هذه نماذج من ضغوط الحياة .. لكنها لم تحل بين رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه .. بل بددوها .تجاوزها .. قفزوا فوقها .. وضعوها تحت أقدامهم .. وصدق الله : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص : 56]
(3) وفي أمريكا أمثلة وليس مثال
مالكوم إكس (مالك شاباز) : حياته قصيرة .. لكنها سلسلة من متتالية هندسيا من التحولات والتقلبات .. فمن قاع الجريمة .. إلى الانحراف العقدي .. إلى التطرف العنصري .. إلى الإسلام فطرة الله التي فطر الناس عليها .. إلى النهاية : اغتيالٍ بستة عشر رصاصة من متطرف يهودي ..
إنه أحد قادة السود في أمريكا الذي لا يعرف عن الإسلام سوى ما يعرفه أمثاله دين الكرامة الإنسانية والمساواة والعدالة الاجتماعية ، دين يمنع الظلم والاستغلال والربا ، ويشجب العنصرية . فلا صلاة ولا زكاة ولا حج . ثم تعرف على جوهر الإسلام حين كان يخطب في الجامعات الأمريكية شاناً هجوما على الجنس الأبيض والشعوب البيضاء ، ويحشد كل خبراته في أفق عنصري ، فيحتك ببعض الطلاب المسلمين القادمين من ديار الإسلام ، أراد بعض الشباب أن يعرفوه على الإخاء الطبيعي للمسلمين الأبيض والأسمر والأشقر والأحمر والسود والأصفر ، من كل عرق ولون ، فطلب منه بعضهم أن يسافر لأداء فريضة الحج ، وكان لا يعرف شيئا عن الحج ، بل والصلاة لا يعرف عنها إلا أنها تبدأ باسم الله الرحمن الرحيم . فأراد أن يتقصى حقائق هذا الدين من مهدها ، فازدرى الفكرة ابتداءً ، فهو لا يخطر بباله شيئا عن تعاليم الإسلام سوى ما بشر به اليجا في ديترويت وشيكاغوا ، لكنه أخيرا عزم على أداء فريضة الحج استجابة للإلحاح فشدَّ رحاله لأداء فريضة الحج عام 1384هـ الموافق عام 1965م فتتالت عليه إمارات التوفيق ، بدءً بتعرفه على الداعية المصري الأصل محمد يوسف الشواربي الذي حصل على تأشيرة دخول الأراضي المقدسة بناء على توثيقه ، وقدَّم له نسخة مهدية من مؤلف كتاب : (رسالة الإسلام الخالدة) عبد الرحمن عزام مستشار الملك فيصل غفر الله له من غير تعارف بينهم سوى القراءة عنه في الصحف ، اهتز مالكولم إكس لهذا التكريم . وفي الطائرة التي أقلته من نيويورك إلى القاهرة احتفى به جاريه المسلمين في المقعد وكان أحدهما متجه إلى القاهرة وأما الآخر فمتجه إلى جدة . وفي القاهرة غمره المسلمون وفي مقدمتهم ابن الدكتور الشواربي بالدفء واللطف والعطف والحب والاحترام ، ثم تعارف عليه ركاب الطائرة المتجه من القاهرة إلى جدة وسرى همس بينهم عنه فتوافد الركاب فرادى وجماعات يعانقون المسلم الجديد القادم من بلاد أمريكا ويحيطونه بشعورٍ من الأخوة والمحبة ، حتى كابتن الطائرة أتاه من غرفة القيادة وحياه بحرارة ورافقه إلى جدة ، وبقدرة الله كان الكابتن أسمر وداكن البشرة مثله ، ولم يتصور أن أسودا يمكن أن يقود طائرة فتلك وظيفة لا يسمح بها للسود في أمريكا . فتضاعف سرور المسلم الأسود مالكولم إكس (مالك شاباز) لذلك .
وفي مطار القاهرة حين لبس الإحرام مع الآلاف المؤلفة ورأى أن كل مسلم ملكا أو رئيسا أو أميرا أو وزيرا ، خادما أو موظفا ، صانعا كان أو فلاحا ، مهندسا أو مدرسا ، يكون الجميع في زي واحد متواضعا يتكون من قطعتين من القماش الأبيض الرخيص ، اعتز كيانه مرة أخرى ، وحين نزل مطار جدة ورأى كافة أجناس وألوان البشر أصحاب العيون الزرق والسود ، والشعور الشقر والسود في هيئة واحدة تقريبا ، يلهجون جميعا : لبيك اللهم لبيك .. يستقبله ضيوف الرحمن والابتسامة على محياهم من غانا واندونيسيا ، ومن الصين واستراليا ، من كل حدب وصوب لا تفصل بينهم فوارق اللون أو العرق قال : لا أظن أن كمراء متحركة قد تمكنت في أي يوم من أن تلتقط منظرا أكثر تلوينا من هذا الذي تراه عينايا الآن .
كانت رحلة الحج هذه كفيلة بتصحيح فهمه للإسلام ومن ثم تصحيح فهوم السود في أمريكا معه . ومن هنا انطلقت رحلة الإسلام الحق في أمريكا . واليوم يعتنق الإسلام أكثر من 12 مليون مسلم منهم :
فاروق عبد الحق مستشار الرئيس الأمريكي ( نيكسون ) للشؤون الخارجية :
عندما تبلور العداء الأمريكي للإسلام كدين وحضارة وفكر وأخلاق انطلقت أقلام القوم كل يدلو بدلوه ، وكان من بين هؤلاء الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون ! ففي معمان الحرب التي أعلنتها أمريكا على الإسلام طالعتنا المطابع بكتب كثيرة منها كتاب : صراع الحضارات ، والإسلام والغرب .. فكتب نيكسون كتابه : انتهزوا الفرصة ، نلخص ما ذكر فيه : أنه بعد سقوط الشيوعية لم يعد هناك خطر يواجه الحضارة الغربية إلا الإسلام ، ولما كان المسلمون اليوم على قدر من التخلف والضعف والتفكك والاعتماد على الغرب في كل شيء وفي مقدمة ذلك السلاح ، فعلى الغرب أن ينتهز الفرصة السانحة فيقضي على المسلمين ، لطمس الإسلام من عقول وقلوب أبناء المسلمين حتى يعيشوا بلا هوية فيتم غرس التصورات الغربية ليسهل على الغرب التفاهم معهم !!
ولكن بعد شهور قليلة من هذا الكلام القذر طالعنا الرئيس نفسه بكتابه الثاني وعنوانه : ما بعد السلام ، فناقض كل النظريات التي طرحها في الكتاب السابق ، فأشار إلى أن دروس التاريخ علمتنا أنه ما فيه حضارة من الحضارات الإنسانية استطاعت الاستمرار من دون قيم روحية عليا وضوابط سلوكية وأخلاقية صحيحة ، وأن الحضارة الغربية الراهنة رغم تفوقها العلمي والتقني ونجاحها الاقتصادي ، إلا أنها تعاني من الخواء الروحي ، ومن ضياع القيم الأخلاقية السامية والضوابط السلوكية والتي من أبرزها : ارتفاع معدلات الجريمة وانفلات الشباب من كل قيم أخلاقية أو ضوابط سلوكية ، وانتشار الزنا وارتفاع أعداد الحمل بين المراهقات وعدم تعرف غالبية طلاب المدارس على آبائهم ، وأعداد الأمهات بطريقة غير شرعية ، والانحرافات الجنسية والأمراض المصاحبة وتفشي المخدرات وارتفاع معدلات الإدمان ، وانتشار نزعات التمييز العنصري وغير ذلك من الأدواء في المجتمعات الغربية . على النقيض تماما مما حملته الحضارة الإسلامية التي لا تزال رغم ضعفها وتخلفها العلمي والتقني والعسكري والسياسي والاقتصادي تحتفظ به من قيم روحية عليا وضوابط سلوكية صحيحة وأخلاق نبيلة وغيرها من القيم التي لا بد للغرب التأمل فيها بين الحضارتين من أجل صالح البشرية .
لا شك أنك لمست التناقض واضحا بين الكتابين رغم أن المدة بينهما ليست طويلة والإنسان لا يغير معتقداته 180درجة إلا نتيجة تراكمات فكرية طويلة فماذا حدث ؟
لقد تعرض نيكسون لحملة إعلامية واسعة بسبب هذا التناقض الذي وقع فيه مما دفعه لعقد مؤتمر صحفي ليبرر فيه سبب هذا اللبس في أفكاره من أبرز ما قاله : أن أحد مستشارية كان يحرص على استشارته لتخصصه حتى بعد خروجه من البيت الأبيض وأنه حين فكر في كتابه الأول أرسل إليه بملفات الاستخبارات الأمريكية عن الإسلام والعالم الإسلامي ، ولكن هذا المستشار أبطأ عليه فأخرج كتابه الأول بالمفهم العام للإدارة الأمريكية فكان كما رأيتم ، بعدها جاءه مستشاره يعاتبه على ذلك التصرف وسامه تلك الخلاصة التي ضمنها كتابه الثاني فكان التناقض بين الكتابين واضح جلي ، ومما قال نيكسون أن مستشاره قد شكره على إحالته ملفات الاستخبارات إليه وأنه قد استفاد منها كثيرا وأنه لم يتم قراءتها بعد فاستأذنه في مواصلة الدراسة لها فأذن له . توجه الصحفيون إلى المستشار الدكتور روبرت كوين أبرز المتخصصين في دراسة الحضارات الإنسانية ليطلعوا على حقيقة الخبر فوجدوا المفاجأة هناك : أن دراسته لملفات الاستخبارات الأمريكية عن الإسلام والعالم الإسلامي قد تحولت من دراسة أكاديمية إلى رحلة روحية ، وأنه لم يتم قراءته حتى أعلن : أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
قرأت في مجلة الشقائق الشهرية الإماراتية العدد 77 / ص : 32 ذو القعدة 1424هـ الموافق يناير 2004م حوار مع مستشار الرئيس الأمريكي ( نيكسون ) للشؤون الخارجية فاروق عبد الحق مما جاء في تلك المقابلة : حضرتُ أحد المؤتمرات كي أرى ما هية هذه الدراسات و الأطروحات المقدمة ، وكان ذلك في خريف عام 1980م ، وكان مشاركا في المؤتمر الكثير من قادة الفكر الإسلامي ، ومنهم الدكتور حسن الترابي الذي تكلم عدة مرات ، وشرح الإسلام تماما كما كنت أبحث عنه ، فأدركت أنه متقدم في أفكاره ، ثم رأيته وهو يصلي ويسجد ، وكنت ضد مسألة السجود ، لأن الإنسان في نظري يجب ألا يسجد لأحد ، ففي هذا إهانة له ولإنسانيته ، ولكني أدركت أن الشيخ حسن الترابي لم يكن يسجد لأحد ، وإنما يسجد لله ، وقلت في تفسي إذا كان حسن الترابي ينحني لله ويسجد له ، فالأولى أن أنحني وأسجد أيضا ، وهاكذا فعلت ، ودخلت الإسلام من يومها على يد الدكتور الترابي . لقد شغل الدكتور فاروق عبد الحق أو عبد القادر منذ عام 1963م منصب نائب الرئيس نيكسون للأمن القومي في البيت الأبيض ثم مستشارا للشؤون الخارجية لمدة أربع سنوات حتى العام 1969م حين استلم هنري كسنجر وزارة الخارجية وعزله بسبب 25 ورقة كتبها في كتاب له حول فلسطين اقترح فيها تشكيل دولتين يهودية وفلسطينية هناك !!
ومن ذلك الحين غير د . روبرت كوين اسمه إلى فاروق عبد الحق ، ولم يستلم أي منصب سياسي ، وألف كتاب بعنوان : القيادة الإسلامية للقرن الواحد والعشرين ، ومنذ 19 عاما يقوم بخدمة الإسلام فعمل بعد إسلامه مديرا للقسم القانوني للمجلس الإسلامي الأمريكي والرئيس المؤسس لرابطة المحامين الأمريكيين المسلمين والرئيس الأول لجمعية هارفارد للقانون الدولي ، وأسس صحيفة هارفارد للقانون الدولي ، وله مقالا ثابتا عنوانها : إمكانية استفادة الحضارة الغربية من القيم الروحية العليا والضوابط الأخلاقية والسلوكية النبيلة التي جاء بها الإسلام العظيم ، ينشرها في دورية أمريكية ربع سنوية اسمها : نيو برو سبكتف ، وله عشر كتب وخمسين مقالة اختصاصية حول الأنظمة القانونية المقارنة والاستراتيجية العالمية وإدارة المعلومات . هذا هو إسلامنا ينتشر في أوساط كبار المختصين بذاته ، أفلا يكون ذلك حافزا لنا على العمل من أجله ولو بشطر كلمة ولو بتكثير سواد الدعاة إليه ، ولو ببذل الغالي والرخيص ، وفي الحديث : ( لئن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم )
الفيلسوف د . جريميا
تحدث الفيلسوف الأمريكي د. جريميا عن قصة إسلامه ومدى تأثره بالقرآن كتاب الله الخالد [انظر مجلة الوعي الإسلامي 519/81] فذكر أنه : لن ينسى أبدا ذلك اليوم حين حصل على ترجمة للقرآن فقرأها بأكملها في جلسة واحدة !
وأن القرءان من أول وهلة أخذه بلبه ، فقد كانت بدايته (سورة الفاتحة) عبارة عن دعاء أحببته فورا ، ففي الحقيقية هو ما كنت دعوة به سابقا : أهدني ، اجعلني مع من تحبهم ! وفي السورة الثانية يُعطي وصفا لأولئك الذين يخاطبهم : أُناسا يؤمنون به ، يُقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويؤمنون بالرسل ، ويقولون أن القرءان حق من عند الله ، لا شك فيه ، هدىً للمتقين ، وذلك ما كان يريده منذ سنوات !! هكذا كان القرءان يكلمه مباشرة كفرد ، لم يكن مجرد نص قديم عمره 1400سنة ، لقد أسره حقا ولم يُفْلِتَه ! تخخل إلى عقله آياته مرارا فيكرر: يا إلهي ! كان مذهولا ، إنه حقا وحي ، إنه كلام الله ، لم يؤكد له المسائل التي فكر بها سابقا بل أكمل أفكارا ومفاهيم كان قد أدركها على نحو غامض ، بل كشف له عن عالم جديد كليا . كان الدليل البين يغمر يغمر عقله قلبه وروحه ، فيقول : إن الإسلام ببساطة مذهل ورائع نابض بالحياة متألق كيفما ظهر ، لا سحر فيه ولا خرافة ، إنه دين مبهر ، ماذا بوسعي أن أقول غير : الحمد لله وسبحان الله ..
بقلم الأستاذ : محمد يسلم بشير
الحلقة السابقة