شدتني قطرات دمع رأيتها ذات مرة تنهمر كأنها المطر غزارة ونفعا .. رأيتها تشق طريقها على خدود بيض مجعدة فاستوقفتني مليا وهزة كياني رغم أني لا افهم عبارات صاحبها فلسانه لا يفصح العربية ولكن دموعه إسلامية خالصة .
يا الله ما الذي يبكي ذلك الشيخ أجرح آلمه .. أم محبوب افتقده .. إنه جرح غائر لم يستطع معه كبح الأنين ولا مكابدة الدمعات إنها مكابدات وتنهدات وأنات عاشاها نبيل الأتراك وسليل الصلاحيين (فتح الله كولن) فلم يستطع مكابدتها وهو يلقن أبناء جيله مجدا تليدا بأيديهم أضاعوه فانطلق يرسل أناته تسمعها هضاب الأناضول ويسكب معها دموعا تنبع من هضبة عربية إسلامية ثرية يتابع فيها كمال عبد الرحيم رشيد في حروفه يوم :
آذاه جرح أوجعه ، فبكى وأبكى من معه
جرح قديم راعف أحيى القصيد ورجعه
فأحيا في الناس قصيد الحياة ووثبة الحضارة وحنين المستقبل للماضي التليد .. وكان مني اليوم ترديد هذا الترجيع وإعلان هذا الأنين على ملا من قومي علهم يشاركون البكاء ويرسلون الزفرات ..
غير أنه بكاء ليس له نسب ولا صلة مع بكاء الحسرة وليس بكاء نائحة مستأجرة لا تملك الا العويل .فإن من العار على أبناء العثمانيين ترديد هذا البكاء . ولكنه بكاء يغسل تراب الكسل وينظف ثياب الهزيمة بماء لا يغسله الا هو ، إنه ماء حار لا ينبع الا من آبار القلوب والأرواح .
اللهم ارزق الأفكار أقداما
لا خير في فكرة لا تسير على الأرض ولا تتحول الى عمل ولا تعيش بين الناس ألفة مألوفة لكن الـــ(فتح) هتف من على جبال الأناضول مناجيا ( اللهم ارزق الأفكار أقداما ) فما برح يصنع أقدامها بنفسه ويطهرها بدموعه ويرسلها تسمد الأرض بأقدامها النقية الطاهرة .ويدعوها أن تتجاوز الزمان وتعبره وتتخطى حاجز التأريخ ليس عبر آلة الزمن وإنما على بساط الروح نعم (الروح) عندما تحذف (ياء) الأمنيات والخيال وتستبدلها بـــ(واو) الحقيقة والواقع وعندها يتضح الفرق الكبير .
ويتأهب جيش القسطنطينية ويستعد للمعركة فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها ويتقدم الــــ(فتح) يفتح الأبواب ويعبد الطريق وينذر جيشه أن ( من لم تسم به روحه على فرش المسجد البالية فلا يطمع أن يطير على بساط السندباد ) فيلتقي جيش الــ(فتح) مع جيش (الفاتح) ويستمر التجييش لكن البحث عن الرجال شاق وعسير فلا تراهم الا في جنح الليل فأسرج مصابيحك تراهم والا أشرقت الشمس من دونهم .. نعم ذلك هو ما عناه الــ( فتح ) أن هؤلاء لا تجدهم الا( في الأسحار وبين المحاريب..) وسيماهم بأنهم ( لا يخذلون ولا ينكصون .. وإذا ما توعرت الطريق وطالت واستوحشت فهم المؤنسون المساندون وعنك يذودون ومعك كل صعب يقهرون ) ..
هتف العلم بالعمل
ذهب الشيخ فريد يصفه وهو يحتفل بــ( عودة الفرسان ) بأن الــ(فتح) : "مكين الوثبة كالأسد ، حاد الرؤية كالصقر ، رهيب الصمت كالبحر ، إذا سكت خطب ، وإذا نطق التهب ، وإنه ليشف كالزجاج إذا كتب )
وأزيد بأنه: وإذا ضيم حق وثب ، وإذا ربى رجالا فليس من خشب، فهز في جنباته وقاب واقترب ، فما أحرق دمعه الذي انسكب . فلله دره . وإني به لمعجب .
وإنه لمن العجب أن صوفية وقادة قادته الى عمل فقرع نعوش الزهاد ونعى مقابر العبَّاد.واستمد بوارق الطريق من لدن محمد صلى الله عليه وسلم فما ظنك براهب في الليل فارس في النهار . فطفقت مدرسته تربي على العمل ، وتطارد فلول الكسل ، وتدفن محاريب العزلة .
ومضى يرسل هاتفات ابن المبارك ينعي بها أتباع الفضيل اليوم :
من كان يخضب خده بدموعه فدموعنا نار تثور وتلتهب
أو كان يتعب جسمه في راحة فجسومنا تبني الحياة وتقترب
نعم لقد هتف ذلك بلسان الحال ،، أما المقال فنادى " فجر أيها الإنسان منابع العقل يأتيك العلم وثبا ، وفجر منابع البصيرة تأتيك المعرفة متواثبة فكل عقل كبير فهو للبصيرة مدين " أرأيتم كيف أنشى حديقة غناء تستمد بهجتها متنقلة بين نبع العقل وحقول المعرفة وأشجار البصيرة . ما كان لكم أن تنبتوا شجرها لكن الله يؤتي فضله من يشاء .
(شبعت الآذان .. والعيون جائعة).. حقا لقد أشْبَعَنَا الكلام فأكلنا منه حتى اتخمت الآذان وما تزال العيون جائعة ولن تشبعها لقيمات .لا لن تشبع الا بالملا الذين يملئون العين فتنطق عنهم فعالهم وتتحدث إنجازاتهم وترتاح لسانهم.. من رجال يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع .. يسقون الأرض بعرقهم فتحيى بعد موتها نعم (فتحيى) لأنها حروفها الثلاثة الأولى (فتح) من الله وخير عميم .
انضموا الى قائمة الكائنات الحية
ويواصل الــ(فتح) العبور كأسلافه... يريد أن يتخطى اليوم الحدود بغير تأشيرات .. فهاهي نهضة تركيا اليوم تشرق بعد غروب وتغزوا بإنتاجها العالم حتى إذا بلغت مشرق الشمس تذكرت تأريخا مضى ودولة لا تغيب فيندفع جيشها الجديد لاستئناف المعركة ونشر الأشرعة في سباق نشط دؤوب يسيرون يحملون وصيته وهو يوصيهم بأن( ترجم إيمانك الى عمل واجمع بينهما تكن مؤمنا حقا ..روض نفسك على ذلك وارفع مشاعرك إلى آفاق السرمدية ، إن فعلت ذلك أتاك العالم متطامنا بين يديك تحركه كيف تشاء ) وقد أتاهم اليوم راكعا يهدبونه هدبا وينثرون العز نثرا .
إنه يريد أن يصنع أحياء ينثرون الخير أينما رحلوا شعار الواحد منهم ( وجعلني مباركا أينما كنت ) وذلك ( مادمت حيا ) فديمومة الحياة تقتضي أن أكون مباركا أينما كنت أنثر الخير الكامن في أعماقي لا أريد أن أكون زائدا على الدنيا إن لم أزد شيئا عليها كما رفعني الرافعي وصاغها الشاعر بيتا ذهبيا :
والمرء والسيف مالم يبديا أثرا حي كميت ، مسلول كمغود
حتى الموت يموت وما أكثر الأحياء حين تعدهم ولكنهم في الكائنات قليل ..
ذلك ما عناه ..كونوا أحياء أيها الأحياء فرب ميت لكنه مازال حيا وكم من أحياء لكنهم ميتون ..
وسال مداد الــ(فتح)
كتب الشوكاني رحمه الله ( فتح ) القدير .. وسبقة ابن حجر فكتب ( فتح ) الباري وانتشرت الفتوحات بين مؤلفات القوم حتى جاء الفتح فلم يؤلف (فتحا) ولكنه كان (الفتح) بنفسه وقلبه وروحه ..
فارتفع على (التلال الزمردية) يهتف من خلالها بالقلب والروح أن استيقظوا ولن تستيقظ الا إذا استضاءت بـ(أضواء قرآنية) تشع مشرقة على سماء الوجدان لتردد (ترانيم روح واشجان قلب) فتستيقظ وتسير مشتعلة تنير دروب الحياة لكنها تسترشد بــ( الموازين ) لتضمن التوازن وعدم الميلان وتجيب على (أسئلة العصر المحيرة) وتكشف للعالمين ( حقيقة الخلق ) وتبث عندها ( روح الجهاد ) لتنطلق تشيد الحياة وتبنيها وتزخرفها وتنثر عطر الإسلام على البقاع وكما نشيد ونبني صرح الحياة ( نقيم صرح الروح ) عاليا حتى لا تجف الحضارة وتفقد قيمها وروقانها بل وتدل العالمين على (طرق الرشاد) مخافة الانحراف عن الطريق ونسيان الغاية ، وترك الراية ، والبعد عن الهداية ، ولا يتم ذلك لمتواكل قدري يقعد عن العمل ويدعي التوكل ولا يتبع سببا ولا يبلغ مطلع الشمس سعيا ولا مغربها عملا وكدا. فافقه (القدر) فأنت حر و مسئول ...
وعندها تكتمل عقود (الفتح) وكلماته وما سال به مداده وعلى الطريق رطبوا ألسنتكم أيها ( القلوب الضارعة ) فلقد جمعت لكم شذرات من رحيق وعبق القوم ومناجاتهم وتسبيحاتهم فرطبوا الألسن وانشدوا طمأنينة القلوب يطمئن لكم الواقع فطمئنوه ( الا بذكر الله تطمئن القلوب )
جرى القلم بما تقدم والله أعلم
سدد الله خطى الجميع
بقلم/ الخضر بن حليس...