تحت الركام .. قصة أدبية تحكي بعضاً من مُعاناة شعب

قبل أربع سنوات ونصف تقريباً, عادت الأفراحُ إلى منزلنا بعدَ طول غياب.. حينَ أنجبتْ أمي ملاكاً صغيراً..

لم نجد لها أسماً يليق بها سوى "ملاك" .. فقد كانت جدّ جميلة..!

وفدت ملاكُنا بعد اثني عشر عاماً من الانتظار.. حيث أوهم الأطباء أمي أنها غير قادرة على الانجاب مجدداً.. كانَ قُدومها كالمُعجزة التي فجرت ينبوع سعادةٍ في منزلنا المتواضع..

نظرتْ أمي إلى مَلاكها وهي تكمل عامها الأول.. ثم قالت تخاطب والدي بحماسه:

- تُرى.. من أين أخذت ملاكنا كل هذا الجمال؟..

نظر إليّ والدي وغمزني قائلاً:

- بالتأكيد من والدها..!

انفجرتُ ضاحكاً.. فنظرت أمي إليّ شزراً وكأنها تقول ‘كل الرجال مثل بعض‘! ثم رفعت حاجبيها وهي تداعب خصلات ملاك الصغيرة..

لطالما سمعتُ نسوةً من قريباتنا يشكين لأمي غيرة أبنائهم من بعض.. وكيف يتشاكسون فيما بينهم بدافع الغيرة من الوافد الجديد..

لكنّي لم أعتبر ملاكي يوماً سوى قطعة من حياتي وروحي.. حتى أنّي تصارعتُ مع أبي فيمن يأخذها في جولة يوميّاً واتفقنا أخيراً أن يأخذها يوماً وأنا في اليوم الذي يليه..!

والدي مهندسٌ ميكانيكي.. وبسبب الحصار المُطبق علينا فقد ضَعُف العمل, فأصبح والدي يجد عملاً في يوم بينما يفقده أياماً اُخر.. لكنني لم أجده يوماً قاعداً يتأمل الحائط.. أو ينظر في قارعة الطريق.. كان لا يعود إلى المنزل إلا ليأخذ ملاك في نزهة بيومه المحدد.. وعندما أسأله أين كنتَ يجيبني:

كُنت أعمل مع الله يا بُنيّ ..!

والدي استُشهد في الحرب السابقة..

عانينا الأمرّين بعدَ ارتقائه.. رُغم أن أهلنا وأبناء حيّنا لم يقصروا في مساعدتنا على تجاوز الأزمة..

ورغم أنه كانَ قليل المكوث في المنزل.. إلا أنّه ترك فراغاً كبيراً برحيله..!

كانت ملاك ببرائتها تُسلّي عنّا بعضَ الألم..

من أراد أن يَعْرفنا فليسأل شاطئ غزة الذي أصبحَ منزلاً آخراً لي ولملاكي..!

فكلما أخذَنا الحنين إلى والدي ذهبْنا إلى هناكَ نبني منزلنا الذي سنعيش به معاً (فوق) كما تقول ملاك..

لكنّني غاضبٌ منها!.. ففي كلّ مرةٍ نبني منزلاً من الرمال تختارُ لوناً مختلفاً لغرفتها.. أحمر.. أخضر.. وردي.. أصفر.. بينما لا تسمحُ لي إلا بغرفةٍ بيضاء..! وعندما أعترضُ تقولُ:

إن شئت فاربط شريطة والدي الخضراء في أعلى غُرفتكَ..!

إنّك حقاً خطيرة يا ملاكي الصغيرة!

إنّ انشغالي في مُعترك الحياة لمْ يُنسني قضيتي وديني.. فقد تتجاوز عنّي أمي إن تغيبتُ عن المدرسة يوماً لظرفٍ ما.. لكنّها لن تغفر لي إن تغيبتُ عن حلقة القرآن أو الحلقة التربويّة..! فالطفل في بلدي حينَ يُولد يوضع حول عُنقه مُجسم الأقصى.. لعلّه يكونُ صلاح الدين القادم..! لقد اُشربنا ذلك من المَهْدِ..!

ذهبنا أنا وملاكي كالعادة إلى الشاطئ.. وبنينا بيتنا المعتاد.. لكنّها هذهِ المرّةَ اختارتِ اللونَ الأبيضَ لغُرفَتها ومنحتني حُرّيةَ الاختيار..!

فكّرتُ مليّاً ثم قلتُ:

إنّني اختار الأبيضَ حتى تُصبح غُرفتي جميلةً كغُرفتِك.. ابتسمت ملاكي بسعادةٍ وانعكست أشعةُ الشمس على صفحة خدّها المتورّد الصغير.. فمَنحْتُها قُبلةً ومددتُ خدّي إليها قائلاً:

قبّليني أيضاً..

أشاحت بوجهي بعيداً بيدها الصغيرة وأسرعت تركضُ وهي تضحكُ قائلةً:

لن أقبّلك حتى تُصبِحَ مثل بابا..!

"لقدْ أبهضتِ الثمن يا أختاه!

في طريق عودتنا لمْ نكُنْ نعلَمُ أنّه آخر يومٍ نَمضي فيه سويّاً إلى الشاطئ.. ففي المساءِ سمِعْنا بخبر استشهادِ الطفل (محمد أبو خضير) في القدس..

أَحْسبُ أنّ هذه أسرَعُ فترةٍ مرّت في حياتي رُغم بُطئ لحظاتها..

فَرُغم أنّ كُل ثانيةٍ كانت كالسنين.. إلا أنّها تمُرّ في مُخيلتي الآن كَلَمْح البصَر..!

فبدون سابق إنذار.. وكأن عدونا الأبديّ ينتظر هذه الفُرصةَ بفارغ الصبر حتّى ينقضّ علينا بمخالبه..!

بدأ القصفُ يمطرنا من كل جانب..

كانَ صوتُ القصف مرعباً.. لكن الأكثر رُعباً هو رائحةُ الموت تنْبعِثُ من كل مكان..

لنْ أنسى تلكَ الليلة التي قُصِف منزلُ جارنا.. فهرعنا خائفين نهيمُ في الحيّ حتى اهتدينا إلى منزلٍ يَبْعُد عدةَ أميال..

كنتُ أرجف خوفاً..بينما ملاكي تتنفسُ بقوةٍ وهي تُصدر صوتاً.. كانتْ خائفةً بشدّة..

ضمّتنا أمي وهي تقول بصوتِها الهادئ المُعتاد:

"لا تخافوا.. مافي شي بخوف.. الله معانا.."

أمي.. يا روحَ الطُهر.. لم تجدي من يواسي آلامك المُتعاقبه لكنّ صوتكِ مازال ثابتاً كالصخر.. لقد أخجلتِ الرجولة يا أماه..

مكثْنا في ذلكَ المنْزل ثلاثة أيام ونصفُ اليوم.. كنتُ أخرج بين الفينة والأخرى مع بقية الشباب والفتية كلما هدءَ القصفُ حتى نتفقّد ونُنقِذ.. أما أمي وملاكي فكنّ كالممرّضات في المنزل.. فكلما دخل أحد الشبان منادياً:

يا أم فُلان.. أبشري فقد ارتقى ابنكِ

يا ابنة فلان.. أبشري فقد استشهد والدك..

تُسارع أمي لتثبيت النسوة ومواساة المكلومات.. ولا نسمع ساعتها إلا صيحات التكبير تهز المنزل..

 في منتصف اليومِ الرابع من نزوحنا.. سمعْنا عنْ هُدنة مؤقته.. فقررنا أن نذهب معاً لتفقّد منزلنا.. لكن إحدى النساء قاربت على الولادةِ فآثرتُ أن تُرافقها أمي ونذهبَ أنا وملاك وحدنا.. ورُغم نظرة القلق بعيني أمي إلا أنّي طمْئنتُها بسريان الهُدنة لن يحْدُث إلا ما هو مقدرٌ لنا.. ولخشيةِ أمي أن تنصدمَ ملاكنا حينَ ترى الدمار اقتربت منّا وهمست:

"اللي يتهدّم بيتو الله بيحبو لا تنسوا هذا"

أمام منزلنا وقفنا مشدوهين.. جميعُ المنازل المجاورة قد قُصفَت وتضرر منزلنا فقط..!

تساءلت ملاك ببراءة:

"ليش بيتنا لسة قائم؟!! الله غاضب علينا؟..

كانت ملاكي خائفة.. ولأول مرة أراها خائفة بهذا الشكل..حيثُ كانت تُمْسكُ يدي بقوة ورفضَتْ أن تترُكها بتاتاً!.. حتى أنّي واجهتُ صعوبةً في لمِّ ما نحتاجهُ من أغراض بالغة الأهمية..!

في لحظة غضب.. قطبتُ حاجبيّ وهممتُ بأن ألتفتَ صارخاً في ملاك حتى تمنحني بعض الحُريّة.. لكن في جزء مُتجزّء من الثانية.. أصبحتُ غير قادر على الحراك!..

إنّ السماءَ قد انطبقتْ عليّ ..!

هذا أبسطُ وصفٍ لما شعُرتُ به ساعتها..

ملاكي.. أين ملاكــــــــــي!

حاولتُ أن أعيد لأطرافي بعضَ الإحساس والتمستُ بجوارحي ما حولي.. آه لا أزالُ مُمسِكاً بيدها.. أشكركِ يا حبيبتي حين لم تُفلتيني أبداً.. لعلّ هذا يبعثُ في قبلها الطُمأنينة!.. حاولتُ فتحَ فمي لمُناداتِها.. أو لإصدار الأنّات حتى!.. دخل التراب إلى فمي وكدتُ أختنق..

نعم.. لم يكنْ هناك أدنى ثُقبٍ ليدخل منه الهواء.. لكنّني حينها كدتُ أختنقَ!..

لذلك حاولتُ جاهداً أن أضغط على يدها لتعلَم أني معها لكنّ يدها لم تتحرك لحظةً واحدة!

لو سألني أحدهم كيفَ قضيتَ وقتك.. لن أعرفَ بماذا أجيب. جُلّ ما تمنيته ساعتها شيخٌ لأسأله كيف أصلي بينما لا أعلم ليلاً من نهار.. ولا أستطيع تحريك جزء مني حتى عينيّ..!

لاحقاً أخبرتُ أنني مكثتُ يومين كاملين تحت الركام!

في صبيحة اليوم الثالث.. تمكنتْ طواقم الانقاذ والمتطوعون "وكلّهم فدائيون" أن يصلوا إلى المنزل ويزيلوا الركام بحثاً عن ناجين واستخراجاً لاجساد الشهداء الطاهرة.. وكان الخطرُ محدقاً بهم في كل لحظة..

حينها فقط عدتُ إلى الحياة وكان أول شيء سمعتهُ:

"طلّعنا شاب ويد طفلة!

صرختُ: ملاك.. ملاكـــي.. كدتُ أن أقع من الحماله وسعلتُ بشدة إذ فقدتُ صوتي لطول مكثي ودخل التراب إلى جوفي.. لكنهم ثبتوني في الحماله.. ونزعوا يد ملاكي من يدي.. فلا وقت لمواساة أحد في هذا الظرف الرهيب..

إذاً.. فأنا من كان مطمئنّا طيلةَ الوقت وأنا أتشبثُ بيدها..!

 نُقلتُ إلى المشفى الذي يعجّ بالإصابات والجرحى والشهداء.. ومن حُسن حظي أن وجدتُ سريراً خالياً فهناك من ضُمدت جراحهم في الممرات..

كنتُ أتلفتُ علّي أجدُ أحداً أعرفه فأتثبت خبرَ ملاكي.. ما هي إلا دقائقُ حتى وجدتُ أمي مهلوعةً تنتقلُ من سرير إلى آخر.. مؤكد سمعت بخبر نجاتي..

صرختُ أمي لمحتني هنيهةً وابتسمت كأن روحها قد عادت لكنّي بصرتُ نظرة ألم غائرة ودمعةً أوشكت على السقوط.. فجأةً جسدُ أمي بدأ يتهاوى أمام ناظريّ..

أختي وحبيبتي .. وصديقتي الأبدية (ملاك).. كُنتِ منحةً من الله لنا تُسلّي عنّا فقدان الأب.. لكنّهم سرقوا براءتك وطفولتك.. ووطئوا عليهما بثُقلهم فلم يتحمّل جسَدُك الضعيف كل ّ ذلك العذاب..

تُرى.. ماذا تفعلينَ مع والدي الآن؟.. وكيف كانَ اللقاء؟!

تُرى.. ما لون غُرفَتك يا ملاكي؟! إنني الآن في غرفة بيضاء كما توقعتِ..

بدأتُ أشفى تدريجياً من أصاباتي ولعلّ جُرح القلب لن يُشفى إلا بالقصاص.. لم أفقد ملاكي فقط بل فقدتُ إحدى قدميّ أيضاً.. إذْ سقطَ أغلب الثُقل عليها وبُترتْ..

راودني تساؤل عصر قلبي ألماً.. كيفَ سأنتقم؟!

يسّر الله خروجي من المشفى سريعاً ليتم الاعتناء بي في منزل جدي الذي انتقلنا إليه بعد قصف منزلنا.. وهناك تماثلتُ للشفاء شيئاً فشيئاً..

كان هذا المنزلُ مهدداً بالقصف في أي لحظة.. فليس لك مكان آمن في بلدتي الآن سوى أن تكون مع الله ليُصبح الأمان موطنكَ..

وعدني قريبٌ لي أنه ما إن ينتهي العدوان حتى يأخذني إلى الخارج لأحصل على قدم اصطناعية.. أظهرتُ امتناني وسعادتي.. بينما تمتمتُ:

أريد أن أموتَ شهيداً يا قريبي.. لا أن أموتَ على الحدود في انتظار الفرج!..

أخذتُ عكازي وحاولتُ السير وحدي جيئةً وذهاباً في الغرفة حتى أعتاد على ذلك.. من ثم دخلتُ غرفة المعيشة.. كانت أمي تجلس في ركن الغُرفة تضع يدها على خدّها وتنظرُ في الأفق.. وفي عينيها همٌ كالجبال ظاهرُ المعالم.. اقتربتُ منها.. نظرت إليّ وأنا أخطو كالطفل!.. كادت أن تبكي لكنني بادرتُها قائلاً:

" لا تبكي يا أماه.. فوالله لأطأنّ بعرجتي هذه الأقصى " ..!

بقلم :خديجة بابطاح

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص