حضرموت اليوم / سيئون / بقلم / محمد علي باحميد
عَمِلت خيراً .. وأسدت جميلاً صحيفة ( سيئون ) في عددها الثامن الصادر في شهر سبتمبر 2005م عندما ذكرتني في عمودها ( بداية المشوار ) وعلى صفحتها الأولى برحيل كوكبة من الرجال الأفاضل عن دنيانا منذ سنوات من بينهم الشيخ الجليل أبو هاشم : عبدالرحمن عبدالله بارجاء الذي أسلم روحه لله فجر الجمعة
12 أغسطس 1994م في مدينة سيئون .
وبعد فراغي من قراءة تلك السطور التأبينية لأولئك الرجال ، انتصب أمامي خيال ( أبي هاشم ) الذي كان بيني وبينه كثير من الود والتقدير والاحترام فأدار لي شريطاً من الذكريات .. فهو صاحب ذكريات وعطاءات ، بل كان الجار الجُنُب والصاحب بالجنب وفي نفس الحارة ، حيث كان يسكن بالقرب من بيتي السابق بساحة ( قيدان ) التي فرّ أهلها منها اليوم ، وعبثت ببيوتها السنون ، وأكل من طينها الدهر وشرب .
رحيل أبي هاشم ذكّرني بتلك الساعات المفيدة التي كنت أقضيها معه في غرفته المربعة الجرداء الخالية من كل شيء إلا من ثلاجة متواضعة ، وطاولة للكتابة ، وجهاز تلفاز صغير ، وأبى هاشم نفسه ، لقد عاش وكل تلك الأشياء القليلة كانت تحيط به إلى أن مات ، فهو من الذين يؤمنون أن الإنسان في هذا العالم مسافر ، وكل شيء سيتركه وراءه ، ولهذا جعل مأواه صغيراً ومتاعه خفيفاً ، فهو عنصر خيّر وزاهد ومثالي(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) .
ذكّرني يوم رحيله بشخصيته التي هي خليط من المزايا والسجايا الحميدة لذا يعرفه الكبير والصغير في حارتنا ، وإذا أردتُ أن أرسم له صورة بالكلمات فهو بدين جلّل الشيب رأسه ، هادئ الطبع ، بسيط الملبس ، يستخدم أذنيه دائماً ليسمع أكثر مما يقول ، وهذه الميزة لمستها فيه عند حضوره لجلسات المنتدى الأدبي لشعبة اتحاد الأدباء بدار الأديب علي أحمد باكثير ، فهو يكره الإدعاء والقول فيما لا يـجدي . له مشاركات عديدة في ذلك المنتدى الأدبي ، فهو ناقد وباحث وقد نشر العديد من المقالات الصحفية على صفحات صحيفة ( الطليعة ) الحضرمية لصاحبها الأستاذ أحمد عوض باوزير والتي تصدر في الستينيات بالمكلا .
ومن الموضوعات التي تقدم بها إلى المنتدى الأدبي لاتحاد الأدباء بسيئون كان أولها ( عن حياة علي أحمد بكثير في سيئون ) بتاريخ 18 نوفمبر 1987م ثم موضوع ( اندونيسيا المهجر الحضرمي الخصيب) بتاريخ 13ابريل 1988م .
كما قدم عرضاً تاريخياً عن نشأة ونشاط الهيئات والجمعيات العربية في اندونيسيا على مدى ثلاث جلسات متفرقة ( 24 / 8 ، وَ 2 /11 /1988م ، وَ 18 / 1 / 1989م ) كما كشف عن ( أول مشروع إصلاحي حضرمي حيل بينه وبين الوصول إلى هدفه ) بتاريخ 28 / 6 / 1989م ، وكان آخر موضوع له بعنوان ( من حركات النضال ضد الاستعمار وأعوانه ) تقدم به يوم 7 / 3 / 1990م ، وقد ذكر لي أن له مذكرات كتبها تحت عنوان ( طريق حياتي ) .
عاش أبو هاشم حياة جلد وصبر لا يقوى أي امرئ منا على تحملها إلا من رحم ربي ، فقد عاش وحيداً ، ومات وحيداً ، وسيبعث وحيداً يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ، فهو لم يعش شيئاً من متع الحياة ، أو انغمس في البذخ الاستهلاكي الذي نعيشه اليوم ، لكنه بالرغم من تلك الحياة والظروف القاسية التي مر بها كان صابراً ومعطاء ومنتمياً .
ظل أبو هاشم يمارس أعماله بإدراك شامل وجهد لا يكل ، وكان يراعه لا ينفد منه المداد ، فهو شغوف بالقراءة والكتابة ، لا يسأم منها ولا يمل ، يكتب كل ما يقع تحت يده ويرى أنه ذو فائدة .
أطلعني مرة على مائدة أطباقها مجموعة من الكراريس الملأى بالكثير من المعارف والمعلومات المتنوعة ، لا أدري أين استقر بها المقام اليوم ؟
يمتلك أبو هاشم صدراً فسيحاً للحوار والمناقشة ، ولديه تقبل للأفكار الحديثة والمعاصرة ، لذا ولّى وجهه شطر مجالس الشباب وندواتهم ، فما من شاب في سيئون إلا وتجده يُقبل عليه بكل وقار واحترام ، ويأنس به ويرتاح له ؛ لأنه كان يخاطب كل واحد مخاطبة القرين للقرين برغم الفارق بينهما في المكانة والسن .
فبمعايشته للشباب انخرط في عضوية اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وفي عضوية التجمع اليمني للإصلاح فهو رجل صاحب ثقافة ومبدأ وانتماء وطني كما عرفته .
يقف أبو هاشم وبصلابة ضد كل الانحرافات العقيدية ، ويحارب الضلالات التي ليست من الدين في شيء ، ويشن هجوماً دائماً على الجمود والتحجر ، ويرفض المجتمعات المقفولة والرافضة للتجديد ، ويضيق ذرعاً بأولئك الذين يكرسون مثل تلك القيم والأعراف والتقاليد الهدامة للمجتمع والمؤخِرة له عن ركب التقدم والتطور.
أسدى إليّ مرة نصيحة ( الصديق من صَدَقك ) عملاً لا قولاً ؛ عندما أمسك بيدي في ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم ، وقادني معه إلى ( مسجد عنبر ) بسيئون القريب من بيتي يومها لألتحق بجموع المصلين في صلاة التراويح ، إذا أن هذه السنة لم أمتثل لأدائها بل كنت مقاطعاً لها عندما كانت البلاد ترزح تحت أقدام أخوان الشياطين ، فَدفْعُه لي باتخاذ تلك الخطوة الحميدة نحو تلك الطاعة السنوية الكبرى للاحتذاء والاقتداء برسول الله ظلت تشع ذراتها وينتصب أمامي خيال أبي هاشم كلما هلّ عليّ هلال شهر رمضان من كل عام ، فهو قد دلّني على الطريق إلى الله فهو نَعم الجليس الصالح والرجل الحسن الدين ، أسأل الله أن يضعها له في ميزان حسناته يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون .
إن رحيل أبي هاشم جاء بعد أوجاع وآلام وأحزان أخذت تنهش جسمه ليس بسبب صعوده اليومي لدرجات سلّم القصر السلطاني المهلكة ؛ حيث كان عمله بالمركز اليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف والتي تطأها قدماه بكل سكينة وأناة مع صباح كل يوم جديد ، وإنما نشبت تلك الأوجاع والآلام والأحزان أظافرها في جسمه بعد أن مصّ نزيف الفاجعة وحده ، فاجعة توقف قلب ابنه ( هاشم ) وهو على بعد آلاف الأميال منه في جزر الشرق الأقصى .