يقولون أن القدر ( الموت ) يأخذ الأخيار والأحباب !
و الحق أن كل واحد منا له أحبابه .. و الموت لا يفرق بين هذا وذاك" فإذا جاء أجلهم ... الآية "
وتأتي حفلات ( مناسبات ) التأبين ليفرغ كل منا مافي جعبته من انطباعات و مشاعر تجاه الفقيد الغالي
فهذا يقول قصيدة ، و هذا يعد برنامجا خاصا ، وآخر يصدر كتيّبا صغيرا ، وذاك يعبر بخطبة رنانة عن مآثر الفقيد يعدّد فيها مناقبه التي برزت بصورة جلية بعد وفاته من باب ( أذكروا محاسن موتاكم ) وكل فرد يعكس مشاعره بصورة أو بأخرى .
كم هي جميلة هذه اللحظات حينما يحس المرء منا أنه قد أرضى نفسه وضميره تجاه الفقيد الراحل ، وادخل البهجة و السرور على من تبقى من أفراد عائلته و أسرته التي لازالت تحس بوجع الفرقة و ألم الفراق .
زميلنا إبراهيم الجنيد أتاه الموت بغته !
و الموت يأتي بغتة ** و القبر صندوق العمل
تركنا ، و ترك العبرة تدور في أروقة إذاعة سيئون ، كلما نظر أحدنا إلى زميله تذكر إبراهيم و سعيد محروس و محمد سعيد حنبل وطلال باجري ، وقبلهم آخرون .. كلهم كانوا هنا ! طالما ضحكنا معا ، و سهرنا و تعبنا معا ، وتحملنا وصبرنا وربما تراشقنا بالكلمات و اللكمات أحيانا ، كغيرنا في مجالات العمل .
ولكن تبقى النفوس راضية مطمئنة تحمل الحب و الصدق في حناياها و ثناياها ، فتجد الندم و الأسى يعتصر القلوب إذا قالوا : مات زميلكم فلان !
كنت ذات مساء في مسجد الغفران بمدينة سيئون ، و بعد أن صلينا المغرب .. كعادتي سلمت على من كانوا بجواري يمنة و يسرة ، فإذا بأحدهم يهمس في أذني : زميلكم ذاك لي في الإذاعة مات قبل قليل !
خشع بصري ، وجف حلقي ، والتصقت شفتاي ، و في مخيلتي الصغيرة و بسرعة كبيرة تزاحمت وجوه زملائي في الإذاعة .. من ياترى ؟ من ياترى ؟ وتذكرتهم واحدا واحدا ، ومن يشكو منهم ألما أو مرضا أو وعكة صحيّة . هل هو حادث عرضي أو اصطدام أو ...
أدرك صاحبي أنني في حيرة كبيرة من أمري ، فحاول أن ينهي حالة الاضطراب بخبر قاصف كالريح العاصف . ذاك هو ابراهيم .
الجنيد ؟؟
الحمد لله ، إنا لله و إنا إليه راجعون
كدت لا أصدق لولا أن من اخبرني لا يجيد إلاّ قول الصدق ورواية الجد .
خرجت وأنا في دهشة وحيرة . هل أنقل الخبر إلى بقية الزملاء ، أم أنتظر إلى أن ..
ورن جرس جوالي وإذا به رقم الإذاعة ،
ألو ..
لم يكن لديهم علم بالخبر ، فهو لايزال حبيس اللحظة ، فانفلت لساني ليعلن الخبر ويخبر الطرف الآخر
وانتشر خبر وفاة زميلنا ابراهيم ، و ذهبتُ إلى مبنى الإذاعة فوجدت الحزن قد خيم على من كان هناك ، و تبادلنا العزاء و كل واحد يحاول أن يحبس الدموع في مآقيه وقد اختفى نصف صوته .
نعم هكذا يفعل الموت فينا .. أمواتا و أحياء
وانطفأ سراج آخر وبدت علامات الحزن على ميكرفون الإذاعة .. وصمت صوت طالما استمتعت بنبرته الأسماع في رقة ودفء وعذوبة ونعومة
وتوقف قلم مميز بأسلوبه ، عن الكتابة و التحرير الصحفي
وتوقف قلب عن النبض و العطاء و الحياة ..
وتبقى عيوننا لتدمع ، و قلوبنا لتحزن .. إلاّ ان القول هو ما يرضي ربنا فهو الذي وهب و هو الذي سلب " إنا لله و إنا إليه راجعون "
وفي شبام العالية ، و قبل أيام قليلة
كنا على موعد مع الراحل الكبير أبي عبدالحكيم الشاعر المخضرم محمد عمر بن طالب الذي تغنى بأشعاره اشهر حناجر وادي حضرموت الغنائية و الفنية المطربة أمثال الراحل بدوي زبير و سعيد عبدالخير و غيرهم . لنودّع علما آخر من أعلام حضرموت كانت بصماته ظاهرة واضحة للعيان .
متواضعا في تعامله ، هادئا في حديثه ، ساكنا في حركاته
عرفته ( انا ) حينما كان والدي رحمة الله عليه يزوره و يلتقيه بين الحين و الآخر في مقر اتحاد الأدباء و الكتاب اليمنيين فرع وادي حضرموت أو بمكتب الثقافة بسيئون ، أو حينما نزور الحوطة و شبام في غابر الأيام
كان يحبني كثيرا .. ويعاملني معاملة الأب لابنه ، و تشرفت باستضافته ذات حلقة في برنامج " ملتقى الشعراء " وحينما كنت مع المربي القدير محمد عبدالرحيم باعباد في "حنين الذكريات " وتذكرنا .. دقيقة في شبام العالية التي تعد من بواكير أعماله الغنائية الفنية ، و اذكر حينها أنني بحث مع زملاء الإذاعة في أرشيفها عن تلكم الأغنية فلم نجدها .. وكنت مصراً على أن تشنف بها الأسماع .. فوجدتها في استوديو الوادي واستغرب صاحبه وقال : هذه أغنية قديمة لبدوي ، وين بانحصلها ذلحين !! وتعاونّا في البحث عنها ولم نستغرق من أجل ذلك وقتا طويلا
رحم الله أبا عبد الحكيم ورحم الله أبا عبد الرحمن
ورحم الله كل عزيز وغال
هذا عزائي ومشاركتي و تعبيرا عما يدور بخلدي تجاه كل الأحبة و ما أكثرهم ..
بقلم : نزار باحميد