قبل خمسة وأربعين عاما من تاريخنا الوطني المليء بالأحداث الموزعة أتراحا وأفراحا: رحل آخر جندي من جنود الاستعمار الأجنبي البغيض ، ورحل معه الظلم والقهر والاستبداد ونهب خيرات وثروات وطننا الحبيب ، وأطلت شمس الـ30 من نوفمبر المجيد ، صانعة فجر العزة والكرامة والشموخ لشعبنا ، مدخلة البهجة والسعادة في قلب كل يمني محب لأرضه ، مستشعرة كريم ونبل تضحيات الشهداء الأحرار الصانعة لأشعة ذلك الفجر الاستثنائي ، المبرز لعظمة اليمنيين وقوة بأسهم الشديد ، ومقتهم لكل ألوان القهر والاستبداد على مرّ التاريخ.
نهض اليمنيون في شمال الوطن وجنوبه بعزم الأبطال مشرئبة أعناقهم ، متسعة حدقاتهم ، ترنوا أبصارهم لرؤية غدٍ أفضل ويمن أجمل طالما حلموا برقيه ونجاحه وتقدمه. فكدوا في البناء ، ماضون بهمة كبيرة ، وقودهم الإخلاص ، ودافعهم الحب ، وهمتهم الوطنية ، وسلاحهم الإيمان ، وعدتهم ميزات البلد الوفيرة.
تحقق الكثير ، ونغـَّص تمام الرؤية و اكتمال الطموح وجمال الحلم: مستجدات الاطماع ، وغلبة الأهواء ، وانتشار الفساد ، الذي تغول مع مرور الأعوام ليضرب مكتسبات الوطن ومقدراته طاما سائر خيراته ، حتى أضحت الصورة القديمة للاستعمار متجددة وواقعا معاشا ، ولكنها أكثر إيلاما وأشد وجعا ، لتمثلها في أبناء جلدتنا وظهورها في إخوتنا من أهلنا بوطننا العريق.
لذا فقد أصبحت الدعوة للاستعمار الحقيقي مطلبا واقعيا ، بل واجبا شرعيا ، وفرضا أخلاقيا ، وضرورة وطنية ملحة.
خاصة وقد اكتوى شعبنا بالاستعمار الباطل الداخلي والخارجي ، فحارب الثاني وأجبره على الرحيل في الـ30 من نوفمبر الخالد ، وكبلته علاقة الدم والمصير المشترك في الثاني ، إلاّ أنه قد ضاق به ذرعا ، وآن لكبرائه المستبدين أن يرعووا عن غيهم ، ويستغفروا الله ذنوبهم ، ويكتفوا بما لديهم ، ويعيدوا الحقوق إلى أهلها ، ويطلبوا الصفح من إخوانهم ، ويحسنوا أعمالهم ، ويدخل الجميع في الاستعمار الحقيقي ، طاعة لله ، وحبا في الوطن.
ومن ثم فهذه دعوة مخلصة لتفعيل الاستعمار في يمننا الحبيب ، فقد عانى كثيرا من أضرار الاستخراب وآثار الاستبداد ، ولتوضيح مقصد هذه الدعوة فلنتأمل قول الحق سبحانه﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اْلأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾، والألف والسين والتاء- عند علماء اللغة- تقتضي الحث والطلب ، كما تدل على المبالغة ، لذا فالتأكيد الرباني على الاستعمار يوجب العمل والاهتمام به.
وهذا يدعو إلى بيان المراد بالاستعمار وتصحيح الخطأ الشائع لدى الكثيرين لمفهومه ، فقد استخدم مفهوم الاستعمار في عصرنا بمعنى خاطئ ولعله كان مقصودا من دوله الخبيثة التي نهبت الخيرات واستعبدت العباد(سيتجلى فهمه عند توضيح معناه الصحيح) ، أو سرى على ألسنة المثقفين وتناقلته العامة دون وعي من الغالبية بمعناه السليم ، وأصبح مفهومه الشائع يدل على تسخير البلدان أرضا وإنسانا لمصلحة المحتل.
والحقيقة أن معنى الاستعمار: هو عمارة الأرض بشقيها المعنوي والمادي ، المعنوي في العمران البشري والترقي الاجتماعي للإنسان ، والمادي في العمران المدني المحقق للنماء وتسهيل وتطوير الخدمات ، وكل ذلك في بوتقة جلب المصالح ودرء المفاسد ، بما يقوي المجتمعات ويطور البلدان ، ولا تحقق لذلك إلاّ من خلال تكاتف وسعي الجميع إليه: أفراد وجماعات ، هيئات ومؤسسات ، أحزاب ومنظمات ، تكتلات وأقليات ، حتى أقاليم وولايات ، وبكل مكونات وتعدد بيئة اليمن المتنوعة من مختلف الساحات.
والبلد بواقعه الحالي المزري بسبب مخلفات الاستعمار بمفهومه الخاطئ ، بحاجة إلى إعماره بكل مظهر من مظاهر الرقي والحياة ، وهذا يستدعي جهودا كبيرة من ابنائه الصادقين لانتشاله من بؤرة التصارع والتعارض والتنازع وتغليب المصالح الاستعمارية المتعددة والضيقة ، وإدخاله في فسحة الاستعمار الحقيقي بمفهومه الرباني الخيِّر ، المحتاج إليه بقوة وسرعة قبل أن يعض الجميع أنامل الندم ، وتغرق سفينة اليمن بمن فيها.
لذا يجب على الجميع تفعيل مبدأ الاستعمار ، ليعمر اليمن بكل ما يعيده في مدارج الحضارة والتقدم والبناء ، وإن هذا الإعمار على رأي شيخنا الشعراوي - رحمه الله- (يحتاج إلى مجهود ، وإلى مواهب متعددة تتكاتف ، فلا تستقيم الأمور إنْ كان هذا يبني وهذا يهدم.. لا بد أنْ تُنظم حركة الحياة تنظيماً يجعل المواهب تتساند ولا تتعاند ، وتتعاضد ولا تتعارض).
فليعضد بعضنا بعضا ، ولنرمي الماضي بكل مآسيه خلف ظهورنا ، ولنضحي بمصالحنا الفانية لأجل المصلحة الكبرى في تقدم وازدهار اليمن.. خاصة ونحن مقبلون على مرحلة هامة لتطبيق المرحلة الثانية من المبادرة الخليجية المحددة لمسار الخروج من المأزق الوطني ، المعينة على تشكيل ملامح الدولة المدنية بمؤسساتها الوطنية المرتقبة ، عبر آلية الحوار المتوقف على نجاحه ضمان الاستقرار، وبحمد الله ثم بدعم الأشقاء والأصدقاء ، قد قـُطع شوط كبير ومهم فيه ، ويقتضي تمام نجاحه خلق تهيئة بتهدئة إعلامية من جميع الفرقاء تعين على مسببات إنجاحه ، لذا فالتهدئة الإعلامية واجب وطني ، ينبغي على الجميع السعي لها والالتزام بها ، فهي الدلالة الحقيقة على صدق النوايا والحرص على سلامة الوطن.
ولتكن ذكرى الـ30 من نوفمبر وفرحتنا برحيل المستعمر باصطلاحه الخاطئ ، فرصة لتوحيد الكلمة ، وبداية صادقة في طريق السير للاستعمار بمفهومه الرباني ، وقد أفلح الصادقون في انتهاجه مسارا ، وتفعيله ممارسة وسلوكا ، وعاشت اليمن بالوطنيين والشرفاء من أبنائها حرة عصية على الطامعين بمقدراتها ، وكل عام ومنجزاتنا الاستعمارية ترفع اليمن مراتب في سلم المجد والنماء.
بقلم : محمد عمر الضرير