لكل يوم دولة ورجال ، هكذا يقولون عند ما تتحوّل الأوضاع وتتبدل الأيام ، طاوية مراحل زمنية ومُفنية للدول والحكام ، ولكنها سنة كونية ماضية على مراد الخالق سبحانه وتعالى ، ولمّا كانت مساعي الناس ودأبهم في هذه الحياة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بتحقيق مصالحهم المادية والروحية ، كان لا بد أن تتحول مواقفهم وتتغير أساليبهم وطرق الوصول إلى تلك المصالح والحاجيات ، وهذا ما يؤكده واقع الممارسة اليومية التي ينطلق منها جميع الناس بدون استثناء.
ولكن المذموم في هذا كله أن تصبح الاحتياجات والمصالح الشخصية هي المقياس والمنطلق الذي تتجه منه مواقف القيادات المجتمعية تحت غطاء الدفاع عن المصالح العامة والاحتياجات الكبرى للجماهير ومن خلال التهييج العاطفي واستغلال المشاعر والأحاسيس الجياشة التي تنطلق منها تلك الجماهير تبعاً لأصوات القيادات وثقة بها على ما يبدو منها من تعاطف واهتمام مظهري بما تطمح تلك الجماهير للوصول إليه ولو على مدى زمن طويل طالما وقد منحت تلك القيادات شيء من الصلاحيات والتفويض للحديث باسمها بحكم وصولها إلى مواطن صنع القرار والتمثيل المفترض وإن كان ذلك الوصول مرتبط أساساً بطرق وأساليب لا تخلو من التحايل والتدليس.
غير أن طول الزمن وتطور وسائل الحياة ومستوى وعي الناس لم تعد تساعد على استمرار تلك الأساليب خصوصاً وقد ظهر التناقض الواضح والتلاعب الفاضح لتلك القيادات التي لا زالت تحاول العزف على أوتارها القديمة وترديد اسطواناتها المشروخة في عصر تجاوز تلك الأساليب والحيل بما لا يقاس مع زمانها المنقرض منذ عشرات السنين.
بعد هذا التقديم الطويل تعالوا معنا لعرض وتحليل شيء من المواقف الماضية لبعض تلك القيادات الداعية إلى استعادة الماضي الأليم الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم من المد والجزر واللف والدوران حول قضايا ذات أبعاد وطنية يحاول البعض اختزالها في فهم أشخاص أو تجييرها لصالح فئة أو جماعة على حساب السواد الأعظم من الناس .. وأنا إذ استعرض بعض المواقف فإنما أعيد إلى الأذهان أهمية التاريخ ودور الأفراد والهيئات في رسم معالم الحياة ، ولا أريد أن تصبح تلك المواقف سبباً في طمس المآثر الغالية أو الإهمال والتجاهل المتعمد لدورنا كجنوبيين في العمل على إعادة تحقيق الوحدة اليمنية ومسح ما صنعناه من أمجاد وبطولات للوصول إلى هذه الغاية العظيمة.. ولكن الأمر الذي يؤسف له أن فرسان الوحدة ومناضليها القدامى هم من يتعرض اليوم لذلك التجاهل والإهمال من قبل ذوي القربى الصاعدين على خطوط معاكسة لبطولات أؤلئك الفرسان الأماجد ، أو من مناضلين أنفسهم كانوا بالأمس في مقدمة الصفوف الداعية إلى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية العظيمة ، واليوم نراهم راجعين إلى الخلف عند ما اصطدمت مصالحهم الخاصة بحواجز متغيرات الزمن وظروف وأحوال المعيشة ، وحتى نظريات التطور والبناء التي كانت الناس تهلل لها وتبشر بقدومها هي الأخرى لم تسلم من عوارض الزمن ومتغيراته الجارفة.
ومعي على خط التحليل والمقارنة العميد مطهر مسعد مصلح وكيل وزارة الداخلية والأمن في أول حكومة لدولة الوحدة والموجود حالياً في العاصمة المصرية "القاهرة" حيث يقول في آخر حديث له بتاريخ 17 فبراير 2013م: (أنا ولله الحمد جنوبي وأحس بفخر وأنا أنطقها وموقفي واضح بأنني من وطني وشعبي بكل أطيافه وهدفي هو استعادة دولتنا "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية") ثم يقول: (لم يكن اليمن موحداً قبل العام 1990م حتى نتكلم عن انفصال وما حصل في عام 1990م من إعلان للوحدة بين البلدين الشقيقين "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" و "الجمهورية العربية اليمنية" فقد بداء اغتيال هذه الوحدة من الشهر الأول بعد إعلانها ، حيث بدأت عمليات اغتيالات القيادات الجنوبية والتي لا زالت حتى الآن ، وأخيراً شن حرب على دولة الجنوب في صيف 1994م واحتلاله ، قضى على الوحدة المعلنة في عام 1990م وبذلك نفذ علي عبد الله صالح ومن معه في صنعاء قرارهم بالقضاء على الوحدة) ويقول أيضاً: (بالنسبة للهوية كانت هناك دولتان شقيقتان توحدتا ، وأن "الجمهورية العربية اليمنية" هي من الدول الأولى التي اعترفت بـ "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" دولة ذات سيادة وهوية ذات حدود جغرافية وسياسية وإقليمية).
والآن نستمع إلى العقيد مطهر مسعد مصلح عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني نائب وزير الداخلية في حكومة "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" عند ما تحدث بمناسبة يوم الاستقلال في ذكراه الحادية والعشرون وبالتحديد في "26 نوفمبر 1988م" حيث يقول: (احتفالاتنا التي نقوم بها في كل مناسبة وطنية في بلادنا هي احتفالات وطنية للشعب اليمني بشكل عام وهذه الاحتفالات هي تعبير عن اعتزازنا وافتخارنا بهذه المناسبات التاريخية لأنها جزء من تاريخنا ، بل وأهم لحظات هذا التاريخ وهي نتائج لنضال بطولي لكل الجماهير الشعبية الكادحة في عموم اليمن ، فنحن نعتبر بأن قيام ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر المجيدتين تجسيداً رائعاً لكفاح ونضال الشعب اليمني ، ولقد كانت ثورتي شعبنا أكثر تنظيماً ورؤية من سابقاتها من الحركات والأعمال الثورية ، حيث قادت ثورة 26 سبتمبر في عام 1962م إلى قيام النظام الجمهوري في شمال الوطن فواصل أبناء الشعب اليمني من الشمال والجنوب مهمة تحرير جزء آخر من اليمن هو الشطر الجنوبي) ، ثم يضيف قائلاً: (وبعد مرور 21 عاماً وهي ليست بالفترة الزمنية الطويلة لا يمكن أن ننسى ذلك الواقع الذي كان يعيشه الشعب اليمني ، حيث فرض علينا الاستعمار بقواه الظالمة تجزئة الوطن وتجزئته إلى مشيخات وسلطنات وإمارات ضمن سياسته الخبيثة التي مارسها لإطالة بقاءه ، وعمل على تأجيج وتوتير الأجواء بين شمال الوطن وجنوبه سعياً منه وبدعم السائرين في فلكه بأن هذه الحواجز المصطنعة ستمنع أبناء الشعب اليمني الواحد من التوحد والقيام بعمل مشترك ضد عدوهم المشترك) ثم يقول: (لقد حاول الأعداء إجهاض الثورة المسلحة في المهد والقضاء على جمهورية الثورة الأم جمهورية سبتمبر في شمال الوطن).
هكذا كانت القيادة بالأمس وحدوية إلى حد الغرام والجنون ولكنها اليوم مع الانفصال إلى حد التمرد والقتال ، فإلى أي موقف تدعون تلك الجماهير ؟؟ هل تدعونها إلى جانب مواقفكم السابقة التي أفضت إلى قيام دولة واحدة في كلا الشطرين أم تدعونها إلى جانب مواقفكم الحالية الداعية إلى إعادة الدول الشطرية التي كنتم تعيبونها وتمتدحون أمام الجماهير أنها كانت نتيجة سياسة استعمارية فرضتها ظروف المرحلة وأن بقاءها مؤقت وحتماً ستزول !! كل هذا سيجعلكم أمام الاختبار الصعب الذي لن تنجحوا فيه مطلقاً لأن الجماهير لم تعد تثق بمجمل ما يطرح اليوم بسبب عدم المصداقية وضعف الثبات على المبادئ في الغالب العام.
وفي نموذج آخر من المقارنة والتحليل نستعرض مواقف متناقضة للأخ شلال علي شايع هادي ونبدأ بما صرح به في مطلع شهر فبراير 2013م حيث قال: (نطالب العالم أجمع بمساندة شعب الجنوب في المضي نحو التحرير والاستقلال وتحرير الأسرى المتواجدين في السجون الأمنية للسلطة في صنعاء .. وأضاف: إن عدالة القضية وواجبنا الوطني يأمرنا بتحرير أسرانا وسنتخذ كافة الخيارات المتاحة لتحرير دولة الجنوب .. مضيفاً: إن تأخير الدعم الدولي للجنوب سيجر شعب الجنوب إلى اتخاذ كافة الخيارات المتاحة ، بما في ذلك المقاومة المسلحة).
ومع ما يحمله هذا القول من مجافاة لتاريخ أسلافه الأماجد الذين عملوا في نطاق واسع من أجل إعادة تحقيق الوحدة فإنه معذور بعض الشيء نتيجة لغياب أو تغييب تلك الحقبة من تاريخهم عن ذهنه جراء طغيان المصالح الذاتية على حساب القيم والمبادئ النضالية .. ونحن هنا بدورنا نذكر بما جاء على لسان الفتى اليافع شلال علي شايع في كلمته بالمهرجان الجماهيري الحاشد لحملة المشاعل في ساحة النصب التذكاري للشهداء بالتواهي يوم الأربعاء تاريخ 13 يناير 1988م والتي ألقاها نيابة عن أبناء الشهداء بمناسبة الذكرى الثانية لانتصار الحزب والشعب على مؤامرة 13 يناير الدموية حيث يقول: (نحن أبناء الشهداء كسائر أبناء العمال والفلاحين والكادحين اليمنيين الذين تربوا وترعرعوا في كنف الثورة والحزب نطمح إلى أن نصبح مناضلين أشداء نواصل السير على نفس الدرب الذي سلكه الأماجد ، ومن هذا المنطلق فإننا نطالب قيادة حزبنا وكل المناضلين الشرفاء في عموم الإقليم البدء في كتابة تاريخ الثورة الحافل بالعطاءات والبطولات والمآثر والانتصارات العظيمة التي حُققت بفضل من نحيي ذكراهم ، وإننا أبناء الشهداء مع كافة أبناء الكادحين في الوطن اليمني نتطلع بتفاؤل وأمل كبيرين إلى الغد المشرق ، وثقتنا ببلوغ أهدافنا المنشودة كبيرة ، ثقتنا بقوة الحزب وجبروته النابع من نفوذه ووحدته الفكرية التنظيمية والسياسية الدائمة والقائمة على أساس وثائقه البرنامجية المنهاجية ، وفي الوقت الذي ندين بالعرفان والولاء للحزب الاشتراكي اليمني نطالب قيادة حزبنا بإعطاء مزيد من الاهتمام لرعاية أبناء الشهداء ، ونحن نعتقد بأن خير ما تقدمه قيادة حزبنا للشهداء وأسرهم هو السير على نفس الطريق الذي مضى فيه آباؤنا).
إن هذه العبارات الجميلة والالتزامات المبدئية تتطلب الوفاء بها والصدق في التعامل على أساسها ، لأن تلك التصريحات لا تتواكب مع مضمون هذه الالتزامات ، بالرغم من طول الزمن ومتغيرات المرحلة ، ولا يجب أن يعامل الجمهور على أساس الإساءات التي ارتكبها نظام المخلوع علي عبد الله صالح ضد الشعب اليمني بأكمله إطلاقاً لأن الجمهور هو صاحب المصلحة وهو الذي يجب أن نوفي له بكل التعهدات والالتزامات طالما كنا أوفياء لهم.
وخلاصة القول فهذه هي أقوال منقولة عن أصحابها ولو أردنا الوقوف أمام كل جملة منها لطال بنا المقام كثيراً ولكن نقف معها بشكل عام ، على اعتبار العوامل المشتركة فيما بينها ، وأول وقفة أن الأخوين العزيزين مطهر وشلال من أبناء الضالع وثانيها أنهما من أعضاء الحزب القدامى وثالثها الاتفاق في الفكرة والمضمون لخطاباتهما السابقة واللاحقة .. ولهذا فإن الموقف المشترك بينهما يتمثل في طمس معالم النضال البطولي للقيادة التاريخية للحزب الاشتراكي اليمني والتي على رأسها الشهداء الأماجد (عنتر ومصلح وشايع) وأتت عليها من الأساس ولا أرى مبرر في ذلك سوى النكوص الواضح والمخالفة الصريحة لذلك الخط الوحدوي لؤلئك المناضلين ، ولكي ندلل على ذلك نستمع إلى المناضل علي أحمد ناصر عنتر وهو يتحدث عن الوحدة اليمنية: (إن الموقف من الوحدة اليمنية أيها الرفاق لا يعني فصله بأي حال من الأحوال عن الموقف من المبادئ ، عن الموقف من الثورة اليمنية وآفاق تطورها ، عن الموقف من الوطن ، ذلك أن الوحدة اليمنية تعتبر هدفاً استراتيجياً من أهداف شعبنا وثورتنا وحزبنا .. ثم يقول: إن الوحدة اليمنية أيها الرفاق ليست فقط مسألة تاريخية ، أو مجرد سمة مميزة لحقبة مضت من تاريخ وطننا وشعبنا اليمني كما يحاول الأعداء تصويرها .. إن الوحدة كهدف جماهيري ومصيري كانت وظلت وستستمر رمزاً للنضال الوطني للشعب اليمني على مدى مراحل تطوره وهي تمثل أسمى وأنبل أهداف شعبنا ، لذلك فإنها من المهام المركزية والإستراتيجية في نضالنا الراهن ، ثم يقول: لقد رفض شعبنا في الشطرين وناضل بلا كلل ضد كل المحاولات الانفصالية والاتجاهات الاستعمارية الرجعية لتقسيم الشعب والأرض عبر ابتداع الحدود المصطنعة بين أجزاء الوطن الواحد ، ثم يقول أيضاً: يتوجب علينا الحذر والتصدي الحازم لكافة أشكال الدعاية المغرضة واجتهادات التنظير التحريفي والممارسات السلوكية الانتهازية لأعداء الوحدة بشتى أصنافهم وأقنعتهم ومشاربهم).
وختاماً فإن مما ينبغي التأكيد عليه هو أن كل دعاة الانفصال يعارضون الخط العام للحزب الاشتراكي اليمني ، والأمر الآخر أن من فقدوا مصالحهم الذاتية بعد الوحدة وعدم استطاعتهم التكيف مع الواقع الجديد والذي يختلف عن واقعهم السابق لم يستطيعوا العيش في كنفها ولكن ظهروا بلباس آخر لتغطية أهدافهم التي لا يمكن أن تتحقق في ظل وعي جماهيري متعاظم مهما كان الحلم بالعودة إلى عهود الهيمنة والاستحواذ ، التي عشناها في ظل نظام حكم الحزب الواحد ، وليكن في علم الجميع أن ممثل منطقة بيحان بكاملها في مجلس الشعب الأعلى كان علي أحمد ناصر عنتر وهذا من أكبر الدلائل على تمسك تلك القيادات بحلم العودة إلى ذلك العهد الذي منحهم حق التعبير عن الآخرين ومصادرة حقوقهم في تمثيل أنفسهم ، والذي نأسف له أن بعض من ذلك الجمهور المغلوب على مره في ذلك العهد يعمل اليوم بكل ما أوتي من جهد لإعادة تلك الفترة التي صودرت فيها كثير من الحقوق ويحنون لعودة عهد الوصاية والارتهان.
بقلم:أحمد طلاّن الحارثي