من أجل ذلك كرهت الولائم و الكبسات !!

كان يا ما كان ، بس مش في قديم الزمان و لا في سالف العصر والأوان ، أن دُعيتُ في يوم فاضل إلى حضور " كبسة " من الكبسات الخاصة لا العامة التي ينتظرها الناس على أحر من الجمر وأشد من شوق الحبيب إلى لقاء حبيبه ، كانوا يستبشرون بها لما فيها من مقامات الإكرام والتبجيل للمدعوين .. ففيها اللحم الرطيب " الدغو " الذي هو أعز مطلوب وأندر موجود ، والرز البسمتي الخفيف على المعدة وسهل التشكيل والحمل خلال التلقيم في الأكف والأيدي ، إلى ما بين ذلك من فقاش " البطاطس"  المتناثر على المعشرة ، وفيها التحسينات المحبوبة من الفواكه والخضار ، وختامها ( قشعة ) عريضة بالبيبسي المثلج في قناني السفري التي يمكن أن تأخذها حيث تريد وتشربها متى شئت ثم ترمي " الغرشة " أو تعطيها لأحد أصحاب الدكاكين ليضع فيها الخل ـ المشروب الروحي للشربة في رمضان .

ومع أنني لست من المتحمسين كثيراً لحضور مثل هذه المناسبات المكبوسة إلا أنني واستشعاراً مني لواجب إجابة الدعوة وتشجيعاً من بعض الأصحاب ( المخلصين ! ) للحضور ونظراً لقرب مكان ومنشأ الكبسة من بيتي استجمعتُ شجاعتي وقررتُ الحضور .. وبالفعل ذهبتُ برفقة أحد الأصحاب ـ الذي كان أول من لطش بي في الزفة كما سيأتي وستعرف .

دخلنا المكان ولمّا يتم القدح والإعداد و التجهيز .. وجلسنا معاً بانتظار بقية المجموعة " الفرقة " والذي يجب وجوباً صارماً أن تتكون من أربعة أشخاص على أقل تقدير ، علماً بأني أساوي نظرياً شخصين بالغين عاقلين أو شخصين ونصف حسب قوانين الفيزياء النظرية و التطبيقية وحسب النظرية النسبية لأنشتاين .. بالطبع هذا الحجم العائلي غير مرغوب فيه البتة .. لذا يتحاشاه الجميع ولا يحبون أن يكون من بين الملقّمين .. فهو يساوي في نظرهم أكثر من شخص .. وهذا سيؤدي إلى خلخلة في منظومة الكبسة الاقتصادية .. ومع انتظارنا لشخصين آخرين لإكمال الفرقة ذهب صديقي    ( المخلص ) فجأة و راغ عني كما يروغ الثعلب أو الثعبان ليكمل فرقة أخرى وينضم إليها .. وتركني وحيداً فريداً أي تركني مع نفسي .. ومع توافد الناس لم أُلقِ بالاً لتصرفه الأرعن هذا .. وفي أغلب ظني أن سيأتي غيره ليجلس معي ونكوّن الفرقة بالعدد المطلوب .. ولكن , وآه من لكن .. طال انتظاري وطال .. فلم يجلس معي أحد .. كان الجميع يتحاشونني ويتصنعون كأنهم لا يرونني .. ويصنعون فرقاً أخرى .. لم أعلم لماذا يفعلون ذلك ؟! .. ولم يدُر بخلَدي أن الجميع يراني في صورة وحش كاسر .. إلى أن جاء أحد الإخوة وجلس بجانبي .. فرحتُ كثيراً بهذا الشخص وتخيلته بمثابة طوق نجاة أُلقي إلي وأنا في قمة الغرق، أو كأنه درهم أُلقي في يد فقير وهو في فقر مدقع، أو كأنه صينية أو صحن احتوى كبسة بعد أن كانت ضائعة هائمة في طست كبير .. وعلى كل حال طابت نفسي ، وهدأت روحي وأخذتُ أتحدث معه بكل طلاقة وانتشاء .. وفجأة ناداه الذين بجانبي وطلبوا منه أن يكمل العدد .. وبكل احترام ووقار اعتذر مني واستأذنني بالتحول إليهم والانقلاب إلى جانبهم .. بالطبع أذنتُ له مع ابتسامة ثقة أردت له أن يشعر بذلك مني .. وتحوّل.. ومع تحوله عادت لي المشاعر الأولى وتهتُ في ظلام الوِحدة البهيم .. لا شيء أقسى من الانفراد والوحدة .. الوحدة النفسية الشعورية حتى وإن كنت بين مئات الناس !! .. لم يجلس معي أحد .. وصرتُ كالعروس في ليلة " السندة " .. الجميع ينظر إليّ في خُفية ولكن بنظرات تغلفها الشفقة .. أو ربما أنا من كان يشعر بذلك في هذه الدقائق التي مرت عليّ كأنها ساعات بل كأيام طوال تمنيت خلالها الأرض أن تنشقّ وتبلعني كلقمة رطيبة في فم شخص شَرِه" خَوِر" .  

بدأ توزيع ( الصياني ) وأنا لا زلتُ وحيداً .. تدمرتُ نفسياً أكثر بعد أن سمعت أحداً من الأشخاص ممّن بجانبي من الفرقة الذين كان ينقصهم شخص وهو يأمر أصحابه بأن يلتمّوا ويحادُوا بين الركب حتى لا يتركوا ثغرة لي أو لأمثالي أن ينحشروا بينهم .. ولا شك أنهم كانوا يستشعرون مدى الخطر الذين سيحدق بهم لو جاء أحدنا وجلس معهم !!

كم هي لحظات قاسية ومؤلمة أن يجرحك الآخرون وهم يشعرون أو لا يشعرون .. يجرحونك بأشياء تافهة لا تستحق كل هذه الأنانية وحب الذات .. لقمة من الرز .. قطعة من اللحم .. هل أصبحت هذه الماديات البسيطة سبباً في أن نتعامل مع بعضنا بهذه القسوة والأنانية ؟؟ أين الإيثار بين المؤمنين ؟؟ هل هي شعارات نرفعها ولافتات نرددها دون أن نطبقها ؟؟ و كيف إذا نزلت بنا الشدائد والمجاعات ـ لا قدر الله ـ كيف سيكون حالنا ونحن نتعامل بهذه الوحشية الغابوية في أيام الدعة والأمن ؟؟ .. بعد مدة يسيرة ـ بالنسبة لي ليست يسيرة ـ جاء بعض الإخوة المتأخرين وتناولتُ معهم الإفطار ولكن بعد ماذا ؟؟ .. لم أشأ أن ألعن اليوم الذي ذهبتُ فيه إلى هذه الكبسة لأن اللعن أولاً لا يجوز فليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء، ولأن الأيام كانت فاضلة والليالي فضليات .. ولكني قطعاً لم أنكر أني استفدتُ درساً من دروس الحياة وعبرة من عبره التي لا تُنسى .. هذه حكايتي مع " الكبسة " .. لقد رضيتُ أن أكتبها ليس لأنها قصة وكفى بل لكي نصلح من خلالها ما فسد من أخلاقنا وتعاملنا مع بعضنا البعض .. وتوتة توتة خلصت الحدوتة .. قولوا لي : حلوة و إلا فتفوتة ؟؟ .

بقلم / أحمد عمر باحمادي

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص