صباح الجمعة وصلت إلى مكان إقامتي بالمملكة السعودية وبادرت بالاتصال على كفيلي ليعلم بتواجدي وأستلم منه إقامتي حسب القوانين المعمول بها .. وفي اليوم التالي جلست منتظرا وصوله دون جدوى , وبعد العصر اتصلت به أسأله عن اللقاء ليقول : " معذرة , ذكرني بكرة الساعة 9 صباحا ونتقابل إن شاء الله " .
وفي مساء نفس الليلة تلقيت اتصالا من أخي يخبرني بوفاة خالي الحبيب " صالح أحمد بن لملس الخليفي " في حادث سيارة على خط الرياض ـ الاحساء .. نزل علي الخبر صاعقا وبدأت التواصل مع الكفيل للسفر من الجنوب إلى الشرق ولكن دون فائدة فهو بعيد واللقاء لاستلام الإقامة ظهر الأحد وموعد القبر بعد عصر نفس اليوم .. يا الله .. كيف الحل ؟ كيف السبيل ؟ الحيرة والعجز تحيطان بي وأجد نفسي محاصرا بقوانين تعيقني عن أداء واجب مراسم الدفن .. ولا أجد أمامي إلاّ واقع الاستسلام التام وبث شكواي إلى الله .
وفي المساء جلست مع نفسي أتذكر خالي الحبيب مبتهلا وداعيا الله له بالرحمة والمغفرة , عادت بي الذاكرة معه فوجدت نفسي تارة ابتسم وتارة تدمع عيناي , ابتسم لما تميز به من دماثة خلق وحب مزاح ينشر به مرحا وانبساطا ويضفي به جوا من الود وعدم التكلف , وتدمع عيناي لعظيم خسارته وعدم تمكني من حضور جنازته . عرفته دائما صاحب خلق وحسن معاملة مع الناس , مرحا محبا لمن حوله , اجتماعيا خدوما لمن ضاقت به الحال , لا يكاد يخلو حدث أو مناسبة إلاّ وتجده أمامك مشاركا فيها بإخلاص , عاش منذ زمن بعيد في المملكة بالمنطقة الشرقية وأحبه الكل بصدق وتلقائية وكسب قلوب معامليه من المواطنين والمقيمين دون تصنع ولا مصلحة ولا مال خالي الحبيب ما عرفته إلاّ مبتسما ضاحكا وقد سكن قلبه الحزن , عرفته متفائلا وفي صدره يعيش الهم , عرفته متواضعا عاديا و على رأسه شموخ العز وتاج الكبريأ .
تغيرت نفوس اناس كثيرين ونفسه الصافية لم تتغير .. تحجرت قلوب بشر وقلبه الرقيق لم يتحجر , تبدلت مفاهيم الزمان ومواقف الرجال وهو مطلقا لم يتبدل , غناه في سعة قلبه وثروته بشاشة الناس به .. كم حاولوا بأموالهم وسلطانهم ومراكزهم الحصول على نصف ما حصل عليه من حب الناس وتقديرهم له في كل مكان , فلم يحصلوا على ذلك من شئ , لأنهم لم يستخدموا اكسيره الناجح وعلاجه العجيب وخلطته الشافية : " قلب محب لا يكره .. صدر سليم لا يحقد .. عقل حكيم لا يشط .. نفس مطمئنة لا تضيق " .
أرادوا ـ يا خالي ـ مكانتك ولم يستعملوا وصفتك وأرادوا صيتك لم يتحلو باخلاقك .. فأنى لهم ذلك ؟! . عرفت خالي الحبيب ساعيا للصلاح في إجازاته باليمن , يقضي وقته يصلح بين المتخاصمين ويحل مشاكل المتنازعين يتمنى في قرارة نفسه أن يكون الناس أخوة متحابين وان يكون المجتمع آمنا مستقرا , يفرح كثيرا بمسعاه إذا نجح فيشعر أنه قد حقق شيئا يستحق التعب , ويسلم أمره لله اذا فشل ويدعو الله بالهداية والصلاح للجميع , وفي رحلته الأخيرة كان محبطا قليلا وأفضى إلي قائلا : " تغيرت النفوس وتبدلت القلوب , لم يعد كبار السن يتحكمون في الأمور لقد فقدوا مكانتهم وحكمتهم , سلموا أمورهم لفتيان صغار يتميزون بالعناد والعصبية والتحدي والرد الجاف العنيف , قديما كان لنا قدر وكلمة فيحترم المتخاصمون رأينا وحكمنا تقديرا لنا ولحضورنا , أما اليوم فالشباب للأسف لا يتمتعون بهذه الصفات بل لديهم وقاحة وتعنت ولا يحترمون رأي أحد .. الله يهديهم , وأردف قائلا والله يا ولدي ان احب يوم عندي هي حين أرى الناس على حب ووئام وخير وسلام , فالدنيا لا تساوي شيئا أمام هذه اللحظات الحميمية الجميلة " .
عرفته صابرا على من أذاه أو اغتابه وكريما متسامحا على كل من ضره أو سعى في شر له , فكم بلغته أقوال وأفعال من أناس تمسه بجرح فلقيهم بعدها مبتسما منشرحا غير حاقد ولا غضبان , عرفته يفرح بنجاح الآخرين في تجارتهم وأعمالهم ودراساتهم ويعده نجاحا له وربما كان له فضل فيه عليهم .
كم رجل جاءه يحمل هموم الدنيا فوجد عنده حلا ومخرجا , وكم شباب طموح يبحث عن مشروع تجاري ساندهم بالنصح او الوساطة او الجاه فلما أغناهم الله من فضله تغير حال بعضهم وعاملوه بعدها بما لا يليق به من رد الجميل والتقدير , فلم يغير ذلك من حبه لهم وحسن تعامله وتواصله معهم شيئا ابدا .
لله درك من كريم عفيف , خالي صنف نادر قل أن تجد له مثيلا أو شبيها .. هو الذهب الذي لا يكسد وهو العسل الذي لا يفسد , ذهب في علو مكانته وبريق حضوره وعسل في حسن معاملته وحلاوة اخلاقه . خالي الحبيب .. سنفتقدك كثيرا فمثلك يُفتقد , فقد كنت لنا نورا في شدة الظلام وأملا في وحشة اليأس وفرحا في تجدد الأحزان ومرجعا في هوج الصبيان وسندا في زمن بيع الضمير وحب السلطان , لقد كنت لنا انسانا ملاكا في عالم أعوان الشيطان . ولن نفتقدك وحدنا يا خالي الكريم , فلكأني أرى جبل " با خديم " وقد سكبت صخوره العاتية دموع الأسى على فراقك ورددت جبال " الحاضنة " معه الأنين , وكأني أسمع أرض شبوة قد ناح ترابها على فقدانك وشاركته رمال اليمن صوته الحزين , وإني لأثق تماما أنه ما من أحد عرفك وبلغه خبر وفاتك إلا وجد في قلبه قرصة وفي حلقه غصة وفي عينيه دمعة ولبسه الحزن والأسى على هذا المصاب الجليل .
ولكننا نعزي النفس بأن يسكنك الله " عليين " وأن تنال أجر الشهداء , فقد قال جمع من أهل العلم المعاصرين أن صريع حادث السيارة يقاس على صريع شهيد الهدم , فأسأل الله أن تلحق بأختيك الشهيدتين وشهداء أهلك وأهلنا والمسلمين .
هذا خالي أعتز به وأفخر حيا وميتا , أشمخ برأسي عاليا بجود أفعاله وكريم خصاله دوما وأبدا .
هذا خالي .. فيا فخر .. ويا سعد .. كل من كان خاله شبيها بخالي .
بقلم : أبو الحسنين محسن معيض