القضية الجنوبية ... حلول برؤية وطنية

القضية الجنوبية يجب أن تنهض بأعبائها جميع القوى السياسية وعلى رأسها القوى الثورية الجنوبية وفي إطارها الوطني الثوري الوحدوي باعتبارها قضية شعب يبحث عن السعادة والرقي في وطن كبير خالي من النزعات الفردية وبعيداً عن الشمولية والاستحواذ ،  ومما ينبغي التأكيد عليه ما يلي:

أولاً: أهمية بقاء الشعب اليمني موحداً متماسكاً في إطار وطن واحد لا تفرقه الجغرافيا المقيتة ولا تشتته التعصبات والولاءات الضيقة المذمومة، وهذا لن يتأتّى بدون بذل وتضحية وصبر ومصابرة وتحمل المتاعب والعناء وربط البطون عن كل مصلحة ذاتية أو شخصية سواءً كانت للأفراد أو الجهات والتكوينات واعتبار المصلحة العامة للوطن والشعب وجعلها فوق كل اعتبار.

ثانياً: ترسيخ مبدأ تحديد المسئولية ومصادر المتاعب التي تسببت في نشؤ هذه القضية بشكل دقيق وعدم تحميل الوحدة اليمنية المباركة أي تبعات ، حتى لا يكون ذلك منطلقاً لأصحاب النزعات الفردية والباحثين عن المصالح الذاتية وتمكينهم من العزف على هذا الوتر الحساس الذي يتم من خلاله تحريك مشاعر العامة من الناس واستثارتهم ضد قيم الوحدة النبيلة.

ثالثاً: بيان مساوئ الأنظمة التي تعاقدت على إكمال مشوار الوحدة وإبراز تلك المساوئ بكافة الطرق والوسائل الممكنة ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مساوئ حكام الجنوب الموقعين على الوحدة كانت ولا زالت هي المصدر الأساسي لما تعانيه المحافظات الجنوبية وتتمثل في الآتي:

1ـــ إهمال كل ما يتعلق بالمصالح المباشرة والخاصة للشعب في المحافظات الجنوبية أثناء مفاوضات الوحدة والتي امتدت لأكثر من ثمانية عشر عاماً ولم يدر بخلد تلك القيادات أنها تمثل شعب طويل عريض ومساحة سكانية كبيرة تشتمل على جميع الثروات والمصادر الحيوية اللازمة لإنعاش الاقتصاد.

2ـــ عدم الطمأنينة لما تقوم به تلك القيادات من أدوار ومسرحيات هزلية وكأنها لم تحكم شعب الجنوب إطلاقاً ، متناسية رصيدها السيئ خلال الفترة الماضية ، سواءً ما كان قبل الوحدة أو ما بعدها ، وتظهر اليوم في ثياب الناصحين المخلصين المشفقين وكأن ليس هناك من سيقوم بالعمل غيرها.

3ـــ عدم قدرة تلك القيادات على تجاوز ماضيها اللئيم القائم على التناحر والتضاد ، وها هي تجري على نفس المنوال ويحاول كل منها التغلب على الآخر وإن كان بطريقة العنف والإكراه وعدم الاعتراف بدور الآخرين ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الروح والفكر الشمولي الذي تربت عليه ولن تتخلى عنه في قادم الزمان إن تمكنت من السيطرة لا سمح الله.

رابعاً: أن الثورة الشبابية الشعبية السلمية ثورة شاملة امتدت إلى جميع مناطق الجمهورية اليمنية من حوف شرقاً إلى ميدي غرباً ومن سقطرى جنوباً وحتى صعدة شمالاً ومع هذه الشمولية الجغرافية فإنها ثورة شمولية من حيث الأهداف والمبادئ ، فكما هي ثورة ضد النظام العائلي الاستبدادي فإنها كذلك ثورة شاملة ضد كافة القيم والمفاهيم الضيقة القائمة على التفرقة والتمييز والمحاباة للأشخاص والاتجاهات ، وليس من المنطق المعقول أن يغيب عن أذهان الثوار أن بقايا أنظمة الجور والاستبداد والشمولية سوف تكون المنقذ الوحيد لمعاناة الشعب في ظل نزوع هذه البقايا إلى ماضيها البغيض وحنينها إلى مآثرها وبطولاتها الدموية الحاقدة مهما لبست من ثياب وعباءات ملونة لتستر تلك العورات والمساوئ.

خامساً: أن معظم أبناء المحافظات الجنوبية لا يرون أن لهم أي مظالم عند إخوانهم أبناء المحافظات الشمالية إلاّ ما كان من حالات نادرة حدثت أثناء أيام حرب الانفصال وبحدود ضيقة جداً لا تشكل أي عوائق تذكر في طريق تثبيت وترسيخ قيم المحبة والألفة بين أبناء الشعب اليمني الواحد.

وعلى هذا الأساس فإن معالجة القضية الجنوبية في إطار وطني أمر لا مفر منه فرضته ظروف استثنائية ما كان لها أن تكون لو أن تلك القيادات حكّمت العقل والمنطق وآثرت المصالح العامة للشعب على مصالحها الذاتية ، لأن قضايا الشعوب هي المعيار الحقيقي لمدى إخلاص القيادات من عدمه.

إنما تمثله المحافظات الجنوبية من خصوصيات تؤهلها لأن تحظى باهتمام بالغ وتقدير كبير من قبل الدولة والمجتمع وبالذات في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ اليمن في ظل استقطابات دولية وإقليمية متسارعة باحثة عن موطئ قدم يمكنها من استغلال هذه الظروف لتثبيت مصالحها على حساب وطن وشعب ، وهذا يتطلب بُعد نظر في التعامل مع كثير من مطالب أبناء المحافظات الجنوبية المتنوعة بتنوع الأهداف والدوافع.

إن مؤتمر الحوار الوطني هو أقرب فرصة مواتية لوضع هذه القضية على بساط البحث والتداول ، وإن نجاح المعالجات يعتمد على مستوى الطرح الملائم في ظل متغيرات وطنية ملحة فرضتها ظروف الثورة الشبابية الشعبية السلمية التي من أهمها تغيير نظام الحكم وما يستلزمه هذا التغيير من الوسائل والإجراءات التنفيذية وهي الفرصة الأكثر نجاحاً لحل القضية الجنوبية في طابعها السياسي وذلك من خلال:

1ـــ اعتبار العوامل الجغرافية من حيث المساحة وليس من حيث التقسيم الإداري فقط.

2ـــ اعتبار العوامل الاقتصادية من حيث تواجد الثروات والمواقع ذات الصلة.

3ـــ اعتبار العوامل التاريخية وما يتبعها من آثار قديمة تؤهل لدور أكبر لتلك المناطق الأثرية.

4ـــ اعتبار حالات الحرمان والتخلف وشدة المعاناة.

وفي إطار هذه الاعتبارات يمكن الوصول إلى مؤشرات إيجابية تعزز الوحدة والتلاحم الوطني وتتيح فرص كبيرة للنهوض بمستوى تلك المحافظات المحرومة بما فيها بعض المحافظات الشمالية.

ولكي نوضح أكثر لا بد من ضرب مثال بمحافظة (مأرب) هذه المحافظة الغنية بالثروات الطبيعية ومصدر هام من مصادر البلاد باحتوائها على منابع النفط والغاز وتوليد الطاقة الكهربائية وبحكم تاريخها الحضاري وما تكتنزه من مواطن الحضارات القديمة ، قياساً بما تعانيه من حالات الحرمان والتخلف ، ومع ذلك فهي تعامل في مجلس النواب كمديرية من مديريات المحافظات كثيرة السكان وذلك بالاستناد إلى العامل السكاني عند توزيع الدوائر الانتخابية للبرلمان في الفترة الماضية.

وفي ضؤ هذا يمكن القول بأن النظام الانتخابي (المختلط) هو أقرب الأنظمة ملاءمة للوضع الراهن للبلاد باعتباره يجمع بين نظام الدائرة ذات النظام الفردي (الفائز الأول) والدائرة متعددة التمثيل ، حيث سيتيح هذا النظام العمل بالقائمة النسبية لنسبة معينة من مقاعد الدائرة (متعددة المقاعد) وفي نفس الوقت سيحافظ على مقاعد أخرى بالتنافس الفردي والتي من خلالها يمكن حل مشكلة ترشيح وانتخاب المستقلين والشخصيات الأخرى الطامحة في عضوية البرلمان اعتماداً على مكانتها الاجتماعية وإمكانياتها الخاصة.

كما سيتيح هذا النظام فرص كبيرة في زيادة مقاعد بعض المحافظات ذات الوضع الخاص والاستثنائي ومنها المحافظات الجنوبية ، وكما ذكر عن محافظة مأرب وغيرها من المحافظات الأخرى التي يمكن تقدير ظروفها على هذا الأساس.

وبما أن إعطاء بعض المحافظات زيادة في حصتها من مقاعد البرلمان قياساً على المقاعد الحالية فإن هذه الزيادة ستكون من مقاعد محافظات أخرى وخاصة المحافظات ذات الأعداد الكبيرة من المقاعد (مثل تعز وإب والحديدة وغيرها) فإن التقسيم الانتخابي المقترح أن تقسم تلك المحافظات الكبيرة إلى قطاعات جغرافية متعددة بحيث يكون كل قطاع عبارة عن دائرة انتخابية متعددة المقاعد في إطار تلك المحافظة نفسها ، أما المحافظات الصغيرة فيمكن أن تكون فيها دائرة انتخابية واحدة متعددة المقاعد بالنسبة لمقاعد البرلمان فقط ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أي تغيير في النظام الانتخابي الحالي يتطلب تعديل المادة رقم (63) من الدستور وهذا التعديل يتطلب إجراءات دستورية تنتهي بالاستفتاء الشعبي على هذا التعديل وفق نص المادة رقم (158) من الدستور نفسه ، فلابد من أخذ عوامل الزمن في الحسبان.

وفيما يتعلق بالجوانب الأخرى من القضية الجنوبية فسيكون النظر إليها باعتبارها حقوق متعلقة بأفراد أو جهات يجب تحديدها وحصرها من قبل ذوي الشأن وبالتالي ستعامل كحقوق يجب استردادها ، ويمكن المرور عليها بشيء من التفصيل كما يلي:ـ

1ـــ قضية المتقاعدين ، يجب معالجتها وفق القانون اعتباراً من زمن وقوعها ومن كان له حق لا بد من استيفائه مع الأخذ بعين الاعتبار تطبيق التقاعد على جميع من في حكم الجنوبيين من أبناء المحافظات الشمالية من نفس الوقت ، أو إعادة الجنوبيين المتقاعدين جميعاً إلى أعمالهم السابقة واستيفاء ما نقص عليهم خلال فترة سريان تقاعدهم وبالتالي يطبق القانون على الجميع بدون محاباة لأحد باعتبار القانون سيّد الجميع.

2ـــ قضية الأراضي ، وينظر إليها من جانبين ، الجانب الأول أراضي عامة وسيكون النظر إليها باعتبار صيرورتها ، فإن صارت إلى مصالح عامة فتظل كما هي عليه ، وإن صارت إلى أشخاص أو جهات معينة فلا بد من استرجاعها أو دفع أثمانها للمصلحة العامة للمنطقة نفسها.

والجانب الثاني ، أراضي خاصة وسيكون النظر إليها باعتبار صيرورتها أيضاً ، فإن صارت لمصالح عامة فيطبق عليها المبدأ الدستوري كما في المادة (السابعة فقرة "ج" حماية واحترام الملكية الخاصة فلا تمس إلاّ للضرورة ولمصلحة عامة وبتعويض عادل وفقاً للقانون) ، وإن صارت مع أشخاص أو جهات فلا بد من خضوعها لقرار المالك الأصلي نفسه ووفق الإجراءات المتبعة شرعاً وعرفاً.

3ـــ ممتلكات أخرى وينظر إليها من خلال وقائع الإثبات ملكاً أصلياً وإثباتاً على من آلت إليه وبأي طريقة كانت ووفق الإجراءات المتبعة شرعاً وعرفاً.

4ـــ الدماء والأرواح وتعامل وفق مثيلاتها من الجانب المنتصر في كل مرحلة من المراحل التي أفضت إلى تلك النتائج الدموية المؤسفة ، مع استيفاء كافة الحقوق المادية والمعنوية اللازمة.

وإزاء هذا كله لا بد من الإشارة إلى ضرورة تشكيل لجنة عليا للنظر في هذه القضايا كلها وفق سقف زمني محدد وعلى ضؤ إجراءات وضوابط دقيقة تحقق مبدأ العدل والإنصاف وجبر الضرر بتعويضات منصفة تعيد كافة الحقوق المادية والمعنوية إلى أهلها وبدون مماطلة أو تسويف مع وضع الضوابط الرادعة لكل من يخالف ذلك.

بقلم:أحمد طلاّن الحارثي

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص