صحا ( أحمد ) من نومه مبكراً ، بدَت عليه علامات الحيوية على غير المعتاد ، تساءل في نفسه عن سبب النشاط الذي يسري في شرايينه ويتدفق بين أضلعه ، نعم .. إنهم سيبدأون اليوم حملة النظافة في أروقة جامعته التي يدرس بها .. بالطبع فهو من سيدعو ومن سيقود هذه الحملة التطوعية ، ومن المتوجب عليه أن يكون أول الحاضرين .. ارتدى ملابسه على جناح السرعة وانطلق نحو هدفه .. بدت طريق ذهابه كأنها سجادة ناعمة تُطوى بخفّة وتلقائية .. وصل متفائلاً ، يحمل بين جنباته ابتسامة زاهية اللون بهية المنظر .
حال دخوله ساحة الجامعة ، اصطدمت نظراته بمنظر حزين ، كم كان يبدو منظر المكان كئيباً !!، سمع نعيق الغربان المزعج على أكوام القمامة المتكدسة ، أكياس البلاستيك المتطايرة ، قناني الشراب الفارغة ، علب العصير ، بقايا المأكولات ، وأشياء أخرى كثيرة تُرى متناثرة في كل شبر من الساحة ، حتى الممرات والأروقة لم تنجُ من غزو القمامة واجتياحها الذي لا يرحم ، ناهيك عن القاعات وغرف الدرس التي تغيّر لونها وأنتـنت رائحتها جراء ما غشاها من أوساخ .
أحاطت به أشباح اليأس ، وطوقته بين أذرعها الخفية ، وبدت عليه من هول ما رأى علامات التراجع مما كان قد عزم عليه ، وأخذت نفسه الأمارة بالسوء تحدثه بتبكيت وتقريع : كيف لك أن تقود حملةً لتنظيف كل هذه الأكوام من القاذورات والأوساخ ؟ وهل تُرى يستجيب لك أحد من زملائك الكسالى الذين لا خير فيهم أصلاً ، وإلاّ لو كان فيهم ذرة من مسئولية ما صنعوا كل هذه الفوضى ؟ أين عمال النظافة فهم أولى بالأمر منك وهم من تسبب في إحداث هذه المأساة ؟ فإن لم يفعلوا فما عساك أن تفعل وأنت فرد وحيد ؟ أين أوْلي الشأن في إدارة الجامعة ؟ هلا استأجروا عمالاً و لو لوقت وجيز لينظفوا ويزيحوا كل هذه الفوضى حتى تُحلَّ مشاكل العمال ويُنظَر في مطالبهم ؟
كانت تلك الأفكار تتوارد عليه بعنف ، وتتتابع عليه زخاتها بشدة ، وتنزل على رأسه بقسوة كأنها معول هدم لا يرحم ، وهو يقف تجاهها بين إقدام وإحجام ، لا يدري ما يصنع .
أحسّ باليأس قد أفلّ عزمه ، وأوهن قوته ، وأوقعه في حيرة لا يدري لها خلاصاً ، وفي خِضِمّ أمواج هاتيك الأفكار السلبية العاتية ، ألهمه ربه الاستعانة بحبله المتين وركنه الذي لا يُضام ، واستعاذ بالله من شر نفسه والشيطان ، فانفتحت عليه أنوار العزم الرشاد، وأتته جحافل الإعانة والتأييد .
فما كان منه إلاّ أن هبّ واقفاً بين زملائه الذين توافدوا على ساح الجامعة في تلك الساعة ، لم يستحِ حينئذٍ ولم يجدْ فيما يدعوهم إليه أي غضاضة أو خجل ، وراح يستحثّ الهمم ويحفّز العزائم ، مترنماً بآيات القرآن الحكيم ، متغنياً بأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تأمر المسلم في حياته بالنظافة ، وتوجب الترتيب والتنظيم ، وتحثُّ على مكارم الأخلاق .
بدا وكأنه قد ملك النواصي ، واستولى على أفئدة سامعيه ، ولو رأيته وهو يتلاعب بالقلوب ، ويجذب حوله النظرات تتبعها ابتسامات الرضا عن موقفه الشجاع ، ومسلكه الرجولي ، مما جعل زملاءه يهبّون لتلبية ندائه ، مستشعرين عِظَمَ ما يدعوهم إليه .
وفي برهة من الزمن وبتثبيت من الله عز وجل ، وصدق نية ( أحمد ) وعزمه الأكيد استحالت ساعة الظلمة التي تغشّته واستحوذت عليه إلى فيض من الضياء ، وأخذ جميع الطلاب يجمع بأنفس طيبة ما استطاع من القمامات والأوساخ ، وسادتهم روح التعاون والتآزر ، وقد ازدادت فرحتهم أكثر وكبرت غبطتهم حينما كانوا يرون ملامح جامعتهم المعهودة تعود إلى الحياة رويداً رويداً ، وتنقشع عنها ظلامات الوهم والأوساخ .
أحمد ( بعد انتهاء حملة النظافة ) : شكراً لكم جميعاً أيها الإخوة على جهدكم المبذول .
الطلاب : وعلامَ تشكرنا يا أحمد وأنت من نفخ فينا روح المبادرة والمسابقة .
أحمد : ما فعلتُ إلاّ ما أملاه عليّ ضميري وواجبي وما كنت لأنجح لولا تعاونكم .
الطلاب : وما كان لنا أن نهبّ لولا أنك شجعتنا وأوقدت فينا نار العزيمة .
أحمد : بارك الله فيكم جميعاً وأبقاكم ذخراً لأوطانكم ، فبكم تعمر الديار ، وما يزال الخير باقٍ فيكم مهما توهم المتشائمون وظنوا غيرَ ذلك .
الطلاب : نحن على استعداد دائم لتلبية أي نداء تدعونا إليه ، ونخبرك أننا في أتم الاستعداد في حال ما إذا عزمت على تنفيذ أية حملات أخرى ، ولتعلم يا ( أحمد ) أننا رهن إشارتك وقتما تشاء ومتى ما تقرر .
أحمد : شكراً لكم وبارك الله فيكم من شباب ، وما أرى فيكم إلا صدق ما قال الشاعر في شطر بيته الثاني : شباب قنّع لا خير فيهم *** وبورك في الشباب الطامحين .
وفي لحظة سعيدة ابتسم لها الزمن وتضاحكت لها أيامه ، وانقشعت غيوم الكآبة التي طالما حلقت في أجواءه ، وتبعثر الزبد ..
بقلم : أحمد عمر باحمادي