تفتّحت عيناه على بحر من الأمل، كان ممن يحلمون دوماً بولوج لُجة النور بعد أن كان يسبح عكس التيار، ثلاثة عشر عاماً مضت بمخاض عسير وهو يقاسي أحاجي الثعالب وعواء الذئاب ومواء قطط بيضاء بريئة ذات أذيال منتفشة تستعصي على النسيان، طالما أخذ يكافح ويكافح لعبور مصاعب جمة في مقدمتها أبواب مُشرعة بسيول هادرة لطالما أخذت تدمدم في وجهه كلما دحرجت في طريقها أشلاء صفائح اختطفتها من بين الركام، وبين الفينة والأخرى كان يتعلق ببعض القش ليوصله إلى بر الأمل، وها هو ذا يصل بعد نواحٍ مرير بين أرتال المآسي واليأس ليفتح ذراعيه بكل قوة مجدداً عهده الأول بفيوض وهج الحكمة التي تدعيها نفسه الأمارة بالسوء .
كم هو سعيد الآن أن يحيا هذا العمر الطويل ويبذل كل ذاك العناء ليرى بأم عينيه رماد السحائب حين تهمي بحملها الثقيل جداً فوق رأسه المرتعشة ويستقبل آهاتها بكل انتشاء، تحذوه كآبات طارئة لا يدري ما مصدرها ولكنه كان يتجاهلها كلما أطلت بقرنيها بين صدره المنطفئ، وما أسعده أكثر وأكثر تباشير ألم لذيذ يبوح بتباريحه النضرة بينه وبين أمواج البحر، ليأخذها الموج سراعاً كوجبة ساخنة بين يدي نادل سريع، ثم يرمي بها بعيداً بعيداً خلف الأفق لتعود متكسرة وتتلاشى في رمال الأعماق قبل وصولها إليه .
من غير دراية بسائق عربة الآمال التي تقلّه، أو من المفترض أن تقله كل يوم وجد نفسه أمام مدخل حديدي صدئ ذي نتوءات مرجانية أقحوانية الأحشاء، تحرسه خيالات أنيابٍ حادة مخملية الملمس بلون الكستناء، في البدء توجست بقايا نفسه من الدخول خوفاً من دماء عسلية كانت تقطر على حواف البوابة، ومما زاد من خوفه أكثر رؤية هياكل نرجسية فاغرة فاها بنشوة لا يدركها إلا من عرف قيمة السعار في سوق الأكلب المتوحشة، لكنها لملمت ما تبقى فيها من شجاعة ومحبة للمجهول واستجمعت قواها لتدخل بابتسامة صفراء وشفاه فاقع لونها برفقة مئات النكرات، من دون مقدمات أحست من أعماقها أن النكرة بجانب أختها تتعارف ولو بالمظهر الخادع مهما استكانت وانطوت على نفسها المتوحدة أو هكذا ظنت.
ارتمت بقاياه التي جمعها الشتات بين بقايا مقاعد بالية و بعض كراسي وأمياز مهترئة وأصوات حنين متناثر تركت آثارها على ظهور الأخشاب المنحوتة، رأى أعيناً تبكي وقلوباً تنحشر السهام في باطنها المضمخ بالرزقة، إنها زرقة الموت بعد التعذب المرير، هكذا .. هو يعرفها جيداً منذ أن كان في مرحلة الثانوية، وقد رأى أمثالها كثيراً حتى صار لا يخشى رؤيتها، بل إنه جرّب ذات مرة أن يقدم لها عن ظهر قلب قرباناً على أعتاب تلك الألواح لكن أمره كُشف لدى السدنة فماتت وتلاشت ألوانها ولم تكتمل مراسيمها بعدئذٍ .
مرّ في طريقه اللولبي المتعرج بحوانيت عدّة تقف بشموخ على جانبي الممرات، بداخلها رأى بطوناً تُبقر وتتناثر أجزاؤها في المكان على أيدي أناس لهم أظفار مليئة بالأوساخ وبقايا لحم متعفن، نظر أمامه ليرى صفحة بيضاء منسوجة بخيوط الأعاجيب كأنها دفتر أضلاعه التي تنتظر من يملأ أسطرها، ولكن كيف لمن لم يعاين أضلاعه أن ينكت فيها برحيق النور، إلا أن يكون في دواخله على أهبة الدخول إلى معسكر الجزارين، كيف استطابت له نفسه التفكير بهذه الطريقة الفجة، هزّ رأسه بانزعاج ليطرد الأرواح الشريرة التي استولت على كيانه المنهك .
في قاعة الدرس شهد المحاكمة العلنية بين رؤوس الأشهاد، دخلت أشباحٌ تبدو عليها سمات التنمق والقول الحسن، نظيفة من الخارج بأثواب راقية، لباسها خالٍ من البرقشة، خالية من الرقع الشاذة أو النكت السوداء والدنس، تُمسك دوماً بشعلة متقدة تصحبها معها أينما حلّت أو ارتحلت في دهاليز الكون، تحيط بها هالة من العزة والعظمة، معالم الحياة تبدو على رحلها ذو الشكل المستطيل أو المربع ؛ تمسك به بشدة في اليد الأخرى، نايلوني مصقول أو جلدي الصنعة ؛ ربما يكون مفصلاً من جلود الأسود أو التماسيح البنية التي تسكن أدغال أفريقيا أو مجاهل الأمازون، لا يُفتح إلا في حالاتها النادرة دون أن يعلم بمحتواها أي أحد، إذ بداخلها تسكن القوائم السوداء التي تعيث في الأرض فساداً، من حُسن حظه لم يكن اسمه يسكن تلك القوائم وإلا لرأى ما لا يسره .
بسَورة عنترية تبعتها همهمات متتالية، لحقتها فضاءات خانقة من الصمت المطبق على حناجر كل شيء بالمكان؛ فُتحت الجلسة، الويل لمن يتكلم، الويل ثم الويل لمن يهمس أو لمن ينبس بنصف بنت شفة، بريق عينيه الحمراء أخذ يومض، من أين يصدر هذا الصوت الغريب، لا بد أن يعترف أحد ليدرأ العقاب عن الآخرين، توقفت نبضات القلوب، وسكنت ذرات الهواء دون حراك، لهجت الأنفس بالحمد والثناء، الحمد لله لم تكن سوى خربشات فأر برز من تحت أرجل الحضور يمسك بزجاجة من مشروب الطاقة التي تبددت في لحظة من أوردة الضحايا .
أخذ القادم الجديد يتلو تراتيل البؤس على الوجوه الشاحبة، كان عليها أن تركز معه أكثر لتدرك كنه ما يقول، غير أنها كلما ركزت أكثر سقطت في قاع الحيرة لتحصّل بضع قطرات من ماء الحكمة المزيف، ليستحيل سراباً بعيد المنال حينما تشرئب الأعناق إليه في ذهول، هنا وهنا فقط يزمجر الرعد وسط خضوع الجميع لينذرهم بالثبور لمن ضاعت وسط تلافيف مخه طلاسم العلم التي تملكوها دون تعب أو مشقة واعداً لهم في الغد بالمزيد .
وعلى نفس النسق وذات المنوال مضت أربع سنوات مليئة بالرتابة القاتلة، أحداث درامية ساكنة ما يميزها عن غيرها من مراحل الحياة المثقلة؛ تشبّعها بأحلام تراجيدية غاية في السوء والنكال، لم يطرأ بخلد المولود وهو يتّشح بالسواد أن هذا البالطو اللماع ذو اللون الأسود هو عنوان لمستقبله الغامض، وحلقة أولى في مسلسل ليله الحالك الطويل، ليشرع بعده في رحلة الرحيل إلى مجاهل العالم الذي لا يرحم، لكن ما كان يواسيه ويأخذ بتلابيبه لولوج بوابة الحياة عزاؤه بأنه يملك قبساً من وهج الحكمة .
بعد انقضاء عشر سنوات على تخرجه، وفي ذات مرة مرّ خياله المتعب بالصدفة على تلك البوابة، اندهش حينما رأى نفس الأشباح تلجُ المدخل الحديدي الصدئ ذي النتوءات المرجانية الأقحوانية الأحشاء، تحرسه خيالات أنيابٌ حادة مخملية الملمس بلون الكستناء، ومزيداً من دماء عسلية كانت تقطر على حواف البوابة، حينها علم أن ثمة أحلام أخرى لا تزال تراود الجميع، أما قاعات المحاكم فهي هي، لم يطرأ عليها أي تغيير منذ أن غادرها في قسوة الأيام وقمة الصخب والفوضى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** طالب بقسم الصحافة والإعلام - مستوى ثالث - كلية الآداب / جامعة حضرموت