قالها وهو يقصدها .. إلا أنني لم أدرك للوهلة الأولى ما كان يرمي إليه !
حينما كان المسجد مكتضا بالمصلين على غير العادة :
" من بغى با يموت .. يجي لا سيئون "
لم أفهم ما يود الوصول إليه .
لمَ إلى سيئون ؟
هل لخصوبة تربتها ، لعذوبة مائها ، هل لخصوصية تميزت بها سيئون عن غيرها .
لقد قال عبارته ، و هو موقن أن الهدف قد تحقق و أن رسالته قد وصلت ..
حرّكت رأسي مشعرا من حولي بالفهم التام .. نعم نعم
ثم أردف : وين باتحصّل كما ذا الجمع ؟ ناس من كل مكان لي يعرفونك ولي ما يعرفونك !
حينها : تحلحلت كل العقد ، وتلاشت كل علامات الاستفهام ..
يا لنظرة الرجل البعيدة ..
حقا .. إنك في مدينة سيئون وفي كل مناطق حضرموت تجد لمراسيم التشييع لونا آخر و نكهة ثانية
الحزن مخيّم على المكان برمّته ، حتى الذين يمرون من هنا ، يتسربلون حينها بثيابه ..
الموقف موحش .. الكل مطرق برأسه
لا يتذكر الفقيد و أيام حياته و كيف كان و أين صار ، بل يتذكر نفسه ! كيف به لو كان هو ذلك الميت ..
ويأتي " المعلّم " بأجزاء القرآن المتفرقة ( 30 جزءاً ) ليضعها بين الحضور فيتناولونها و يشرعون في التلاوة ، ليكملوا في مجلسهم تلاوة القرآن كاملا ..
بعدها يرتفع صوت المعلّم بما يعرفونه أهل البلد بـ " الوهبة " إذ يهدي ثواب ما تم قراءته من القرآن العظيم إلى روح المتوفّى بصوت مرتفع يردده معه الحاضرون ..
ثم يؤتي بالبخور ، و البن ، و القهوة ، في الوقت الذي يتواد فيه المعزّون إلى بيت المتوفى ليقدموا التعازي
ويواسون أهل الميت ..
وبعد أن يكتمل غسل الميت ـ و غالبا ما يكون في بيته ـ تقرأ الوهبة الأخيرة و الدعاء الذي يختم بقراءة الفاتحة
يتوجه بعدها الموكب الجنائزي وسط خشوع الجموع وصمتهم إلاّ من ذكر الله و الصلاة على الرسول الكريم و الاستغفار و الدعاء بخير لصاحب الجنازة ،
يتدافع الناس للمشاركة في حمل النعش طيلة الطريق حتى يصلون إلى المسجد الذي قد امتلأ أيضا بالمصلين الذين توافدوا من خارج البلدة و المتأخرين ..
تتقدم الجنازة ، و ينهال بقية الناس على أهل الميت يقدمون إليه التعازي وهو في طريقه إلى الصف الأول ، ثم يستكملون ذلك عقب الصلاة على الجنازة .. في تدافع غريب وحرص عجيب ياله من منظر مهيب ..
المسجد ممتلئ تماما بالمصلين الذين يتلون القرآن و يهدون ثوابه للميت ، و منهم من يدعو له بالرحمة و المغفرة ..
يا لسعادته و يا لهنائه .. حينها تعجبت من قول ذلك الرجل : من بغى بايموت .. يجي إلى سيئون !!
ومن المسجد إلى المقبرة يسير الموكب الجنائزي المهيب مرة أخرى فتتوقف حركة السيارات ، و يقف الجميع هيبة لمرور الجنازة و ألسنة ( حُمّال النعش ) تتناوب الذكر و الاستغفار ، و من خلفهم يتمتم المشيّعون و تستقر الجنازة بالقرب من بيت الدود يالها من حالة ! يستشعرها كل الحاضرين من الأحياء " كل نفس ذائقة الموت " وتبدأ مراسيم الدفن ويشرع " المعلّم " في الوهبة و قراءة القرآن من جديد ، ويختم بجزء و الضحى ـ كما يسميه ـ يقرأه مع من هم بجواره في المجلس سورةً سورة .
ثم يشرع في الدعاء الأخير ، فتلقين الميت الشهادتين في قبره ، و الدعاء له بالثبات حينما يسألاه الملكان الموكلان ، عن ربه و عن دينه و عن نبيه ... بعدها ينفض المجلس ، فيتفرق الناس وقد أخذوا درسا عمّليا في الوعظ و التذكير في وقتنا الحاضر و في بعض مراسيم التشييع لازال بعض المصلين يعتبرون ذلك مجرد أداء لواجب فيؤدونه صافيا صرفا .. خاليا من مشاعر الرهبة و الهيبة و الحزن فتجدهم يعيثون في حطام الدنيا بصوت يسمعه الميت .. غير مكترثين بما يدور إنك ميت و إنهم ميتون ..
بقلم : نزار باحميد