الاصطناعية الجديدة التي يطلق عليها ( ماما الروضة ) وهم لا يعلمون بصوابية رفض الأطفال وصراخهم . وفي أهمية إسناد تربية الأطفال للآباء في بداية التنشئة ، قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه ". لقد استوردنا فكرة رياض الأطفال من الغرب دون أدنى نظر إلى منطلقاتها الحضارية والثقافية ، ومدى حاجتنا إليها ، وهل مبررات وجودها في الغرب موجودة في بلاد الإسلام ، وهل مشاكل الغرب الحضارية وحلوله لتلك المشاكل تنطبق عندنا ؟ وهل رياض الأطفال خصوصية حضارية أم مشترك إنساني؟ في وجهة نظري لقد وردت هذه الفكرة إلينا في إطار نسياننا لخصوصيتنا الحضارية والثقافية أو لتنكرنا لها في لحظة هزيمة نفسية وانبهار وفي سياق سلسلة الأخذ غير المبصر من الحضارة الغربية بحلوها ومرها، غثها وسمينها، جميلها وقبيحها نتيجة لتراجعنا الحضاري ، وتقليد المغلوب للغالب . في نظري إن رياض الأطفال تعد واحدة من ابرز بل ومن أشنع مظاهر التقليد الأعمى للغرب وسلوك الببغاوات . في العالم الغربي تعني رياض الأطفال استبدال الشارع بالمربية كضرورة أفرزتها طبيعة حياة الضالين النكدة . وفي العالم الإسلامي فالروضة تعني استبدال الأم الحقيقية والخالة والعمة والجدة ...الخ بـ (ماما الروضة ) كضرورة وهمية . فيا حسرة على الأطفال !!
قال الدكتور الكسيس كاريل في كتابه القيم (الإنسان ذلك المجهول) : "يجب ألا يوضع الأطفال في سن مبكرة في مدارس يعلمون فيها بالجملة . فمعظم عظماء الرجال انشئوا في عزلة نسبية أو رفضوا أن يدخلوا قالب المدرسة . بالطبع لا مفر من وجود المدارس للدراسات الفنية ولاتصال الطفل بالآخرين لكن يجب ألا يكون التعليم مانعاً من التوجيه الصائب ومثل هذا التوجيه يعود للوالدين وبخاص الأم . لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة باستبداله تدريب الأسرة بالمدرسة استبدالاً تاماً ولهذا تترك الأمهات أطفالهن لدور الحضانة لينصرفن إلى أعمال واهتمامات أخرى . إن الكلاب الصغيرة التي تنشأ مع جراء من نفس عمرها في حظيرة واحدة لا تنمو نمواً مكتملاً كالكلاب الحرة التي تستطيع أن تمضي في اثر والديها والحال كذلك بالنسبة للأطفال الذين يعيشون وسط جمهرة من الأطفال الآخرين في وضع مشابه لقطيع الأغنام ، وأولئك الذين يعيشون بصحبة راشدين أذكياء . لان الطفل يتشكل نشاطه الفسيولوجي والعقلي طبقاً للقوالب الموجودة في محيطة إذ انه لايتعلم إلا قليلاً من الأطفال الذين هم في سنه ، وحينما يكون الطفل وحده فقط في المدرسة فانه يظل غير مكتمل ولكي يبلغ الفرد قوته الكاملة فانه يحتاج إلى عزلة نسبية واهتمام جماعة اجتماعية محددة تتكون من الأسرة .