حضرموت اليوم / سيئون /
إستطلاع : نزار سالم باحميد
عندما يأتي
الصيف ، تستعد كل المدن و الحواضر لإقامة المهرجانات السياحية و التراثية و
الثقافية و غيرها .. فهذا مهرجان صيف صنعاء السياحي ، وهذا مهرجان نجم البلدة
الثقافي بمدينة المكلا ، وهناك مهرجان صيف
دبي وجدة وصلالة وغيرها ... إلا أن وادي حضرموت يبقى صاحب الامتياز والتميز بين كل
هؤلاء ، ففيه مهرجان من نوع آخر ، إنه مهرجان الأعراس و الأفراح ..
التحـضـير والإعــداد
حينما تبدأ تباشير الإجازة الصيفية
بإطلالتها في أواخر شهر مايو من كل عام .. يشرع أهالي وادي حضرموت ويهرعون لإعداد
العدة والاستعداد لاستقبال الحدث الأهم في تأريخ بعض الأسر ألا وهو دخول واحد أو
عدد من أبنائها وبناتها عش الزوجية الهادي والهانئ .. فيتجند كل أفراد العائلة بما
فيهم العريس والعروس للتهيئة والتحضير الواسع ، ويتم الاجتماع العام برئاسة كبير
العائلة لتكليف كل شخص بالمهمة الموكلة إليه ، حتى تسير الأمور على خير ما يرام ..
فبعد أن تم تحديد موعد الزواج مسبقا مع
الطرف الآخر ، يبدأ العد التنازلي ، فيتم حصر الاحتياجات والمتطلبات : البيت ،
الوليمة ، العرس ، الدعوات ، اللبس ، الزينة ، الحناء ، وسائل الراحة للمدعويين
والوافدين من خارج البلاد .. كل كبيرة وصغيرة يـجب أن يتضمنها البرنامج ، فيكفينا
مفاجآت أو نسيان لأن ذلك مما لا تحمد عقباه .
وبعد أن تم تزيين المنزل ، وشراء كافة
المستلزمات ، وتهيئة مخدع الزوجين ، وتوفير الذهب المطلوب للعروس وثيابها الفاخرة
، يتم الاتفاق على موعد مع أهل الزوج لإحضار ما يخص الزوجة القادمة من متاع ومصاغ
إلى عش الزوجية ، فتجتمع النسوة لترتيب ذلك بطريقة معينة ، فهذا دولاب الثياب
تعلوه المزهريات التي تحمل أروع أنواع الورود وأغلاها وهنا (التسريحة) لصف العطور
والزهور بأسلوب أنيق ، وهنا عدة الشاي وهي من أهم ما يحرص عليه أهل العروس
باعتبارها من أسباب دوام الألفة بين الزوجين ، حينما يـجتمع الزوجان في عشهما
الهادئ في بهجة وجلسة من أحلى وأبهى ليالي العمر ، والعسل لازال يقطر من شفتيهما ،
فتهيء الزوجة لزوجها مكان جلوسه مزودا بالبطانيات الناعمة والمتاكي اللدنة كي يأخذ
راحته الكاملة في الجلوس ، ثم تأخذ بطريقة سلسة أدوات عدة الشاي واحدة واحدة
فتضعها بالقرب من موقع الحبيب وجها لوجه ، لتبدأ جلسة الأنس بعد أن تتزين المرأة
لزوجها بأروع ما يحتويه دولاب ملابسها وصندوق جواهرها ، وتسريحة عطورها ، فيمضي
الوقت سريعا سريعا ..
تجتمع النسوة في ذلك المساء الجميل ويشتركن
في ترتيب كل ذلك حتى أنك لتشعر حينما تدخل المنزل بعد ترتيبه بأنك في حديقة غناء .
***
ويبدأ موعد العرس بالاقتراب فتفد الوفود
القادمة من خارج البلدة . فيتم الاحتفاء بهم ، فبقدومهم تنبعث روائح العرس الذي لم
يبق على موعده إلا يوم أو يومان ..
الأعراس في وادي حضرموت اليوم ، اختلفت
قليلا عما كان عليه قبل سنوات . فقد كان الاحتفال بالعرس الواحد لفترة تصل إلى
ثلاثة أيام بلياليها .. أما اليوم فقد تم الاستغناء عن 50 % ، ولعل المرحلة
الراهنة والظروف الاقتصادية تقتضي ذلك .
الـحــــنـاء
والـغـــــسـة
تبدأ فعاليات العرس في وادي حضرموت (سيئون
وما جاورها) بما يعرف بالغسة ، وهي المرحلة الانتقالية التي يعيشها الزوجان بين
العزوبية والزواج ، فالرجال يـجتمعون في بيت أهل العريس (الزوج) ظهرا ليحضروا حفلا
مصغرا يـجتمع فيه أقرب الأقارب فيرقصون على إيقاعات الطبول وصوت الناي الشجي ،
يتوسطهم العريس وأفراد أسرته أبوه أخوته أعمامه وأخواله وأصهاره .. والفرحة تكاد
تنفصم عن وجوههم فقد حل يوم العرس المنشود .. يتناول جميع المدعويين بعد ذلك وجبة
الغداء التي اعتاد الحضارمة على أن تكون (رز بلحم) و لأنها خاصة ، ربما زيد فيها
بعض التحسينات . ثم فنجان الشاي الحضرمي الذي يستقر بعده الطعام في الأمعاء .
والنسوة هناك في بيت أهل العروس (الزوجة)
وقد غشي وجهها بقطعة من القماش شبه الشفاف حتى لا تــُرى بشكل واضح فتبقى النسوة
في شوق شديد للتعرف على أبرز ملامحها مما يمكنهن من وصفها , ولكن هيهات يبقى الأمر
حصريا حتى موعد الظلة في عصر اليوم التالي ..
العروس جالسة في موقعها المخصص تحيط بها
النسوة (المحنــّـيات) لينقـشن على يديها ورجليها أجمل وأبدع النقشات وأحدثها
فللنقش فنون ، بينما تستمع الأخريات من الحاضرات بأصوات المشترحات والخيبعان في
وصف محاسن الزوجة وأهلها وأخوالها والدعوات لهم ، بالألحان المتميزة وإيقاعات
الطبول الفريدة ، وربما صاحب ذلك (الزفين) و هي رقصات خاصة جدا لا تجيدها كل
النسوة بأصوات الراضة والخبة ..
وفي هذه الظهيرة يتم غسل شعر العروس بالماء والصابون وأنواع الشامبو الفاخرة ، كي يكتسب حيوية ولمعانا أكثر ، ويأخذ أحد أقاربها منه خصلة كما جرت العادة . ويأتي المأذون خلسة ليأخذ موافقة العروس مشافهة !!
الـحــراوة وعــقـد
الــــــقـران
في عشية هذا اليوم .. يتم الاحتفال الرسمي
والعام فالكل حريص على أن يكون من أوائل الحضور .. فهذا هو يوم العرس ففيه يتم عقد
القرآن .. تبدأ الفعالية بتجمع الحاضرين من المدعوين أمام بيت العريس حيث يكون في
مقدمة المستقبلين أهل العريس وقد هيئ المكان بالفرش الوثيرة وأسباب الراحة والمياه
الباردة التي تطفي لهيب حرارة الصيف الذي يطغى على أجواء وادي حضرموت ، وتأتي فرقة
الزربادي لتشنف أسماع الحاضرين ببعض التواشيح والقصائد الدينية بإيقاعاتها الخاصة
..
في هذه اللحظات يكون العريس وأصدقاؤه في
شغلهم الشاغل حيث يتم ارتداء اللبس الخاص بالحراوة .. وتختلف الألبسة من أسرة
لأخرى كما تختلف أيضا طريقة الاحتفاء بهذا اليوم فإلى جانب الزربادي تكون هناك
الألعاب الشعبية (الشبواني) وهي من الرقصات الأكثر جماهيرية في مناطق الوادي ، كما
أن هناك (القفزان) و (الشرح) وما إلى ذلك .
يخرج العريس في أزهى حلة يستقبله الجميع في
محبة وولاء مهنئين ومباركين له ولأهله . ويمشي الركب راجلا أو راكبا (بحسب
المسافة) في موكب فرائحي بهيج وأبواق السيارات والدراجات النارية وأضواؤها تحيط
بالجميع ، وربما تعطلت حينها إشارات المرور وأصبحت الأولوية لموكب العرس ..
أهل العروس في انتظار أهل العريس إلى جوار
بيتهم الذي تهيأ لاستقبال زواره وضيوفه الكرام ، كي يتم عقد القرآن وقد زينت
ساحاته ونظّـفت ، (العلك) يرسل دخانه الأبيض ليجوب الفضاء ويضفي على المكان رائحته
المميزة .. أصوات الأبواق تقترب شيئا فشيئا فيهب رجال من أهل العروس صفا واحدا
لاستقبال موكب (الحراوة) فها هو قادم ، العريس يحيط به أهله وأقرباؤه وخلفه مباشرة
يقف حارسه الخاص الذي يتفقد أحواله ويحافظ على منظره وهندامه وينفث عنه غبار
الطريق وحرارة الجو من خلال المروحة اليدوية الخاصة التي يحملها .. وبعد أن يتم
الترحيب بالموكب القادم من قبل أهل الزوجة ويأخذ كل فرد موقعه .. يبدأ المأذون
بتلاوة خطبة النكاح وسط هدوء الجميع .. ثم يمد العريس يده ليصافح عمه الجديد (ولي
أمر عروسه) ويرهف الجميع السمع حتى يكتمل الإيـجاب والقبول من الطرفين ، فتنطلق
الزغاريد من حناجر النساء اللواتي يرقبن الحدث عن كثب من شرفات المنازل وأسطح
البيوت ، ويأخذ قائد فرقة الزربادي طاره ويشرع في صوت ما بعد العقد الذي أصبح
محفوظا لدى كثير من الحاضرين ، فيا لها من أنشودة جماعية بديعة .
بعدها يقف العريس عن يمينه أهله وعن يساره
أصهاره لاستقبال التهاني والتبريكات من قبل المهنئين الذين يتزاحمون ، وتتلاصق
أجسادهم في عناق حميم حتى يقترب موعد صلاة المغرب فينصرف كل امرئ إلى حيث أراد ،
ليلتقوا ثانية في المساء .
الزفــــاف و
الدخــــلـة
في هذه الليلة يتم تهيئة العروس لزفافها إلى
بيت زوجها في أول ليلة عرس لهما ، وقد اعتاد أهل حضرموت أن يكون الزفاف في النصف
الآخر من الليل ، وإلى أن يحين ذلك الموعد يقضي الرجال جزءا من الليل في تسلية
العريس وأهله بحضور ما يعرف بـ (المرية) حيث يتجمع الكل لتناول وجبة العشاء التي
يبدأ بعدها سمر الرجال ، وهي فرصة سانحة لمن أراد أن يطفي نار الشوق لأداء رقصة
(زربادي) مع رفيقه ، فيتنافس الراقصون في تقديم البديع من الرقصات وسط آراء
الحاضرين بين مشجع ومثبط حتى ينفض السمر وقد اقترب موعد حضور العروس . كما أنه وفي
هذه الأمسية الفرائحية يتم خضب قدمي العريس بالحناء (دهينة) بحضور أهل زوجته الذين
قدموا خصيصا ليشهدوا ذلك ويطمأنوا أن كل شي على ما يرام ، وفرقة (الزربادي) تدور
حوله مباركة ومهنئة ببعض الأغنيات الفرائحية : (حنوا له .. غلب ما يحني) ، (طاب
ليلك يا عريس) .. وغيرها من الأهازيج الخاصة بالمناسبة ، بعدها يقوم العريس بأداء
رقصته الخاصة (صوت المعرّس) بمشاركة من أراد من الحاضرين ابتداء بأهله وأرحامه
وأقاربه وكذا أصهاره وأصدقائه كبارا وصغارا .
في بعض مناطق الوادي يستعاض عن رقصة
(الزربادي) برقصات شعبية أخرى مثل (الشبواني) و (الشرح) ، و تحبذ بعض الأسر
الحفلات الدينية والإنشادية ويفضل آخرون السهرات الفنية الغنائية والمساجلات
الشعرية وربما جلسات الدان الحضرمي والتي تستمر أحيانا إلى الساعات الأولى من صباح
اليوم التالي .
النساء في هذه الأثناء يعشن جوا راقصا رائعا
وهو ما يعرف بالمسامرة في انتظار تجهيز العروس ، وبعد أن تصبح العروس جاهزة للزفاف
، يحضر أهل العريس السيارات الكافية لجلب العروس ومن يرافقها . لحظات خالدة
وذكريات جميلة . وحانت لحظة وداع البنت لبيت أبيها الذي عاشت كل سني عمرها بين
جدرانه ، لترحل إلى بيت آخر ربما لم تدخله منذ ولادتها إلا هذه المرة ، فيا لها من
حيــاة !!
المشهد يتكرر مع اختلاف بسيط ، ما قد جرى
عصرا للعريس في هذا اليوم ، يـجري ليلا لعروسه ، فقد ذهب عشية لعقد القران معلنا
بذلك زواجه الميمون وطلب امرأته ، فهاهي تستجيب لذلك وتزف إليه في موكب ليلي حافل
يوقظ النائم من وقع الطبول والمراقيص التي حرصت النسوة على الضرب عليها بكل ما
يملكن من قوة في جو مشحون بالذكريات فكل واحدة تتذكر تلك الليلة التي أسري بها
فيها إلى بيت الزوجية ، حتى يصل الموكب إلى بيت العريس ، فيختلط الحابل بالنابل ،
ويزداد الحماس بين الفريقين ويرتفع صوت النسوة : عروسنا منصورة ، فيرد فريق العريس
: كلاننا يا المنصور ، حتى تدخل العروس مخدعها في انتظار الفارس الجديد ، فيأتي
منتصب القامة ليمتطي صهوة جواده ..
فــــعالـــيات
نـــــسـوية
في اليوم التالي وهو آخر أيام العرس ..
يطمئن كل فريق على صاحبه .. كيف قضيت الليلة ؟؟
يسمى هذا اليوم بيوم (الصبحة) حيث يتسنى للعريس
رؤية عروسه وهي ترقص على استحياء بين يديه يحيط بهم محارم العريس ، وساتر يحول
بينه وبين رؤية غيرهن .. وتجلس المشترحات متلفعات بجلابيبهن في ركن خاص يرددن
الأغنيات والموشحات ، وربما قالت إحدى قريبات العريس أبياتا من (الخيبعان) في مدحه
وأعمامه وأخواله .. فيطيب المجلس للعريس الذي ما يلبث أن يفاجأ : قد انتهى موعد
المكوث بيننا ، فيجر أذياله على مضض وهو في أشد الشوق لعروسه الجديدة التي تعد
الدقائق هي الأخرى لتلتقي به ثانية ..
بعد الظهر يتجمع الأهل في آخر وجبة لهم في
بيت الزوج .. ويـجهّز مكان خاص لأهل العروس يلتقون فيه بصهرهم وزوج ابنتهم الجديد
الذي صار اليوم عضوا فاعلا في الأسرة وأضيف اسمه إلى قائمة الأصهار .
وفي العصر يحين موعد (الظلة) وهي اجتماع
النساء من المدعوات وغيرهن ليرى الجميع العروس الجديدة في حفل نسائي حاشد يحضره
القاصي والداني ، ويستغل المفترشون من الباعة الفرصة فيعرضون بضائعهم المختلفة مما
يخص النسوة والصغار واحتياجات المنازل ، فتهتبل الكثيرات من النساء الفرصة لشراء
ما كانت تبحث عنه .. هذا في الخارج ، وفي الداخل تشرئب أعناق النساء لتتبين ملامح
العروس التي تم الكشف عن وجهها مرتدية ثوب زفافها وقد احمرت وجنتاها من شدة الخجل
فكل العيون تحملق فيها ، وربما وصلت بعض الأيادي إلى فستانها وإلى بعض أجزاء جسدها
، إلا أن (الكوبرة) تحاول قدر المستطاع الدفاع عنها ، حتى يحين موعد الانصراف ..
خــــــــــــــــــــتـام
ويعبر أحد المدعوين عن انطباعاته " من
أجل هذين الاثنين تحمّل حشد كبير من المحبين السهر والتعب والنصب " ولكن هذين
الاثنين هما أسرة جديدة ، بيت جديد ، جيل جديد ..
هكذا تعيش حضرموت الوادي أيام إجازة الصيف في مهرجانات فرائحية ما تلبث أن تهدأ ، إلا لتبدأ من جديد ، فالدعوات تصل تباعا إلى كل بيت ، وربما صادف أن كان في اليوم الواحد أكثر من حفل زواج ، فيأخذ كل فرد من أفراد العائلة وجهة ، حفاظا على دوام الألفة وجبر الخواطر والقلوب ..