إن المتأمل في النصوص الشرعية بعين البحث والتنقيب والتدقيق ليرى أن السبحة هي الوسيلة المسهلة للذكر، والمشروعة التي اتخذها السلف الصالح وسيلة مسهلة لذكر الله، وقد استخدموا وسائل متعددة للذكر، إعانة على ذكر الله تعالى، ومعروف عند أهل الفقه : (حكم الوسائل لها حكم المقاصد)، والمقصد هنا حسن، وهو الإعانة على ذكر الله، روى أبو داود والترمذي والحاكم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نواة أو قال حصاة تسبح بها، فقال : (ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل ؟ سبحان الله عدد ما خلق في السماء ...) .. الشاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها تسبيحها بالنوى أو الحصى، وإنما أرشدها إلى نوع من أنواع الذكر، ولم ينكر عليها فعلها بالتسبيح بالحصى أو النوى، وهي وسيلة تستخدم آنذاك لعد الذكر والإعانة عليه، روى ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7662) عن طلحة بن عبدالله عن زاذان قال : (أخذت من أم يعفور تسابيح لها، فلما أتيت علياً علمني فقال : يا أبا عمر أردد على أم يعفور تسابيح) فكان نصح علي بن أبي طالب رضي الله عنه واضح وجلي لزاذان حيث أمره بإرجاع شي تسبح به أم يعفور من نوى أو حصى ونحوه، وكأنه أوضح علي رضي الله عنه أن لا حرج في ذلك، حينما رأى زاذان جالباً التسابيح إليه ناكراً على أم يعفور فعلها، فبين له علي رضي الله عنه أن لا حرج حينما أمره بإرجاع التسابيح لأم يعفور .
ومما ذكر في الحاوي (2/ 140) وأخرجه ابن سعد في الطبقات عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه : (كان يسبح بالنوى المجزع) وذكر ذلك الأثر أيضاً عبدالله بن الإمام أحمد في : (زوائد الزهد) عن القاسم بن عبدالرحمن قال : (كان لأبي الدرداء نوى من نوى العجوة حسبت عشراً أو نحوها في كيس، وكان إذا صلى الغداة أفضى على فراشه، فأخذ الكيس فأخرجهن واحدة واحدة يسبح بهن) وكذا روى ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7659) عن حكيم الديلمي : (أن سعداً كان يسبح بالحصى) وذكر أيضاً صاحب الحاوي (2/ 141) قال السيوطي رحمه الله تعالى : (وأخرج ابن شيبة عن أبي سعيد الخدري أنه كان يسبح بالحصى) .
فالمشهور عند أهل الحديث من خلال بيان فعل السلف أن عدد المُقرين والفاعلين من الصحابة بالتسبيح بهذه الوسائل المذكورة هم أكثر من الصحابة الذين أنكروا ذلك، وفي ذلك دلالة واضحة على أن استخدام أي وسيلة للتسبيح والذكر بأي آلة سبحة ونحوها لا حرج فيها، بل مارس الصحابة هذه الوسائل، وأقرها بعضهم بالوسائل المتاحة لديهم آنذاك الحصى والنوى، ولو كان عندهم وسيلة أفضل وأيسر للذكر والتسبيح كالمسبحة ونحوها من الوسائل الحديثة لاستخدموها، واستخدامهم لهذه الوسائل دليل على جواز أي وسيلة للتسبيح كالمسبحة ونحوها من الوسائل الحديثة، وأما التابعين فقد أثر عنهم استخدام السبحة منهم : أبو مسلم الخولاني، وإبراهيم النخعي، وفاطمة بنت الحسين بن علي، والحسن البصري .. وكذا تابعي التابعين وغيرهم عليهم رحمة الله تعالى.. لا يسع المقام لذكرهم وعدهم، فالمسبحة وسيلة مسهلة للذكر، مثلها مثل كرسي المصحف، وسماعة المسجد، ونحو ذلك من الوسائل المعينة على العبادات والذكر، فلا حرج في ذلك حينما سردنا آنفاً أن الأسلاف لا يتحرجون من استخدامها، فلنحافظ على ذكر الله، ولنستخدم الوسائل المعينة على الذكر المنصوص عن رفع الحرج فيها في كل أحوالنا قال تعالى : (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) .
بقلم : محمد هبيص