مع إطلالة عام جديد، وتوديع عام مضى نقف عند ذكرى الهجرة النبوية الشريفة التي تحبس أنفاس التاريخ وتُسطر أروع الأمثلة في التضحية؛ لقد بعث الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هادياً ومبشراً ونذيرا، فقد جاء بدعوة تملأ القلوب نوراً، وتشرق العقول رشداً، فتسابق إلى قبولها رجال عقلاء، ونساء فاضلات، وصبيان في مقتبل العمر.
وبقيت تلك الدعوة على شي من السرية، وكفار قريش لا يأبهون بها؛ فلما صدع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أغاظ المشركين، وأخذوا يعادون الدعوة ويصدون عن سبيلها، وأخذوا يكيلون للمسلمين صنوف العقاب، ويسومونهم سوء العذاب، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يتعرض له أصحابه من الابتلاء وليس في استطاعته حينئذ حمايتهم أذِنَ لهم في الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة ثم لحق بهم المدينة.
والناظر في الهجرة النبوية يجد فيها فوائد جسيمة، ودروساً عظيمة، وما أحوجنا في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها الوطن العربي، لاستخلاص الدروس والعبر من هذه المناسبة العظيمة فمن ذلك على سبيل المثال:
1- الأخذ بالأسباب:
ويتجلى ذلك في استبقاء علي بن أبي طالب للمبيت في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، ومصاحبة أبي بكر رضي الله عنه في رحلته.
ونستفيد أنه يجوز الاستعانة بالكافر المأمون إذا كان هناك مصلحة للإسلام والمسلمين إذ استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبدالله بن أريقط حيث كان خبيراً ماهراً بالطريق.
2- التواضع والاعتدال حال السراء والضراء:
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة مكرهاً فلم يخنع ولم يذل، ولما عاد منتصراً لم يطش زهواً ولم يتعاظم تيهاً، فعيشته يوم أخرج من مكة كارهاً كعيشته يوم دخلها فاتحاً منتصراً.
3- اليقين بأن المستقبل للإسلام والمسلمين:
فالذي ينظر للهجرة من البداية يظن أن الدعوة منتهية ومصيرها الزوال والاضمحلال، ولكن الدعوة تعطي درساً في الثقة بنصر الله.
4- معية الله مع الرسول "ص" وأتباعه: ويتجسد ذلك في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لما كان في الغار "ما ظنك بإثنين الله ثالثهما"، جواب يحمل في طياته الثقة بنصر الله في أحلك المواقف والتوكل على الله في أصعب المواقف.
5- الابتلاء والصبر ضريبة الظفر والنصر:
الابتلاء من سنن الله ليستبين صبر المسلم ويعظم أجره عند الله، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.
6- الحاجة إلى روح التصالح والتسامح:
تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة لأصناف من الأذى والسب والاحتقار والاستهانة والرمي بالحجارة فيضرب عنه صفحاً وعفواً؛ ولما عاد إلى مكة منتصراً لم ينتقم وهو قادر على الانتقام بل سامح من أذاه، وهذه سنة الله في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أنهم قد يتعرضون لما تعرض له رسولهم فعليهم بالصبر والتسامح.
7- الهجرة تأهيل للحكم:
بعد الهجرة صار الصحابة رضي الله عنهم مؤهلين للاستخلاف وتحكيم شرع الله.
8- بناء المسجد والاتصال بالله:
بناء المسجد أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم فور وصوله إلى المدينة لربط الناس بربهم وليكون المسجد منطلقاً للعبادة ولجيوش العلم والدعوة والجهاد.
9- الأخوة وذوبان العصبيات والتحزبات:
المؤاخاة ثاني عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم بعد بناء المسجد لربط المجتمع بعضه ببعض، فالإسلام يربط المسلم بربه ومجتمعه وإخوانه ويذيب فوارق العصبية القبلية والحزبية: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
10- أهمية دور المرأة:
ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما.
11- أهمية دور الشباب في نصرة الحق:
ويتجلى ذلك في الموقف البطولي الذي قام به علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين عرّض نفسه للخطر ونام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة.
ودور عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه حيث كان ينقل أخبار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه.
12- قيام الحكومة المسلمة والمجتمع المسلم:
طُرِدَ النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فأقام في المدينة دولة، ضحى بنفسه وكل ما يملك لأجل نصرة الإسلام فكان له ما أراد وهكذا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم مهما تعرضوا من ابتلاء وأذية فمصيرهم الفوز وأن الله سينصرهم ويحقق مرادهم.
الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة، وأعظم حدث غيَّر مجرى التاريخ وأحببت أن أقف مع هذه الذكرى بهذه المقالة لعلنا نستفيد منها في واقعنا المعاصر.
بقلم : محمد سعيد باوزير