حضرموت اليوم / سيئون / استطلاع الأستاذ / محمد يسلم بشير
فجر السابع من مارس 1945م أصبحت الغرفة تبكي فراق زعيمها صالح عبيد بن عبدات - رحمه الله -
الذي أخرجه المستعمر البريطاني إلى المنفى ..
لما كانت رسالة ومنهج صحيفة سيؤن : نبش التاريخ الاجتماعي والثقافي والأخلاقي لهذه الرقعة من يمننا الحبيب ، وتقديمه للأجيال بصورة مشرقة ما استطعنا إلى ذلك ، ولما كان هذا التاريخ عموماً مفقوداً في الكتب التي تَدْرسه إلا بطريقة مشوهة عن طريق تضخيم العيوب والسلبيات وإظهار الأمة بأنها غير حريصة على كرامتها الإنسانية وحريتها وقوتها ، تجدونا في هذا العدد نكتب عن واحدة من أخطر الفتن التي شهدها الوادي بملابساتها المعقدة حيث اختلفت آراء المؤرخين في طبيعتها : ففي حين اعتبرها البعض إعلان عن ولادة أول حركة وطنية حضرمية ضد المستعمر البريطاني ( أنظر كتاب وثائق الندوة العلمية التاريخية حول المقاومة الشعبية في حضرموت 1900م- 1963م ص : 35 ) اعتبرها آخرون جزء من صراع العشائر والبيوت والأسر على الحكم والقيادة ( وانظر التاريخ العسكري لسلطان ناجي ص: 146 ) ونحن سنركز على العبر والدروس ، والعلاقات الاجتماعية التي بهرت ألقاصي والداني في هذا الحدث .
الغـــــــرفــة
مدينة من مدن وادي حضرموت تبعد عن سيؤن بنحو 9 كيلومتر يسكنها اليوم حوالي 20 ألف نسمة وبها أكثر من أربعين مسجداً وأربع مدارس أساسية وثانوية ، ونادي السلام الرياضي الثقافي ورباط الإسعاد ومدرسة طرموم لتحفيظ القرءان الكريم .
تأسست عام 701هـ عندما نزل بها الشيخ عبد الله بن محمد بن عمر باعباد ( القديم الثاني 672هـ - 763هـ ) وبنى بها غرفة صغيرة كان يؤمها الناس فالرجل اشتهر بفضله وكرمه وعلمه وإحسانه وحمله للمغارم ودفعه للمظالم فلا يزال في ضيافته يوميا 500 نفر غير الطارئين وهو صاحب الجابية بناها للواردين عليه من الحنفية - مسجد الجابية - فاقترنت الغرفة باسم البلدة إلى اليوم . ومن أشهر ساكنيها إلى جانب آل باعباد : المشايخ آل باجمال : وهم أول من سكن باثور بالغرفة أشهرهم الفقيه عبد الله بن محمد باجمال.
آل بلفاس وآل عبدات وآل باعامر وآل شيبان وآل طرموم وآل باحلوان وآل باشادي وآل جوبان وغيرهم .
آل الحبشي : ومنهم العلامة عيدروس بن عمر مسند حضرموت الشاعر والمؤرخ ، له مخطوطات بعضها في مكتبة بيته والأخرى في مكتبة الأحقاف بتريم توفي في رجب 1314هـ ، ومنهم العابد القانت شيخان بن محمد الحبشي الذي اشتهر أنه طالع تفسير الخازن مطالعة بحث وتحقيق في أربعة أيام وكتب عليه تعليقات ، وكان شديد التعبد يكثر من قيام رمضان فكان يتلو ختمة بالليل وختمة بالنهار ، وتوفي في سيؤن في رجب 1313هـ ودفن في علم بدر .
ومن أشهر معالم الغرفة : مسجد الجامع الذي هو عبارة عن مسجدين أحدهما لآل باجمال والآخر لآل باعباد ويرجع تاريخه إلى عام 834هـ ، وكان عادة أهل حضرموت تحري الحلال خاصة في بناء مساجدهم ولذلك اشتهر أن يشترط المتصدق في عمال بناء المساجد أن يكونوا ممن يؤدون الشعائر التعبدية بل قيل أن حجارة بعض مساجد الغرفة نقلت من وادي عدم نواحي ساه خوفا من أخذ حجارة من أحد المثاوي فلا يحل أخذها . ومن معالم المدينة أيضا كثرة الحصون والقلاع .
20عاما من حكم بن عبدات للغرفة 1924م – 1945م
برزت ظاهرة التطلع والطموح عند بعض الأسر اليمنية للحكم والقيادة في ظل الظروف المأساوية التي شهدتها الأمة بسبب وجود المذاهب الفكرية و الاعتقادية التي مزقت الوحدة السياسية للأمة الإسلامية في العصور المتأخرة فانفصلت حضرموت عن جسم الدولة اليمنية التي حكمها الأئمة عام 1113هـ ثم تمزقت حضرموت إلى إمارات حتى أن مدينة تريم وحدها في العقد الخامس من القرن الثالث عشر كان بها : دولة آل همام في حارة الخليف ودولة آل عبد القادر في حارة النويدرة ودولة آل غرامة في حارة السوق ، ثم تنافس الأثرياء من آل كثير والقعيطي على الحكم . وفي ذلك العصر قام عمر عبيد عبدات المدعوم من أخيه الثري صالح عبيد بتسخير ثرواته التي جمعها في جنوب شرق آسيا لتحقيق طموحه هو الآخر في بناء إمارة في مدينة الغرفة عام 1924م ومما عزز هذا الطموح أن أصبحت الغرفة مقرا للعناصر المتنورة والمثقفة من المعارضة للأوضاع وذات الخبرة والتجربة حيث وجد هؤلاء المناهضين للفوضى المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس فانظم إليها في العقد الرابع من القرن العشرين الأستاذ العلامة الفقيه محمد عبيد عبود القادم من إندونيسيا والقاضي محفوظ سعيد المصلي اليافعي قاضي شبام وضواحيها .
لكل تلك الأسباب أزدهرت هذه الإمارة ولكن ذلك أثار الفخائذ الشنفرية وخاصة آل فاس المجاورين وآل كثير والقيعطي بل والسلطات البريطانية المستعمرة فاتفقت على حصار بن عبدات وإخراجه من الغرفة عنوة ، فكانت محاولات الصلح ثم الحرب المسلحة لاقتحام الغرفة منذ عام 1928م ولكن الحملة فشلت وتغنى بفشلها الشعراء مما زاد شعبية بن عبدات . وبعد توقيع اتفاقيات الحماية من قبل المستعمر البريطاني مع القعيطي عام 1937م ثم مع الكثيري عام 1939م أراد المستعمر أن يـجعل من بن عبدات عبرة لمن يعتبر من القبائل المتمردة فبدأ مخطط الهجوم المسلح بمختلف الأسلحة فكانت أشهر التطورات :
في شهر فبراير عام 1939م توفي الممول للإمارة الرجل الثري صالح عبيد عبدات في إندونيسيا وفي شهر يونيو من نفس العام توفي مؤسس الإمارة عمر عبيد عبدات بالغرفة فخلفه عبيد صالح وكان هو الآخر طموحا جاء إلى السلطة والصراع على أشده وأدرك أن المستعمر لن يسمح له بإقامة إمارة مستقلة ولكن ظروف الحرب العالمية سبتمبر 1939م وتغير موازين القوى العالمية بظهور النازية وزيادة التهديد الإيطالي في شرق أفريقيا للنفوذ الإنجليزي كانت كلها لصالح بن عبدات فكان المجال لجهود الصلح المحلية وخلالها كان المستعمر يـجمع المعلومات ويتحرش بأنصار الإمارة من قبائل الحموم في غيل بن يمين ويهدد بشن حرب إبادة بواسطة منشورات كانت الطائرات البريطانية تسقطها فوق الغرفة خلال عام 1940م ، وفعلا فرض حصار اقتصادي على الغرفة . وفي عام 1945م استفادت بريطانيا من قواتها العائدة بنشوة النصر على الحلفاء من العلمين في الحرب العالمية فتكونت لها قوة من جيش عدن ( الليوي ) والجيش الهندي التابع لولاية حيدر أباد وجيش النظام القيعطي وقوة من الجيش غير النظامي وسلاح الجو الملكي وشنت هجوما عسكريا معززا بالطيران والمدفعية والدبابات دك المدينة صباح يوم 6 مارس 1945م وأطبق الحصار من الغرب والشرق والشمال وقُتل محبوب البدوي قائد العمليات العسكرية لابن عبدات وهو يقوم بعملية استطلاع في ديار آل فاس فكان لوفاته أبلغ الأثر في سير الأحداث . وفي صبيحة يوم 23ربيع أول 1364هـ الموافق 7 مارس 1945م لاحت الأعلم البيضاء على أسوار الغرفة معلنة الاستسلام ، وسلم عبيد صالح نفسه للقوات البريطانية بعد مقاومة باسلة وصفها الشاعر خميس كندي وصفا رائعا بشعره الشعبي حين قال :
رد وش يا لغرفة كما برلين
مستر جرامس هو وشمبرلين
بن صالح مبارك لقالش رسم
عاند بش قرانه
هم قايسوش العبر
من ضرج القنابل باتودين
خرج عبيد صالح من الغرفة على متن سيارة مجنزرة إلى مطار القطن ومنه إلى عدن بالطائرة ثم إلى سنغافورة بجنوب شرق آسيا حيث عاش بقية حياته حتى توفي في مدينة باتافيا عام 1963م رحمه الله رحمة الأبرار . هذا هو الحدث فما هي الدروس والعبر المستفادة :
على قصر عمر هذه الإمارة إلا أن ما تحقق فيها شيء كبير برهن صحة مقولة الأستاذ علي أحمد باكثير- رحمه الله - القائل : ( ولو ثقفت يوما حضرميا لجاءك آية في العالمين ) .
أولا : في جانب الازدهار
السياسي والثقافي
1ـ تأسس مجلس الأشراف : فبرزت قيادات سياسية كثيرة ، ولعب الأستاذ محمد عبيد عبود ( 1888م – 1953م ) أحد المثقفين ثقافة عالية عضو المجلس والقائم بأعمال سكرتاريته دورا مهما في توسيع دائرة المشاركة الشعبية في إدارة شؤون الإمارة ، وكان العضو الآخر القاضي محفوظ المصلي اليافعي الذي أصبح قاضي الغرفة الشرعي . و عبود والمصلي - رحمهما الله - هما الذراع الأيمن لابن عبدات في تسيير الأمور وبلورة الأفكار وتقديم المقترحات والحلول للمشكلات ، ووضع الخطط والبرامج . وكان الأستاذ عمر محمد باعباد- رحمه الله - أحد المثقفين وكان يـجيد اللغة الإنجليزية حيث كان في الحبشة فعاد ليسهم في إصلاح أوضاع بلده فعين مشرفا للمركز الثقافي الذي قام بدور بث الوعي ومحو الأمية وأدخل المذياع ( الراديو ) لتعريف الناس بما يدور في العالم ، واهتم المركز بترجمة أخبار الحرب العالمية إلى العربية لرفع معنويات المواطنين من خلال خسائر بريطانيا في جبهات القتال بل استطاع توصيل أخبار المقاومة في الغرفة إلى إذاعة برلين بألمانيا وهزائم الإنجليز في الغرفة عامي 1939م – 1940م فكان لتلك الأخبار وقع السحر في معنويات المواطنين من سكان حضرموت حيث كانت الإذاعة تلتقط في كل من سيؤن والغرفة وغيرها . وتأسس أول نادي ثقافي عام 1938م أقام العديد من الأنشطة الثقافية والندوات العلمية .
وكان الشاعر خميس كندي- رحمه الله - إعلامي الإمارة والمنافح عن قضاياها قد فتقت قريحته الأحداث فقال شعرا عاميا ولكنه في غاية الروعة والإبداع . وبعد استسلام بن عبدات سلم القاضي المصلي للسلطنة القيطيعة لمحاكمته بتهمة القيام بحركة هدامة أرادت بحضرموت شرا فقررت المحكمة حبسه خمس سنوات ومنعه من السفر إلى حضرموت ( الوادي ) ولكن بعد عشرة شهور تم إطلاق سراحه فغادر إلى عدن ثم إلى الشحر ، أما عبود فسلم إلى السلطنة الكثيرية وتم نفيه إلى عدن وهناك عاش ومات بها ، أما الأستاذ باعباد فقد غادر البلد منذ أوائل عام 1941م للانضمام إلى انقلاب الكيلاني في العراق ضد الإنجليز على رأس مجموعة من المتطوعين الحضارم ومنها توجه إلى الحبشة ، وأما كندي فهرب إلى المكلا ومنها إلى عدن ثم إلى الحبشة وشرق أفريقيا حيث عاش بقية عمره في المهجر.
2ـ بذلت العديد من محاولات الصلح في عهد السلطان منصور بن غالب وعلي بن منصور فعقد اجتماع في حوش آل منيباري مثّل بن عبدات فيه القاضي محفوظ المصلي وعن آل كثير الضابط عمر محيرز وحضره السيد أبو بكر بن شيخ الكاف ومثّل بريطانيا انجرامس ، وجرت محاولة أخرى قام بها التاجر سالم بن محمد باعبيد بإيعاز من السيد أبوبكر الكاف- رحمهما الله - لنبذ الفرقة والنزاع والفتن ولكن لم يكتب لها التوفيق والنجاح بسبب عدم الثقة بين أطرافها المتعارضة .
ثانيا : في جانب الازدهار التعليمي
تأسست في الغرفة أول مدرسة هي مدرسة الدعوة الخيرية عام 1345هـ على غرار المدارس الخيرية التي أسسها المغتربون الحضارم في جنوب شرق آسيا وكان التعليم مجانيا مع تقديم المساعدات واللوازم للتلاميذ فتخرج منها العديد ، درس فيها من أبناء البلد الشيخ عبد الرحمن باعباد وعبد الله كعويله وعبد القادر باحميد وكانت محاولات لجلب مدرسين مصريين لذلك ولكن المحاولات لم يكتب لها النجاح بسبب منع بريطانيا ، واستمر عطاء الأهالي في مجال التعليم بعد ذلك فأسس الشيخ الفاضل عبد الله بن عبد الرحمن طرموم مدرسة طرموم الشهيرة عام 1370هـ الموافق 1951م ولا زالت المدرسة بعطائها قائمة إلى اليوم .
ثالثا : في جانب الازدهار الاقتصادي
شجع بن عبدات الصناعات والحرف للاعتماد على الذات فازدهرت أعداد كبيرة من معامل الغزل والنسيج والدباغة والمصنوعات الجلدية والخوص والصباغة والصياغة والحدادة والنجارة ، وفتح في المدينة سوقا تجاريا كبيرا عاما وحرا ومنظما عيّن لإصلاح ومراقبة الأوضاع فيه لجنة من أشهر أعضائها محمد عبيد بافضل وعبد الله زين عطوفة وأحمد صالح بلخير وجعل هادي عبد الله باحارثة عاقلا للسوق رحمهم الله أجمعين ، ومنع التجول فيه بالسلاح ، وأوجد عملة محلية للتداول فيه ، ومنع عنه القيود و الضرائب على المنتجات ، وحمى المدينة بسور وعدد من القلاع فكانت الغرفة مركزا تجاريا مرموقا .
رابعا : في جوانب التكافل الاجتماعي
فمنذ عام 1943م تعرضت حضرموت لآفات ومجاعة شديدة كان ضحيتها حوالي 20 ألف شخص من الوادي ، وكانت وطأة المجاعة على الغرفة أشد بسبب الحصار الذي فرضه المستعمر عليها مما اضطر مجا ميع كبيرة من الحموم القوة الأساسية لابن عبدات والتي كان يعتمد عليها في الدفاع عن المدينة تغادرها لتفقد أحوال أسرها فأصبحت قوة بن عبدات لا تتجاوز مائتين من المسلحين ، بل كان الطيران البريطاني يلقي بأكياس طعام الإغاثة على الطرقات من القطن إلى تريم وساه إلا الغرفة فقد كانت الوحيدة المحرومة . هنا تجلت مبادرات الخيرين لتقديم المساعدات للأسر التي أعوزها الفقر والمرض والحصار والحرب ، فأسهم تجار شبام والقطن بتقديم الدعم السخي للأهالي المحاصرين ، فقدم على سبيل المثال التاجر عبد الله عبيد بامطرف وإخوانه رحمهم الله من القطن كميات من الأغذية والبضائع نقلت عبر الجمال ليلا إلى الغرفة . وشغل الأستاذ عمر باعباد رحمه الله منصب سكرتير الجالية الحضرمية في أديس أبابا ، فبعثت الجالية بكميات من الأغذية تبرعا للمتضررين من المجاعة لكن بريطانيا حالت دون وصولها إلى الغرفة .
وختاما وبغض الطرف عن كل ما جرى فقد أصبح جزء من التاريخ نستلهم منه فقط الدروس والعبر ، إلا أن ما ينبغي أن يبقى في الذاكرة أن ثلاثة عصاميين أفذاذ هم غالب بن محسن الكثيري وعمر بن عوض القعيطي وصالح بن عبيد بن عبدات هؤلاء الأبطال الثلاثة جمعوا أموالا طائلة وثروات هائلة في الهند وجنوب شرق آسيا فأردوا بها إحداث نهضة حضرمية فمولوا مشاريع ضخمة وأسسوا ملكا كبيرا وجاها عريضا ، وكم سيكون الأمر أروع لو حل بينهم الائتلاف بدل الخلاف والوحدة بدل الفرقة والتعاون بدل التنافس ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد ..