خاطرة كهربائية ..

الأيام التي مضت وتحديداً ( الأسبوع قبل الفائت ) كانت أشد وأقسى الأيام الصيفية التي مرت بنا خلال هذا الحر القائظ ، وأخص بالقول هنا معاشر الطلاب خاصة ؛ إذ كنا خلال تلك الفترة نمرّ بمرحلة الاختبارات الشهرية في الجامعات ، ولمن لا يعلم فالاختبارات الشهرية لهذا الفصل( مدبّلة ) لشهرين ، أي هي اختبار واحد في اثنين لضيق الوقت واقتراب انتهاء الفصل الدراسي الثاني وقرب حلول الشهر الفضيل ، ولم نستطع حيال الوضع المأساوي سوى المصابرة والتصرف عملاً بالشعار الشهير والنصيحة المعروفة ( تصرفوا ) ـ طبعاً بدون قال الرئيس ـ ، كان التيار الكهربائي يتقطّع تقطّعاً ( صيغة مبالغة ) و في ساعات اليوم الواحد مرات عديدة، في القاعات الساخنة أصلاً خلال فترة الدراسة والتلقي، ثم خلال العودة إلى البيوت، وحينها يتوجب الإعداد والاستعداد لاختبار اليوم التالي، يتم ( مفاكسة الوضع ) واللعب على صفيح ساخن، لكن المساء يحلّ علينا ونحن في ظلمة مدلهمة وليعقبه ليل بهيم ، ولمن لا يعلم فالكثير من مواطني الدرجة الثالثة لا يملكون أية ( مواطير ) ولا ( مولدات ) ، والحلول الإسعافية من مثل الشمعة أو الفانوس يصعب الجلوس أمامهما إذ لم نكن في فصل الشتاء أو في رحلة في القطب الشمالي !! فيما يخصني فقد أخذتُ مذكراتي وذهبتُ إلى المسجد لوجود ( مولد ) يصيح بأعلى صوته، لا أقصد بالطبع ( المولّد ) من خارج البلاد الذي يصيح شاحتاً شحاتة وتشّحتاً في المسجد طالباً العون والمساعدة، ولكن ما عنيته هو المولد الكهربائي، فرغم صوته الكبير والمزعج إلا أنني فضلتُ إزعاجه على المكوث أمام فيح حرارة الفانوس، مخالفاً المثل العامي الشهير ( كازوز ولا غدرة ) الذي استحالت صيغته التقليدية في عصر التقدم التكنولوجي والانفجار المعلوماتي والانشكاح الفضائي والانتفاخ الكهربائي إلى ( ماطور ولا غدرة )، المهم أنني أنهيت مذاكرتي في المسجد بين مغرب وعشاء على جناح السرعة، ليس إلا استعداداً لتقلبات الليل، وفي الليل وما أدراك ما الليل كنت كاللحم المشوي على الشوّاية، أنام أو بالأصح أغفو لحظة حالماً بكوابيس لا أدري ما هي، خليط من خوف الاختبارات والمعلومات التي ذاكرتها ممتزجاً بمنعطفات مخيفة خالية من السعادة، وهمٌ لا أدري كيف أصفه ولا كيف أحكي عنه، ثم أصحو فزعاً من شدة الخوف لأجد العرق المتصبب على وجهي، وقد ابتلّت ملابسي بشكل مقزز للغاية، ألوذ بالمروحة اليدوية ( التراثية ) المصنوعة من خوص النخيل ، آآآآه الآن يمكن لنا أن نعترف بقيمة التراث ومدى فائدته لنا في الأوقات الحرجة، وقد كنا نظن كل الظن أن لا تلاقيا ( كما قال الشاعر ) ، ويظل الديدن كذلك حتى انقضاء الليل، وحلول الفجر الصادق، ومع حلول الوقت أخرج للصلاة بنصف عين كالذئب الذي قال عنه الشاعر ( ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائمُ ) ، أتذكر أنني أمشي في الشوارع كالسيارة التي يقودها شخص ثمل مائة في المائة، ( ملحوظة: لمن لا يعرف كلمة ثمل نرجو العودة للقاموس، و بلاش إحراج من نوع ما بين القوسين )، أصلي الفجر وبعد الصلاة أعود للفراش في محاولة تعزيزية لتعويض النقص الحاصل خلال الليل، وتمر ساعة كأنها لمح البصر يعقبها الرحيل للجامعة بالباص ( بالتأكيد أخوكم من النقعة )، ونحن في الطريق بمحاذاة حصن الغويزي بديس المكلا نُفاجأ بقوافل الباصات والمركبات التي سبقتنا متوقفة ومتكدسة، كان اليوم هو الأربعاء المنصرم أو الفائت أو الفارط ( شل لي يعجبك ) وتحديداً منتصف شهر مايو صبيحة ثلوثية العناء التي ذاقها أهل المكلا وضواحيها أكثر منا أضعافاً مضاعفة، كان اللغط يسود المكان، واختباري موعده الساعة الثامنة صباحاً، تبين أن الطريق كانت مقطوعة بعمود كهربائي ألقي فيها، مع كثير من الأحجار والحصى، ولم يتجرأ على تحريك العمود الكهربائي أحد !! لعله خوف من شباب حارة باسويد أو رضا بالواقع وتماشياً مع الناس الغاضبين من الانقطاعات ، ومع استسلام كثير من الطلاب للأمر الواقع وبقائهم في حافلاتهم، إضافة لوجود الرغبة الملتهبة لدى البعض بالعودة أدراجنا ليستريح من عناء يوم جامعي ممل ورتيب، خرجت من الباص وتحركت مشياً على رجليّ وتعديت العمود المستلقي على قارعة الطريق، لأركب إحدى الباصات الصغيرة ( على الماشي ) ومنها إلى فرزة ( فوة ) ، وخلال ركوبي من باص لآخر سمعت الناس يسبون ويلعنون ويلقي بعضهم  اللوم والشتائم على وزير الكهرباء ( سميع الذي لا يسمع ) على حد قول أحد الكتاب ، وبعضهم على وزير المالية ( صخر الوجيه ) الذي تصدر مؤشراً عالياً من السباب والشتائم كونه ( شمالي ) في المقام الأول وكونه مَن عنده خزائن الأرض، وبيده تحريك القروش لملء الجيوب والكروش، والبعض الآخر أخذ يشفي غليله عند المرور بالغليلة على مؤسسة الكهرباء ومسئوليها الفاسدين على حد قولهم، واستنكر آخرون ما قام به باجرش وعصابته من أصحاب الكهرباء المشتراه، مع شيء من اللعن على السلطة المحلية النائمة ومحافظ المحافظة ( الخلوق !! ) ، فيما لام آخرون الحضارم الطيبين المسالمين السباقين لدفع الفواتير أولاً بأول ، وكال غيرهم الشتائم على من يربطون مباشرة من الخط الرئيس لتصل إليهم الكهرباء مباشرة دون عداد ( كهرباء بلاش ) مُرجحاً أنهم هم سبب الأزمة، فيما ردّ بعضهم بالتبرير لأفعالهم متحججاً بأن حضرموت ترفد خزينة الدولة بـ ( 60ــ 70 ــ 80 ) في المائة ( اختر الإجابة الصحيحة ) مع استنكاره للسكوت المريب ممن يفعل هذه الأفاعيل من الآخرين دون أن يكلمهم أحد، وقفتُ حائراً أمام ذلك العراك الغوغائي، ولم أستطع مراجعة دروسي بتاتاً، وبين الفينة والأخرى كنت أسترق النظر لساعتي، بدا وكأن القضية لا تهمني على الإطلاق، بقدر ما كان يهمني الوصول إلى الجامعة لأدرك زمن الاختبار، بالتأكيد فالقضية تعني لي الكثير كوني أحد أبناء المحافظة وأبرز ضحايا انقطاعات الكهرباء باعتباري طالباً ، ولكن المسألة تكمن في إطار الأجندة أي في ترتيب الأولويات .

وصلت بعد جهد جهيد ، كان الاختبار لدكتورة من عدن، ذات أصول حضرمية عريقة ( د. إلهام باشراحيل ) التي كانت قد استغربَت كثيراً الحال الكئيبة التي وصلت إليها حضرموت العطاء، ومع قبيل وصولي كانت قد اتخذت قراراً بتأخير الامتحان لمدة نصف ساعة لإعطاء فرصة لمن لم يصل، سعدتُ كثيراً حينما أخبرني مسئول القاعة بذلك، وعلى التو أخذتُ أتصفح أوراق مذكرتي على عَجَل لأستدرك ما تناثر من تلافيف دماغي من معلومات خلال مقاساة الطريق .

بقلم : أحمد عمر باحمادي

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص