روى ابن الجوزي في كتابه الممتع ( عيون الحكايات ) قصة فيما معناها أن رجلاً عابداً من بني إسرائيل حينما حضرته الوفاة رأى حُزن زوجته الكبير وجزعها العظيم على فراقه ، فدعا ربه ألاّ يجعل جسده يتغير بعد الموت ، وطلب منها أن تصنع له تابوتاً وتبقيه في البيت عندها حتى لا يفرق بينها الموت ، ففعلت زوجته بعد موته ما طلب منها ، وبقي عندها زمناً حتى اطلعت عيه ذات يوم فرأت أن أذنه قد أُكلت وبقية جسده كما هو لم يُمَس ، فتعجبت كيف لزوجها أن يكذب عليها ، إذ أخبرها أن جسده لن يتغير ، فرأته يقول لها : إن ما رأيتِ من أذني التي ذهبت أني سمعتُ ملهوفاً يوماً من الأيام يستغيث فلم أغِثْه فأُكلت أذني التي كانت في جهته والتي سمعت استغاثته بها.
ومهما يكن من أمر في مدى صحة هذه القصة من عدمه فإننا نرصد منها عبرة نستدل منها على أهمية إغاثة الملهوف ، فهل نجد ذلك في زمننا ، أم أن الخذلان قد طغى وتركنا نجدة الملهوف حتى أصبح أمراً سائداً بيننا واستساغته أنفسنا وضمائرنا ؟
حكت لنا أستاذة في الجامعة بنفسية محبطة قبل مدة يسيرة أنها رأت مقطع فيديو في الإنترنت خلال الأمطار التي هطلت في مارس المنصرم ظهر فيه رجل مسكين في وسط سيل كبير يطلب النجدة ويصيح بشدة ويستغيث بمن حوله ، وقد أوشك الرجل على الغرق ، وظهر بالمشهد عشرات الناس على طرف السيل وقفوا ينظرون إليه دون يكلفوا أنفسهم عناء إنقاذه ولو بأية وسيلة كانت ، كأن المنظر ــ تقول الأستاذة ــ كما لو أنهم كانوا يشاهدون فيلم أكشن ، بل وأخذ البعض يصورون هذه اللحظات المؤلمة.
أية قسوة في القلوب وأية تبلد في المشاعر قد أُصبنا بها ، ربما يقول قائل: لو حاول إنقاذه أحد فسوف يغرق ، ليس المطلوب أن يتعرض الناس للخطر بقدر أن نُشعر تلك الروح الإنسانية أننا نجتهد في إنقاذها ونحاول جهدنا.
للأسف لم يحدث من الأمر شيء وغاب الرجل في خضم السيل.. أليس هذا خذلان ؟
المسئول الكبير والغني المتعجرف كم رأوا وسمعوا من استغاثات ونداءات لفقراء ومساكين بؤساء قد عضهم العوز وأصابتهم الضراء ، وساءت معيشتهم ، فلم يلتفتوا لهم بل تركوهم كأنهم لا يشعرون بمعاناتهم و ربما احتقروهم وأعرضوا عن ذكرهم صفحا ، أليس هذا من الخذلان ؟
المسلمون يجأرون في كل بقعة من أرض الإسلام بدءاً بفلسطين الجريحة والعراق المكلومة وأفغانستان وسوريا ولبنان وبورما وسواها من البقاع ، ورؤساء الدول والعالم الإسلامي يجتمعون ويعقدون القمم ثم لم نرَ الدماء إلاّ في ازدياد ، وأنات الثكالى ودموع اليتامى لا تجف.. بالله عليكم أليس هذا من الخذلان ؟
لقد ابتلانا الله عز وجل بموت الضمائر وتبلد الإحساس ، ولعمري هو من جراء ذنوبنا وقسوة قلوبنا ، نرى المجتمعات وقد فشا فيها الفساد والمنكر ثم لا ننكر، تمر بنا مواقف التأثر والخشوع فلا نتأثر ، نقرأ ونسمع القرآن فلا يجاوز حناجرنا ولا آذاننا ، نرى معاناة إخواننا ونحن ( نقشّر ) المكسرات أمام التلفاز فلا يرفّ لنا جفن ولا تدمع لنا عين ، بل ربما حوّل أحدهم القناة بالريموت كونترول هرباً من تأنيب الضمير تحت مبرر وحشية المناظر ورقّة القلوب التي لا تحتمل .. بالله عليكم أليس هذا من الخذلان ؟
إلى متى سنظل في موقف المتفرج الذي لا حراك له ؟ متى نصحو من غفلتنا فقد حان الأوان ؟ متى نغِيث إخواننا في كل مكان ، وقبل ذلك فلنغِث أنفسنا بانتشالها من مستنقع السلبية الذي تتقلب في أوضاره ؟ .
ما أجمل أن أختم حديثي بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موطن تنتهك فيه حرمته ، وينتقص فيه من عرضه ، إلاّ خذله الله في موطن يحب فيه نصرته ، وما من امرئ ينصر امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه من حرمته ، إلاّ نصره الله في موطن يحب فيه نصرته " صدقت يارسول الله .
بقلم : أحمد عمر باحمادي