قاسم الحالمي شاب ثلاثيني يسكن في بيت من دورين , في الأول أبواه وأخوه الأصغر , وهو في الدور الثاني مع زوجه وأولاده الثلاثة .
كان الوقت ليلا حين جلسوا في صالة المنزل بعيدا عن الغرف الأمامية , كان ( عمر ) يذاكر في مناهج الصف التاسع , وسعاد ( 10 سنوات ) ترسم كل ليلة لأخيها سالم ( 6 سنوات ) في دفتره رسوما يحبها كثيرا . ومع سماع دوي انفجار بين حين وآخر كانت الزوجة تنتفض ويدها على صدرها يا لطيف ألطف بنا .!
كان منزلهم على بعد 3 شوارع من معسكر للجيش , والمدينة تشهد توترا بعد مقتل مواطن وجرح آخرين في مواجهة بين عسكر ومتظاهرين , وتلاها هجوم مجهول على نقطة عسكرية ومقتل 3 جنود .
قالت الزوجة : ـ كم أخاف أن تصيبنا قذيفة ! ـ يا أم عمر نامي ولا تخافي هؤلاء مدربون على تحديد المواقع ولن يطلقوا على البيوت عمدا . وفي الصباح خرج قاسم لعمله مدرسا اللغة الانجليزية بالثانوية . وفي الاستراحة يجتمع المدرسون معا للإفطار , كانوا اليوم 5 فقط ! قاسم وعمار العديني وشوقي الجبيري ومهيوب الحوباني والوكيل فاضل السعدي , ومعهم يفطر اليوم الجندي حزام الذي يأتي بين حين وأخر زائرا لقريبه عمار . وقاطعا الصمت قال عمار ـ الله يستر على الناس في هذا الوضع ؟ فرد قاسم : ـ الوضع مأساوي لأن هناك من ينفخ في جمرات خامدة كي تشتعل . ـ نعم لقد اختلط الصالح بالطالح والمخلص بالمنتفع وللأسف يدفع الثمن نحن وانتم , هكذا قال مهيوب . ـ يا جماعة أنا جندي هنا منذ عامين وخلالها لم أر في المظاهرات كراهية لنا . لكن هناك وجوها بعينها نراها دائما تسعر الوضع نحونا ونحو كل ما هو شمالي !. ـ ولكن هناك منكم من يتعالى على الناس ويسيء معاملتهم ! قال شوقي ذلك بقوة لحزام . ـ صدقت وهم يخرجون عند الأزمات ليزيدوا توترها وربما بأوامر عليا . ـ وتدخل الوكيل قائلا : العملية تكاملية .
ـ كيف ؟ تساءل قاسم ـ اقصد أنها من نصفين هناك نصف يؤديه مندسون محترفون وفق مخطط سياسي مرسوم , يهاجمون جهة محددة بالسلاح أو بغيره , ويكتمل نصف المخطط بالرد العسكري الموجه العنيف . ـ هل تقصد أنهم يتواجدون في كل مكان ويحركهم كيان واحد. ـ بل يحركهم حلف من فاقدي منابع رزقهم وقوة سلطتهم , وللأسف يعود الضرر على الصادقين في كل جهة . ـ يعني مشكلتنا تكمن في كبار فاسدي الوطن سياسيا وعسكريا وقبليا ومناطقيا وتوابعهم , وهم يحققون حماية مصالحهم بزيادة الوضع اشتعالا , ويسرحون في الوطن دون عقاب . ومع فجر اليوم التالي دوت قذائف من المعسكر القريب واستيقظ قاسم وأهله مرعوبين يتصاعد من حولهم غبار ودخان وتعالت أصواتهم تطمئن بعضها , ومسرعا ذهب لغرفة أولاده ليجد عمر وأخته قد خرجا ملطخين بالدم والتراب .
صرخ الأب ملتاعا : أين سالم ؟ لم يرجعا له بجواب كانا يرتجفان ومن عينيهما تقفز أبشع صور الذهول والرعب .
ودخل الأب الغرفة وكانت الرؤية شبه معدومة والرائحة تزكم الأنوف , وعلى ركبتيه حبا كطفل صغير نحو موقع فراش ولده . وحمله خارجا وهو محتضن بقوة دفتر رسومه مفتوحا على صفحة ملطخة بالدم والتراب , وفيها ما رسمته أخته البارحة له فبات بحب يحتضنها " علم الوطن يحمله عصفوران ويهاجمهما خفافيش سود يتقاطر من أنيابهم ومخالبهم دمهما النقي الطاهر " .
وفي عصر ذلك اليوم وقف قاسم وأبوه وأخوه يتلقون العزاء على قبر ولدهم , ومعهم وقفا يتلقيان العزاء زميله الأستاذ عمار وابن عمه الجندي في المعسكر القريب ( حزام ) .
بقلم : ابو الحسنين - محسن معيض